أربعُ قصص للأطفال تنشرها «الأسرة» لجيل المؤسّسين في «يوم الطفل»

دأبت أسرة الأدباء والكتاب في البحرين على نشر عدد من الإصدارات السردية، لكن الجديد هذه المرة هو إصدار أربع قصص للأطفال، لأربعة من الكتاب، من جيل المؤسّسين لأدب الأطفال في البحرين. وتأتي هذه الخطوة، في اليوم الذي يحتفل فيه العالم بيوم الطفل العالمي في العشرين من نوفمبر. وهي خطوة رائدة تقوم بها الأسرة؛ لتعريف القراء، سواء داخل البحرين أو خارجها، بنماذج من الكتابات البحرينية الراقية في هذا المجال. أول ما لفت انتباهي في الإصدارات التي صمّمها الفنان يوسف القصير، هو حجم الورق المستخدم، والمصمَّم بشكل أفقي، وهو حجم غير مألوف، مع أغلفة ذات ألوان باهرة، وكأن الناشر يريد أن يوصل رسالته باكرًا، بأن هناك احتفاءً خاصًا بهذه الإصدارات الأربعة. وتأتي القصص في طبعة ثانية؛ وهي إشارة إلى أن ما تم نشره هو من أفضل ما قدّمه المؤلفين من نتاج.
(حرف ج) لعبدالقادر عقيل
القصة الأولى تحت عنوان (حرف ج) للكاتب عبدالقادر عقيل، وهو أول من نُشرت له قصة للأطفال في البحرين في العام 1977. ورغم أن عدد كتاب أدب الطفل زاد بشكل تدريجي بمرور السنوات، إلا أن شرف قص الشريط له شأن خاص.
عنوان القصة لافت جدًا؛ فما هي قصة هذا الحرف؟ الذي لا يبدو أنه مجرد حرف، إذ أن له عينان، وهو يتحرك بدلال، ولونه بنفسجي جذاب. القصة ترويها فتاة اسمها روان، تعيش تجربة أختها مرام مع الحمل، نعم مع الحمل، وهو موضوع لم أجد في أدب الأطفال المحلي من تناوله، وكأن الكاتب كما افتتح الكتابة للأطفال في البحرين، ما زال يفتتح المواضيع غير المطروقة مع كل تجربة.
ولو أخذت نظرة على أدب الأطفال اليوم، سواء العربي أو الأجنبي، فإنك ستجد أنه بدأ يقتحم جميع الموضوعات التي كانت حكرًا على الكبار، والفرق فقط في أسلوب التناول، مع مراعاة الفئة المستهدفة، فكل الموضوعات بالإمكان تناولها، ولكن بأسلوب مبسط ومحبب.
عندما أمسكتُ القصة لأول مرة لأطّلع عليها، تركتْ ابنتي ذات الثمان سنوات ألعابها وجلست بالقرب مني وسألتني باندهاش: «ما هذه القصة؟!»، وأتصور أن الذي جعلها تترك ألعابها وتقبل على مادة ورقية مطبوعة، هي الصور اللافتة التي تشير إلى موضوع لافت.
فموضوع الحمل والولادة، ورغم كثرة أسئلة الأطفال عنه، وفي وقت مبكر من أعمارهم، إلا أنه ظلّ موضوعًا مسكوتًا عنه تارة، أو تقدم عنه إجابات متوارية أو خاطئة تارة أخرى، وفي أفضل الحالات ستجد الإجابات في كتب علمية جافة.
الكاتب يدخل هذا الباب بروح ملؤها الجمال، يحفه اللون البنفسجي الجميل، مع استخدام عبارات قصيرة ملونة بالروح الطفولية، خصوصًا أن الكاتب استخدام تقنية الراوي بضمير المتكلم، فهو يتكلم على لسان الطفلة من خلال قاموسها الخاص، ورؤيتها الخاصة. مع حضور جميل للحرف (ج)، المرسوم بكيفية محببة، والمقدم كشخصية من شخصيات القصة.
بطلة القصة تجد أن بطن الحامل يشبه الحرف (ج) والنقطة هي الجنين، كما أن كلمة (جنين) تبدأ بذات الحرف. وما يزيد الحبكة روعة هو الحديث الحميم بين البطلة والحرف (ج)، الذي يدور حول مراحل تطور الجنين، العضوية والحركية. وتنتهي القصة بمشاعر مرهفة عند روان، التي بدت في المشهد الأخير مغمضة العينين، تتخيل نفسها بعد سنوات، عندما يكون بطنها مثل الحرف (ج).
لا يمكن فهم ما يرمي إليه الكاتب بمعزل عن نتاجه السابق، فهذه القصة ليست قصة علمية، وليست قصة للتسلية، وإنما تنطلق من رؤية فلسفية عميقة لدى الكاتب، تقدس الأسرة وتقدس العلم، كل ذلك في خضم النظريات المتكاثرة التي تملأ الأجواء، في ما يتعلق بتشكيل الأسرة، والنظرة الاجتماعية لهذه الخلية الأساسية المكونة للمجتمع.
ثم إن اهتمام الكاتب بإعطاء البطولة في أغلب قصصه للشخصيات الأنثوية، هو من ملامح مشروع الكاتب، الذي يقدّم الفتاة كرائدة وقائدة.
والمتابع لنتاج الكاتب سيرصد مشروعًا ثقافيًا واضح المعالم، قائمًا على تحبيب اللغة العربية للقارئ. ستجد كيف أن الكاتب ومن إصداره الأول (من سرق قلم ندى؟) في العام 1977، إلى إصداره الأخير (روان والألوان) 2017، يسعى لربط القارئ باللغة العربية، من خلال الكشف عن جمالياتها.
قصة (الحرف ج) هي بالأساس واحدة من ضمن ثمان وعشرين قصةً للأطفال حواها كتاب (روان والحروف)، وهو الكتاب الذي يحوي قصة لكل حرف من الحروف الأبجدية، وكل قصة تصلح لكي تنشر على حدة. بعد قراءتي للقصة، أشك أن تكتفي بقراءتها الفتيات، بل سيتشارك في الاستمتاع بها كل من يحب اللون البنفسجي.
(أجمل من قوس قزح) لخلف أحمد خلف
القصة الثانية هي للكاتب خلف أحمد خلف، والتي تصدمك مباشرة من العنوان؛ لتتساءل: ما هو هذا الشيء الذي هو (أجمل من قوس قزح)؟ مع صورة الغلاف التي يظهر فيها عصفور ملون بألوان بهيجة.
في القصة بإمكانك أن ترصد خطوطًا متوازيةً، فهناك خط يبدأ من لحظة تكسّر قشرة البيضة وخروج العصفور، وينتهي بتكوين ذات العصفور لعش جديد، لتكون فيه بيضة جديدة.
وهناك خط يبدأ من محاولة فهم الذات، ويمر بأسئلة محيرة، إلى أن يصل الطائر إلى مرحلة الرضا والقناعة.
وخط آخر يسير على سكة الحب، من نقطة الإعجاب ثم الانجذاب إلى الحب والزواج وتكوين الأسرة. هذا، بالإضافة إلى خطوط البحث عن الجميل في هذه الحياة، والتشريق والتغريب، حتى تحط المشاعر أخيرًا عند الوطن، بكل ما يحمله من معاني سامية. كل هذه الخطوط تسير متداخلة في حبكة واحدة. القصة تطرح سؤالًا عميقًا وهو: هل نحن نأتي إلى الدنيا بألواننا أم أننا ننتزع الألوان التي نحبها بأنفسنا؟ هي قصة الألوان، الألوان التي نراها، وألوان المشاعر، وألوان الأفكار.
فاللون في القصة ليس هو اللون البصري، وإنما اللون كقيمة، وكرمز لتنوع مكونات المجتمع.
القصة تحمل مقولة شفافة، لن تراها بشكل مباشر، وإنما ستشمها في رائحة العشب وعطر الأزهار، وفي ضوء الشمس ودفئها، وفي حب النقطة الأولى، والعش الأول، مقولة أن المجتمع لا يستطيع النهوض إلا بكامل أجزائه، وأن عملية النهوض هذه، ستكون ناجحة إذا كانت هذه الأجزاء حرة.
هذه القصة، طبعت لأول مرة في العام 1979، أي أنها أول عمل ينشره الكاتب، أو أنها (ثاني اثنين)، إذ أنه نشر قصتين في ذات العام، وهذه إحداهما.
وباختيار الكاتب لهذه القصة لكي تعاد طباعتها بطبعة جديدة متناسبة في صورها وألوانها مع اللحظة الراهنة، تتجلى مشاعر الكاتب مع إصداراه الأول، أو الابن البكر، فمهما كتب بعده، ومهما نمت تجربته، يظل الإصدار الأول يبعث مشاعر خاصة لدى الكثير من الكتاب.
