لا شك أن من أهم مقاصد الزواج تنظيم نشاط الغريزة الجنسية ، الذي يكون من آثاره عفة الزوج والزوجة عن الحرام ، والذرية التي تتربى في ظل الأسرة المستقرة، فكما أن للزوج حقا في اتصاله بزوجته كذلك هي لها حق في الاتصال به ، وإن كان الحياء يكفها عن المطالبة به بطريق مباشر في غالب الأحيان ، فهي مثله مخلوق بشري تتحرك فيه الغريزة ، والزواج هو الفرصة المشروعة لتلبية ندائها ، ومن هنا لم يرض النبي صلى الله عليه وسلم عمن عزم ألا يتزوج ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص الذي صرفته عبادته عن حق زوجته ، وعن أبي الدرداء الذي ترك زوجته مكتئبة بملابسها المبتذلة ، لانشغاله بصيام النهار وقيام الليل ، وكل ذلك وردت به الأحاديث الصحيحة .
إن كلا من الزوجين حين يبتعد أحدهما عن الآخر يحس بالفراغ وينتابه القلق ويتعطش للاطمئنان على نصفه الاخر، ويغذي هذا الشعور أمران :
أحدهما: يحتاجه الجسد.
والآخر: يحتاجه القلب.
وإذا طال أمد البعد قوي ألم الفراق ، وربما أورث مرضا أو أمراضا ، وعند طلب العلاج قد يكون الزلل إن لم يكن هناك عاصم من دين وحصانة من أخلاق ؟
وقد جاء في المأثور أن عمر رضي الله عنه سمع –وهو يتفقد أحوال رعيته ليلا-زوجة تنشد شعرا تشكو فيه بُعْدَ زوجها عنها لغيابه مع المجاهدين ، وتضمن شعرها تمسكها بدينها وبوفائها لزوجها ، ولولا ذلك لهان عليها بعده ، وذلك بآخر يؤنسها في غيبة الزوج .
فرق عمر لحالها ، وقرر لكل غائب أمدا يعود بعده إلى أهله .
ولكن هل لهذا الإعفاف حد أو ميقات ؟ الأقوال في ذلك كثيرة يقوم أكثرها على الاجتهاد . لكن الأوفق أن يراعى في ذلك حال الزوج والزوجة ، من وجود الداعي إليه والقدرة عليه وعدم المانع منه ، فقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن نسائه شهرا، وخيرهن بين البقاء معه والفراق ، وينبغي ألا تزيد فترة البعد على أربعة أشهر، وهي المدة التي ضربها الإسلام لِلْمولى من امرأته ، أي الذي يحلف ألا يقربها ، قال تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم . وان عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } البقرة : 226 ، 227 ، فإنه يطالب بعد هذه المدة بأحد أمرين :
الفىء أي الرجوع عن حلفه ، فيباشر زوجته ، أو الطلاق . بل جعل أبو حنيفة الشهور الأربعة أجلا لوقوع الطلاق ، تطلق الزوجة بمجرد انقضائها إن لم يرجع إليها زوجها .
إن بعد الزوج عن زوجته -حتى لو وافقت عليه حياء أو مشاركة في كسب يفيدهما معا-يختلف في أثره عليها ، ولا تساوي فيه الشابة مع غيرها ، ولا المتدينة مع غيرها ، ولا من تعيش تحت رعاية أبويها مع من تعيش وحدها دون رقيب ، وإذا كنا ننصح الزوجة بتحمل بعض الآلام لقاء ما يعانيه الزوج أيضا من بعد عنها فيه مصلحتهما معا، فإننا أيضا ننصح الزوج بألا يتمادى في البعد ، فإن الذي ينفقه حين يعود إليها في فترات قريبة سيوفر لها ولأولاده سعادة نفسية وعصمة خلقية لا توفرها المادة التي سافر من أجلها ، فالواجب هو الموازنة بين الكسبين ، وشرف الإنسان أغلى من كل شيء في هذه الحياة، وإبعاد الشبه والظنون عن كل منهما يجب أن يعمل له حسابه الكبير .
ولئن كان عمر رضي اللّه عنه بعد سؤاله حفصة أم المؤمنين بنته قد جعل أجل الغياب عن الزوجة أربعة أشهر( مصنف عبد الرزاق وتفسير للقرطبي “ج 3 ص 108 والسيوطي في تاريخ الخلقاء ص 96 وابن الجوزي في سيرة عمر ص 59 ) فإن ذلك كان مراعى فيه العرف والطبيعة إذ ذاك ، أما وقد تغيرت الأعراف واختلفت الطباع ، فيجب أن تراعى المصلحة في تقدير هذه المدة ، وبخاصة بعد سهولة المواصلات وتعدد وسائلها .
ومهما يكن من شىء فإن الشابة إذا خافت الفتنة على نفسها بسبب غياب زوجها فلها الحق في رفع أمرها إلى القضاء لإجراء اللازم نحو عودته أو تطليقها، حفاظا على الأعراض ، ومنعا للفساد ، فالإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار .