قصص حب
رواية جنون المطر(الجزء الأول ) للكاتبة برد المشاعر
Published
6 أيام agoon
By
ahmed ismail
207 اجمالى المشاهدات, 10 اليوم
الوقت المقدر للقراءة: 181 دقيقة(دقائق)
رواية جنون المطر(الجزء الأول )
#جنون_المطرالجزء الأول (1)
للكاتبة/ #برد_المشاعر
~~~~~~~~~~~~~~~~Advertisement
بـــــسم الله الـــرحمن الرحــــيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وكل عام والجميع بخير بمناسبة عيد الفطر المبارك أعاده
الله علينا باليمن والبركة وجعل كل أيامكم أعياد
Advertisement
ها قد عدت لكم من جديد كما كان الوعد بيننا وأتمنى أن تجد
تجربتي الجديدة أيضا مكانا في قلوبكم الرائعة وأن تكون خطوة
جديدة ناجحة لي ورحلة قصيرة ممتعة لكم نبحر فيها في عالم
جديد ومختلف من الخيال المستمد جذوره من الواقع وأن أدخل
Advertisement
بكم لعالم جديد وممتع رغم غرابته
تجربتي هذه المرة ستكون مختلفة كل الاختلاف عن سابقاتها
سترون فيها برد المشاعر بطابع جديد ومختف تماما من نواحي
عدة وكل أملي أن تكون تجربة ناجحة وممتعة لكلينا وأن نصل
Advertisement
بها لبر الأمان معا أخوة متحابين كما عهدتكم وعرفتكم
وقبل أن نخوض في أغوار وخبايا روايتنا الجديدة أحب أن أنوه
لأمر مهم جدا ومحوري فيها وهوا ارتباطها بواقعنا , حيث أنها
كما عرفتم عني سابقا رواية مستمدة من الخيال مهما تشابهت مع
Advertisement
الواقع , قد تتحدث عن مآسي عشناها ويعيشها الكثيرين في نقاط
متفرقة من أحداثها لكنها لا تمثلني أبدا ولا تمثل بلادي
التقسيمات فيها كلها خيالية كما أسماء المدن والمناطق , شرق
البلاد في الرواية لا يمثل شرق البلاد في ليبيا أبدا بلا أي وجه
Advertisement
كان فشرق البلاد لدينا يحضن مدن باسلة أناسها شرفاء خلت
حتى من النزاعات القبلية خلافا لما شهدت أغلب البلاد
وكذلك غرب وجنوب بلاد روايتنا لا يمدان لليبيا بصلة ولا لأي
دولة عربية كانت أو غربية مهما تقاربت الوقائع فكل شيء فيها
Advertisement
مستوحى من الخيال مهما شابه الواقع , لذلك علينا أن نسير معا
في الأحداث على هذا المنوال وأن نسبح في الخيال حتى نجدها
انتهت على خير وأصبحنا في أرض الواقع ولا وجود لأحداث
هذه الرواية سوا في ذاكرتنا الجميلة
الرواية طبعا من جزأين فلا يخبركم خيالكم أنها مجرد تمهيد ممل
Advertisement
للقصة الحقيقية وأن الأحداث المهمة ستكون في جزئها الثاني فهذا
الجزء يعد رواية مستقلة بذاتها ستجدون المتعة وكل ما تتمنونه فيها
مهما كانت ذات طابع دموي قاتم , وهي مرحلة أولية للبعض فقط
من أبطالنا المستقبليين وستأخذ حيزا كبيرا من أحداث القصة
Advertisement
غلاف الرواية من اختيار وتصميم الغاليتين لامارا وبحر الندى
الرواية مهداة مني لحبيبتي الغالية فيتامين سي
وبسم الله نبدأ
جنـــــــون المــــطر
Advertisement
