سيرك البراغيث

ظهر سيرك البراغيث في إنجلترا وألمانيا سنة 1830 على يد صانعي الساعات والمجوهرات لعرض تُحفهم الصغيرة. ثم قام الإيطالي لويس بيرتولوتو بتحويله إلى سيرك، تقدم البراغيث من خلاله ألعابا استعراضية متنوعة. وذاع صيته في أنحاء أوروبا قبل أن يختفي بشكل نهائي في حدود سنة1960. كان فضاء السيرك في غالب الأحيان مجرد علبة سجائر، توضع فيها البراغيث لتتكيف مع الحيز المتاح، وتفقد قدراتها المدهشة على الوثب، والتي تصل إلى أزيد من مئتي ضعف طولها، لتكتفي بوثبات تلامس الغطاء العلوي للعبة.

طبعا تختلف أدمغة البشر عن أدمغة البراغيث، لكن تكوين العادة التي يتحدد بموجبها ارتفاع الوثبة أمر يتعرض له البشر أيضا، حين يوضع غطاء لحياتهم وقدراتهم، فيصبح العالم الفسيح علبة ضيقة الأفق، تُلزمهم بخفض الأداء.

يُشار دوما للأسرة باعتبارها نواة المجتمع، لكن هذه النواة حاضنة لعدد من الممارسات والسلوكات الخاطئة تجاه الصغار، ومن بينها الحد من انطلاقهم في الحياة، وكشف إمكاناتهم الحقيقية. نعم هناك قواعد للتنشئة، وتدريب على القيم والتفاعل مع المحيط الاجتماعي، لكن قسطا كبيرا من التربية يفرض نزع غطاء العلبة والتشجيع على الوثب الحر. فنحن نريد لأطفالنا أن يبلغوا الطول الكافي ليروا ويطلعوا على بقية العالم، وأن تنبت لهم أجنحة تُمكنهم من بلوغ ذلك الجزء منه، يقول خبير العلاقات الأسرية ريتشارد إير.

تنشأ داخل العلاقة بين الآباء و الأبناء مساحات معتمة من عدم الفهم وسوء التصرف. ويفضي الأمر في غالب الأحيان إلى تنشئة نماذج مقلدة، تتجنب المغامرة والانطلاق، وتستسلم للانتظار والتلقي السالب للمتغيرات. لذا فمن مفاتيح التنشئة السليمة أن يقف الآباء على الإمكانيات الهائلة التي يزخر بها عالم الطفولة، وأسلوب الأبناء في التعبير عن حاجات من قبيل: الاستقلال والحرية والابتكار، خاصة في السنوات المبكرة.

إن بلوغ الانطلاق المنشود يتأسس بداية على فهم الطفل، ومعرفة دوافعه ومحركات سلوكه. ويترتب على ذلك تحديد نوع الشخص الذي نريده. وبما أن أهم سمات العالم الذي نعيشه هي التغير والتجدد المستمرين، فإن الغرض الأول للتربية ينبغي أن يُوجه أساسا لعوامل الثبات ممثلة في : القيم، والثقة بالنفس، والإيمان بالحياة. وهذا يقتضي من الأبوين تحديدا مراعاة التوازن بين متطلبات نمو الطفل وتدخلهما المفرط في شؤونه. بمعنى ألا تكون حماية الطفل مبررا لوضع حدود ذاتية تنتزع حريته.

يبدأ إخفاق الأبوين في تربية الطفل المنطلق منذ سن مبكرة، حين يحددان للطفل قائمة الأعمال التي ترضي المجتمع، وتلك التي تجلب سخطه. صحيح أن لهذا التوجيه دورا في تكوين شخصيته الاجتماعية، إلا أن له أثرا سلبيا على ما يسميه الدكتور عبد العزيز القوصي بعاطفة اعتبار الذات. فحين يُكون الطفل فكرة عن نفسه مشتقة من رضاء المجتمع أو سخطه، ينضم لقافلة المقلدين و المحافظين على العادات والتقاليد، حتى مع تشكل قناعة لاحقة بفسادها. بينما المطلوب أن نرتقي بأدائه ليعمل لأجل مبدأ، أو تحقيقا لغرض خاص، بصرف النظر عما قد يعترضه من مضايقات. وهذه هي عادة الأنبياء و الحكماء، وقادة الإصلاح الاجتماعي عبر التاريخ.