كما يدل ذلك على أن الكاتب لم يخض غمار النشر إلا بعد مران طويل، حتى يكون عمله الأول بهذا الإتقان، سواء المران بالكتابة غير المنشورة، أو المنشورة في المجلات، أو حتى بما كان يقوم به في الفترة التي عمل فيها مدرسًا، إذ كان يتفنن في تحويل مادة الكتاب الساكنة إلى قصص متحركة، ويحول الحروف إلى شخصيات مرحة، أمام طلابه المحظوظين، الذين حصلوا على فرصة جميلة لإثار مساحة الخيال الكامنة في نفوسهم، وتمرينهم دائمًا على ذلك التساؤل الذهبي: ماذا لو؟
(جزيرة الفجري) لإبراهيم بشمي
القصة الثالثة هي للكاتب إبراهيم بشمي، الذي تميز من بين جيل المؤسّسين بغزارة الإنتاج، وأصدر أكثر من ثمانين قصة وحكاية للأطفال، والتي أتت في الأغلب على هيئة سلاسل. فبالإضافة إلى القصص التي هي من إبداع الكاتب، والتي صنفت ضمن سلسلة (كتب الأطفال المنوعة)، نجد سلسلة (كان يا ما كان) التي تناولت الحكايات التراثية البحرينية، ثم سلسلة (حكايات من بلدان العالم)، وهي حكايات مترجمة عن قصص من مختلف القارات، وهي السلسلة التي تعكس نظرة الكاتب حول التنوع، وأهمية التعرف على الثقافات الأخرى. ومن هذه السلسلة تأتي القصة التي نحتفي بها، والتي صدرت في طبعتها الأولى في العام 2000 تحت عنوان (غناء الكائنات الخرافية.. حكاية من البحرين)، وصدرت بحلتها الجديدة بعنوان (جزيرة الفجري)، وتتكلم عن فن موسيقي خليجي بذات الاسم.
غناء (الفجري) الذي يعد أحد العناصر التراثية (غير المادية) لمملكة البحرين، يرتبط بمهنة صيد اللؤلؤ، وهو من الفنون البحرية، التي تُغنّى إما على المراكب في موسم صيد اللؤلؤ، أو على السواحل في فصل الشتاء، حيث يتوقف الصيد.
وما يجعل هذا الفن لافتًا هو حكايته المستقاة من الموروث الشعبي.
فالحكاية الشعبية تحكي أن هذه الموسيقى علمها مجموعة من الجان لثلاثة من الغواصين، على أن يكتموا ما تعلموه، إلا أنه بموت اثنين منهم، وخوف الثالث من ضياع هذا الفن بعد موته، أفشى السر لأصحابه، إلى أن تم تناقله من جيل إلى جيل.
وتراثنا العربي مليء بالقصص أو الأشعار التي سمعها البشر عن الجن، وهي من الأمور التي ينظر لها للوهلة الأولى بأنها خرافة، ولكنها تنطوي على انبهار بحدث ما، وكأن البشر لا يمكنهم أن يأتوا بموسيقى مشابهة، أو بيت شعر مشابه، لذلك ينسب إلى مخلوقات قادرة.
من اللافت أنه في عدد كبير من الكتب التي نشرها إبراهيم بشمي، نجد على صفحة الغلاف عبارة: «يرويها إبراهيم بشمي»، وهنا يشير بتواضع كبير إلى أن النص هو حكاية وليس قصة، هي حكاية من التراث، وما أقوم به هو إعادة صياغة، وهو فن بحدّ ذاته، أن تحول حكاية شعبية للكبار، حكيت في زمن خاص وفي بيئة معينة، إلى حكاية لأطفال اليوم.
أعتقد أن التحدي الأكبر الذي واجه الكاتب في هذه الحكاية، هو حين حاول أن يُسمع القارئ نمطًا موسيقيًا من خلال لغة مكتوبة، فالقارئ يريد أن يقرأ النص وكأنه يرى ويسمع، وهنا جاء الوصف الجميل للكاتب لكل ما في موسيقى (الفجري) من حنين، حنين البحارة إلى عائلاتهم في أماسي البحر، ومعاناة الغواصين في الأعماق، وصوت الرياح الحزينة في الشتاء، وصوت تلاطم الأمواج، أمواج البحر وأمواج الحنين.
الحكاية ليست هدفًا بحدّ ذاتها، وإنما هي وسيلة للإضاءة على تلك المرحلة، إذًا هي سيرة الزمان وسيرة المكان، هي قصة أهل البحر وآلامهم وآمالهم.
بالتأكيد هناك قصة حقيقية تكشف عن أساس ظهور هذا النوع الموسيقي، ولكن بما أن الخيال هنا أقدر على كشف جمالية الشيء، فلن يغرينا البحثُ عن الحقيقة.
(أجمل إحساس) لإبراهيم سند
القصة الرابعة للكاتب إبراهيم سند، وهي بعنوان (أجمل إحساس)، وهي القصة الحائزة على الجائزة الأولى لمسابقة الشيخة فاطمة بنت هزاع آل نهيان في العام 2002.
في العنوان، يأتي أسلوب التفضيل من خلال كلمة (أجمل)، ثم كلمة غير ملموسة (إحساس)، لتضعك من البداية على الطريق الذي ستسير عليه القصة، المعتمد على فكرة (الذكاء العاطفي)، وهو نمط الذكاء الذي قد يفوق أنماط الذكاءات الأخرى في الأهمية، خصوصًا في ظرف الاهتزازات الاجتماعية التي يعيشها العالم.
بطل القصة (نوح) وفي محاولة للحصول على إجابة لسؤال معلمه عن أجمل المشاعر التي تتمنى أن تكون على أرض الواقع، وفي طريقه من البيت إلى المدرسة، يحاول استنطاق الكائنات الحية، من النحلة إلى طائر النورس ثم السلحفاة والحصان، ليستمع منهم عن أجمل المشاعر، وهو ليس مجرد استماع، وإنما هو غوص واندماج في أعماق التجربة، فعندما بدأ يحكي لمعلمه وزملائه ما شاهده في الطريق، تفاعلوا معه، لدرجة أنهم جميعًا تحولوا إلى تلك الكائنات، في لقطة فنتازية مبهرة، فالمعلم أصبح هو الحصان، والزملاء إلى نحل ونوارس وسلاحف، ثم يخرجون إلى المدينة ليشاهدوا ردة فعل الناس وهم يرون هذه الكائنات المتجولة. وبدل أن ينظر الناس للمخلوقات بنظرة جمال، يتساءلون عن مغزى وجودهم طليقين في المدينة! ليحاولوا بعد ذلك جرهم إلى الحديقة العامة، إلا أن هذه الكائنات، وبعد أن وعت درس الحرية، تظل تقاوم محاولات البشر، وتقاتل للبقاء حرة.
ورغم أن تلك الأحداث الفنتازية تجري في حلم، إلا أن أثر الحلم على الواقع كبير، بل إن الأحلام والآمال هي الممسك بدفة حركتنا في طريق الحياة، خصوصًا لمن شعر بطعم النصر بعد إنجاز مهمة صعبة.
وكما اندمج البطل مع الشخصيات التي رسمها في خياله، في المساحة الشفافة بين الواقع والأحلام، يتركك الكاتب لتتماهى مع المشاعر السامية من الحرية وحب العمل ومحبة الآخرين والعمل على إسعادهم والتضحية من أجلهم.
القصة تُعلي من شأن (البوح) كأسلوب رائع للتنفيس عن النفس من جهة، وكمظهر للحرية والسلام الداخلي. لن تجد في القصة حدود حادة وصارمة بين ما هو ملموس وما هو محسوس، فإذا كنت سعيدًا فإنك سترى حتى ساعة الحائط وهي تضحك، وإذا كنت منتشيًا فإنك ستعدو في الطريق كالحصان، وتضرب برجليك على الأرض مثله، بينما يداعب الهواء اللطيف وجهك المشرق.
توظيف الحيوانات في قصص الأطفال، وكما أنه يندرج ضمن مساحة الخيال، إلا أن له أبعاد مرتبطة بالواقع. فعلى مدى قرون، ظلت الفكرة السائدة أن الحيوانات لا تمتلك عقولاً، لكن اليوم، هناك دراسات ليس فقط لإثبات المشاعر الأولية للحيوانات مثل الإحساس باللذة والألم والخوف، وإنما المشاعر الأكثر تعقيدًا، مثل الحداد على فقدان الأحباء أو الشعور بالغضب في وجه الظلم، أو مشاعر القلب الحزين عند فقدان الشريك، أو حتى التعاطف والمواساة.
بل أكثر من ذلك، هناك من يبحث في إثبات المشاعر لدى النباتات! إذًا لو افترضنا أن الكاتب يطرح بشكل رئيسي هذا السؤال: هل للحيوانات أحاسيس ومشاعر؟ وهو السؤال الذي بنيت على أساسه مسألة (حقوق الحيوان)، فإننا أمام تجربة أخرى من تجارب الكاتب التي تركز بشكل أساسي على (التساؤل) كقيمة.
وتجد في جميع قصص الكاتب، هناك سؤال محوري، قد يكون ظاهرًا كأن يأتي عنوان القصة على شكل سؤال، أو مستترًا، يقرأ من بين السطور. ومن اللافت أنك تجد في قصص سند أن القيمة الكبرى هي للسؤال وليس للإجابة، وكأن مشروعه قائم على استنهاض العقل وشحذ التفكير العلمي، مع مساحة واسعة ليجيب القارئ بكل حرية، فالحرية لدى سند هي قيمة القيم.
في جانب آخر، تتميز كتابات سند بالمزج الرائع بين الواقع والخيال، حتى تكاد لا تميز الخيط الرفيع بينهما، هذا إن كان هناك خيط أصلًا، وكأن السؤال الفلسفي يظل حاضرًا: هل نحن في حلم أم في حقيقة؟
هذه إضاءة على القصص الأربع، التي أصدرتها أسرة الأدباء والكتاب، ونتمنى أن تكون بداية، لفتح النوافذ على أدب الطفل في مملكة البحرين، أمام العالم.