الرواية طبعا من جزأين فلا يخبركم خيالكم أنها مجرد تمهيد ممل
الفصل الأول
مررتْ أصابعها في عتمة شعر النائمة على فخذها مغمضة
العينين وهي تنظر لها بصمت مبهم حتى قالت بقلق ” عليك
أن تعلمي شيئا قبل أن تفكري في اقتحام حدود تلك القبائل
Advertisement
يا غسق ”
لتفتح تلك المستلقية بهدوء جوهرتاها السوداوات ونظرت لها
بعبوس واجم ، عينان تشبه بحرا أسود شق قارة جليدية لا
شيء فيها سوا تلك الثلوج مهما علت وانحدرت تضاريسها
Advertisement
هذا كان الوصف الوحيد الذي استطاعت مخيلة المرأة الخمسينية
أن تستشفه في غمرة انبهارها الدائم بهذه الحسناء وهي تسبح
بأناملها في ذاك الحرير فكيف ستصف صورة لعينان سوادهما
غريب وكارتي ترتسم في بشرة ناصعة البياض وإن تدلى الشعر
Advertisement
على نحرها وكتفيها معانقا لخاصرتها حِرت في ماذا تركز بين
ثلاثتهم فبين البياض والسواد حكاية عندما يتجاوزان حدهما
المعقول ، حورية من حور الجنة هكذا وصفها البعض فسبحان
الله كيف سيكون شكل حور جنته ولما أصاب الرجال كل هذا
Advertisement
الغباء كي لا يسعوا فقط للنظر بفضول لشكلهن وركضوا خلف
نساء الدنيا ، كل تلك الأفكار كانت تجول في ذهن من كانت
لسنوات تعرف بعمتها وهي وشخصان فقط كانوا يعلمون حقيقة
أن هذه الطفرة لا يمكن أن تكون لعائلتهم بل لقبيلتهم أجمعها
Advertisement
فكيف تكون هذه ابنة لعائلة من قبيلة عرفت بسم قبيلة ( صنوان )
لحكاية قديمة لجدهم الأول حين لقبه الناس بالصيني لقصر قامته
وصغر حجم عينيه الذي توارثته الأجيال بعده ابن عن أب وحفيد
عن جد حتى أصبح لقبا كرهه الجميع وشنوا المعارك الفردية بحق
Advertisement
كل من ناداهم به في وجوههم , وحين خاف الناس منهم أصبحوا
ينادونهم بـ ( صنوان ) بدلا من صيني أمامهم واعتادت عليه الألسن
وألفته القبيلة , فمن يصدق أن صاحبة هذا القوام الممشوق والعينان
الساحرة أن تكون فردا منهم لكن يبدوا أن الناس كان لها الظاهر فقط
Advertisement
وصدّقوا أن هذه الحورية ابنة لزعيم القبيلة الذي تزوج بوالدتها وقت
فرارها حاملا بها في شهورها الأولى وأنجبتها عنده ولحسن والدتها
الذي لم ينافسها فيه سوا هذه الابنة صدّق الناس أنها ابنته وأنها أول
تحسن في نسل القبيلة فتأملوا أن يكون له تابعات لكن أملهم مات مع
Advertisement
مرور السنين فحتى إن تزوجوا بمثيلتها فعرق القبيلة باق للأبد , قد
يكون رجالها اكتسبوا بعض الطول والهيبة مع مرور الزمن وتعاقب
الأجيال لكن الملامح بقت تميزهم عن باقي القبائل الكبرى في البلاد
قبيلة ( هازان ) وقبيلة ( صنوان ) وقبيلة ( الحالك ) وباقي القبائل مجرد
Advertisement
توابع وفروع لهم ، ابتسمت لها بود وقالت ” عمتي لن يثني قراري
شيء مهما حكيتِ لي ”
أبعدت خصلات شعرها عن جبينها الثلجي الصغير وقالت بضيق
” غسق أنتي تري بعينك حال البلاد في حرب بين ثلاث محاور فيها
Advertisement