يُمهد اعتبار الذات لمفتاح ثان للانطلاق، ينبني على التجاوب مع شعور الطفل بالمسؤولية؛ هذا الشعور الذي يعد دعامة للاستقلال واحترام النفس، والقدرة على اتخاذ القرار. وهو شعور يتلقاه الطفل من والدين يُحسنان تدريبه على مجابهة المواقف الجديدة. إلا أن أغلب الأسر تميل إلى تركيز المسؤولية في يد الأبوين أو أحدهما، فيُحرم الطفل منذ سن مبكرة من ممارستها في اختيار ملابسه ولعبه، وتأسيس صداقاته، والقيام بجزء من أعباء المنزل.

تضمن المسؤولية إحساسا متزنا بالذات، واهتماما بالغير تمتزج فيه المحبة بالالتزام. كما تنمي خبراته حول التعاون و الاعتماد على النفس. فالطفل الذي تتاح له فرصة تأكيد حضوره داخل الأسرة كعضو عامل، تتعزز ثقته بنفسه، ويتعود مجابهة المواقف الجديدة وما تقتضيه أحيانا من أداء يتسم بالابتكارية. وهنا يصبح دور الوالدين هو توسيع دائرة المهام وتنويعها، ومنح الصغار فرصا يومية لاستعمال قدراتهم واكتشاف ميولهم بما يتناسب بطبيعة الحال مع سنهم ونموهم الجسدي و العاطفي. سُئلت إحدى الأمهات عن سر الجو العائلي السعيد الذي تنعم به أسرتها فأجابت ببساطة: ” إن كلا منا يقوم بنصيبه، هذا كل ما في الأمر! فليس بيننا سيد ومسود لأننا نعمل جميعا متعاونين”.

حين تدار البيئة المنزلية وفق نمط تشاركي يقوم على توزيع المهام و الأدوار، فإن الطفل يتجاوب لاحقا مع أسلوب الحياة الديموقراطية، ويحرص على تنفيذ التزاماته ضمن مستوى معين من الإتقان. وكلما كانت الأسر على وعي بأهمية الشعور بالمسؤولية لدى صغارها، زادت مساحة الحرية التي يتطلبها تكامل الشخصية، و القطع مع مظاهر الاتكالية والغش.

وعلى ذكر الحرية فإن الشرط الثالث لبلوغ الانطلاق لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن الفهم العميق لدورها في إبراز الذات والكفاءة و اتخاذ القرار. فالحماية العاطفية التي يُبديها الأبوان تجاه الطفل لا تتحقق بالسطو على حريته وتقييد سلوكه، ولا تعني أيضا التساهل الزائد. إن ما نقصده بالحرية هو الوعي بالدوافع التي تسيطر على سلوكه، وتمكينه من تصريفها ضمن إطار من التوجيه و التشجيع و الصبر على الأخطاء.

تُولّد حرارة العاطفة إذن اتجاهات والدية تتراوح بين الضبط المتشدد والتساهل. بيد أن ما يحتاجه الطفل هو تحريره من المعيقات التي تتضمنها رؤيتنا الخاصة للأشياء، أو توقعاتنا التي ليست بالضرورة متكافئة مع أدائه ونموه وميوله. إن الطفل لا يولد سلبيا بل يصير كذلك، فكبت حريته يحرمه من خبرات كبيرة تتعلق بالحركة والاستكشاف والفضول. كما أن الأسلوب المقيد لنشاطه يؤدي إلى وقوع الطفل في تناقض بين ما تمليه دوافعه وبين الخوف من العقاب، ويترتب عن ذلك صراعات قد تدمر نموه النفسي.

إن الحرية الحقيقية التي ينبني عليها انطلاق الطفل وحسه الابتكاري هي حرية الفعل وحرية الخطأ. عن طريق الفعل يتعزز إحساسه بالسيطرة والتمكن، ويسعى لتأكيد قوته داخل محيطه. وبالتزامن مع الفعل تنمو مشاعر الذنب حين وقوعه في الخطأ، فتبرز القيم والضمير كعناصر موجهة لتصرفاته وأفعاله. أما الحماية المرجوة من الأبوين، يقول ريتشارد إير، فليست فقط حمايته من الأذى و الخطر الجدي، بل كذلك من الغباء، وضيق الأفق، ومحدودية التفكير!

ليست مفاتيح الانطلاق الثلاثة سوى لبِنات تُمهد لتربية متجددة، لا تكف عن السؤال وهز القناعات السالفة؛ خاصة في ضوء ما تُمدنا به البحوث والدراسات المتواصلة عن عالم الطفولة. إن مهمة الكبار اليوم هي أن يعلموا الطفل كيف يعيش في عالم متغير، وكيف يستدعي إمكاناته وقدراته، ويتحرر من مخاوفه.

أطلق براغيثك ودعها تلاحق أحلامها، فهناك الكثير مما يمكن اكتشافه وتعلمه !