وبكل جنون تريدي أن تدخلي حدود تلك القبيلة التي لا تعرف سوا
الدماء , عليك أن تقتنعي أن بلادك تقلصت لثلثها فقط والباقي منها
لم يعد وطننا ولا أرضنا ولا يحق لنا دخوله ”
جلست مبتعدة عن حجرها نصف جلوس ليتدلى ذاك السواد القاتم
Advertisement
مغطيا الفراغ ما بين ذراعها وفخذها حاضنا لكتفها من الخلف
وقالت بضيق مماثل ” لن أخاف من كلامك عمتي فلا تتعبي
نفسك ولا طريقة أخرى لأعلم إلا بزيارة تلك العجوز التي
تعيش تحت قبيلة الحالك , لا حل أمامي ”
Advertisement
هزت رأسها بالرفض وقالت بإصرار ” لن أسمح بهذا يا غسق
فماذا إن علم والدك وجبران أقسم أن يقتلاني قبلك فجبران كان
يعد الدقائق لتنجلي حقيقة أنك لست شقيقته فنصدمه بفرارك
لتعرفي حقيقة لن تؤثر في الواقع شيئا , فإن كانت ذا معنى
Advertisement
لقالتها والدتك لشقيقي حين جاءته ”
عدلت جلستها ورمت شعرها للخلف وقالت باستياء ناعم ” كم مرة
سأعيد عمتي أن جبران ليس أكثر من شقيق لي , هذه حقيقة عشت
عليها لتسعة عشر عاما , وإن كان هوا يعلم خلافها منذ صغري فأنا
Advertisement
لا ولن أستطيع إقناع نفسي أن يكون زوجا لي وأريد أن أعرف
من هم أهلي , من حقي هذا أم ليس من حقي ؟ ”
تنهدت بيأس من عناد هذه الحسناء الصغيرة ثم مسحت على
فخذها وقالت ” عودي لحجري لأحكي لك حكاية قد تعنيك معرفتها ”
Advertisement
عادت للنوم على فخذها رغم الضيق الذي لازال واضحا على
ملامحها لتعود تلك الأصابع للغوص في ذاك الشلال الأسود
الحريري وقالت بهدوء ” ألا يكفيك ما أخبرك به والدك شراع
عن حقيقة عائلة والدتك وأنها من صلب هذه البلاد وتعرفيهم جيدا ”
Advertisement
تنهدت غسق بضيق وقالت ” عمتي لا تقولي هذه البلاد منذ متى
كنا بلادا لوحدنا ؟ لما تريدون تقسيم الدولة وهي لم تقسم بأي
حدود دولية ”
عقبت على كلامها بحزن ” لكنه واقع يا غسق فكيف مع كل هذه
Advertisement
الحروب والفرقة والدماء تري أن البلاد لازالت واحدة وكل واحد
ممنوع من تجاوز حدوده والمعارك طاحنة وكل قبيلة تريد أن
توحدها بفرض سيطرتها على كل شبر من أراضيها ”
أغمضت عيناها مجددا وقالت بحزن ” هل هذا ما كنتِ
Advertisement
تودين قوله ؟ ”
لتزفر تلك نفسا قويا ومررت أصبعها على رموش عين النائمة على
فخذها في حركة تعشقها كلاهما وقالت مبتسمة ” أريد أن أعرف
فقط زوجك ما سيفعل وأنتي تنامين في حجره هكذا ؟ أنا المرأة لا
Advertisement
أتحكم في يداي من أن تسافرا في هذه التفاصيل فكيف برجل ! ”
فتحت عيناها سريعا وقالت بضيق يخالطه الحياء ” عمتي
ما هذا الكلام الذي تقولينه ؟ ”
فابتسمت تلك بمشاكسة وقالت ” لا شيء أنا خائفة فقط على
Advertisement
عقل الرجل من الجنون ”
أغمضت عينيها مجددا وقالت ” لا تقلقي فلن أتزوج أبدا , ومن
هذه التي تتزوج في هذا الوضع ليزفوا لها خبر موت
زوجها في أي وقت ”
Advertisement
ثم ما لبثت أن عادت وفتحتهما مجددا وقالت ” احكي الحكاية
التي تريدين قولها لي فقد أصابني الفضول أخيرا ”
ضحكت عمتها بشفافية وقالت ” مادامت غسق وصلت
لحالة الفضول فقد أنجح في ما أنوي ”
Advertisement
نظرت لها باستغراب لتكمل كلامها قائلة وقد غابت بنظرها
للبعيد وأصابعها لا زالت تعبث بذاك الشعر الحريري ” ما
سأحكيه لك يا غسق عمره قرابة الأربعين عاما حين كان لرجل
من قبيلة الحالك يدعى شاهين ابنة من زوجة توفي كل طفل تحمل
Advertisement
به بعدها وتزوج عليها مرتين وكانت الحال ذاتها يموت الجنين
قبل أن يولد حتى زاره عجوز وقتها يدعى ( قطاط ) لم يكن ذاك
اسمه لكنه عرف به من كثرة ما كان يدّعي أنه يعلم المخفي والمستور
ويقرأ الطالع والغيب , والحقيقة أن هؤلاء الدجالين لا شيء لديهم سوا
Advertisement
بعض الرجال من الجن يتجسسون على السماء ليسمعوا ما تكتبه
الملائكة في الألواح ويزيدوا عليه من الكذب الكثير , ذهب ذاك الرجل
للمدعو شاهين وقال له أنه رأى له رؤيا في منامه وأنه لن ينجب أبناء
إلا من امرأة من قبيلة معينة وأن أحدهم سيكون بست أصابع في يده
Advertisement
اليسرى وأن ذاك الابن سيحكم ثلث هذه البلاد ومن ستكون له القدرة
على حكمها كاملة فكبُر الموضوع في رأس الرجل وقال له سأعطيك
بشارتك حين يولد فزاده من العيار وقال (وعليه أن يحذَر فهزيمته
وهوا على مشارف نصره تكون من أهلك من دمك ومن أقربهم لك )
Advertisement
فركبت الهواجس عقل ذاك الرجل وفرحته الغامرة كانت أن يولد له
ذاك الابن الذي سيحكم القبيلة بل وجميع قبائل البلاد وهوا يتخيله كيف
سيكون وبدأ يطلب النساء من تلك القبيلة ويتزوجهن ومن تحمل وتظهر
صور الأشعة أن الابن يده سليمة ينزله فورا ويطلقها لأنه كان يسفرها
Advertisement
خارج البلاد فقط من أجل أن يكشف على المولود ولأنه كان صاحب
جاه ومال في تلك القبيلة كانوا يزوجوه دون تردد وهم يعلمون نواياه
فالخير الذي سيأتيهم منه كثير حتى إن طلقها فكيف إن أصاب الظن
وحملت بذاك الابن المنتظر , وفي مرة صدفت تلك الكذبة وحملت
Advertisement
إحداهن بابن له ست أصابع وفي اليد اليسرى أيضا وكان الجميع
ينتظر ذاك الخبر ليروه بأعينهم فمن يصدق أنّ تكهن قطاط البعيد
ذاك صدق حقا حتى ظنوا أنه رؤيا بالفعل ولم يكذب فيها ”
قاطعتها غسق بفضول ” ولما كان يقتل باقي الأبناء ؟ ”
Advertisement
نظرت لها وقالت مبتسمة ” لا تستعجلي فالخير قادم وكثير ”
اكتفت بالصمت لتتابع عمتها حكايتها وهي تنظر لوجهها وتمسح
بإبهامها على الحاجب المرسوم كالسيف ” ولد ذاك الابن أخيرا
في ليلة ماطرة بل كان أشد مطرا نزل على تلك البلاد ولم تشهده
Advertisement
من قبل وعجزوا عن إيصال والدته للمستشفى فأحضروا لها القابلة
لتوليدها ودخلت لها تحت تهديد منه أنه إن أصاب ابنه شيء قطع
عنقها وقضت أغلب الليل تحاول توليد تلك المرأة التي تعسرت
ولادتها بشكل لم تعهده تلك العجوز طوال سنوات عملها وذاك
Advertisement
يصرخ من الخارج أن تشق لها بطنها وتخرجه قبل أن يموت
فعظم الأمر على تلك العجوز فكيف تقتل بشرا لتخرج آخر ! كيف
تُجري لها عملية قيصرية بلا أدوات فتفتحها وتتركها تنزف حتى
تموت ؟؟ وعند اقتراب الفجر كانت المرأة بدأت تلفظ أنفاسها
Advertisement
الأخيرة مما لم يخفى عن تلك القابلة أنها تحتضر ففعلتها وشقت
لها رحمها وأخرجت الصغير قبل أن تموت الأم ويتبعها بوقت
قليل لأنه من سابع المستحيلات أن يصلوا بها للمستشفى في ذاك
الطقس المخيف , فخرجت تلك الليلة روح من جسد تخرج روحه
Advertisement
وكأنها خرجت منها روحين معا وماتت المرأة فورا وخرجت تلك
العجوز بالطفل لوالده الذي استقبله بقبلة لجبينه الناعم الصغير
الأزرق وقال ( وُلدت يا مطر في ليلة تشبهك ) وسماه ( مطر )
وعاش يربيه على الجَلد والقوة وهوا يرى فيه حاكما لكل هذه القبائل
Advertisement
فأركبه الخيل ابن العام وعلمه السلاح ابن الخمس سنين وأجلسه في
مجالس كبار شيوخ القبيلة وكان يأخذ رأيه أمامهم في كل ما يقال إن
أخذوا به أو لم يأخذوا والجميع لاحظ حنكة ذاك الفتى وذكائه وسرعة
بديهته بل أصبحوا يأخذون برأيه وهوا لم يتجاوز الخامسة عشرة
Advertisement
وكانت له هيبة في أقرانه وكلمته ترتفع عليهم فلم يره أحد يركب
الدراجات ويلعب بالمزاليج في كثبان الرمال لا يعرف السهر عند
المقاهي والمطاعم , كان أكبر وأكبر بكثير من عمره بل حتى في
طفولته كان يضربه والده إن رآه يلعب مع الصبيان ويقول له
Advertisement
( أنت لم تخلق لتلعب أنت خلقت لتحكم وتأمر فجهز نفسك
لذلك واترك عنك حركات الفتيات )
كان ذاك رد والده إن لعب مع أحد الصبيان في سِنّه فكيف سيكون
الوضع إن رآه مع فتاة ! لذلك كان احتكاكه بهن من سابع المستحيلات
Advertisement
رباه جَلدا قويا وزاده ذكائه وحنكته الفطرية ليصنع منه رجلا لم
ترى القبيلة مثيلا له , وفات ذاك العجوز أنه هوا سبب ما صار
فيه ابنه وليس ترهات ذاك الخرِف قطاط ”
توقفت عن الكلام فجأة وابتسمت برقة وهي تسافر بإبهامها
Advertisement
للخد الناعم وقالت ” لا تقولي أن فضولك أصبح يقودك لرؤيته ”
هزت غسق رأسها نفيا من فورها وقالت ” كيف أرى رجلا لم
يعرف الفتيات ولا في صغره ! مؤكد سيقطع عنقي فقط لأني
قابلت وجهه ”
Advertisement
ضحكت بخفوت ولم تعلق لتسهب غسق بعفوية
” وهل هوا متزوج ؟؟ فستكون زوجته تستحق الدعاء
لها بالرحمة ”
عادت العمة للضحك مجددا وقالت ” لا , وهل تري شخصا
Advertisement
مثله لم يعرف النساء ولا في صغره سيفكر في الزواج ؟ أو
قد يكون مثلك يرى أنه لن يربط نفسه بامرأة وهوا على
مشارف الموت ”
حركت غسق شفتيها الرقيقتين بتلقائية ثم همست
Advertisement
” رجل بقلب صخرة ”
فابتسمت عمتها وقالت ” وكم من صخر أذابه عشق امرأة ”
لم تفهم غسق ما صبت له عمتها التي أكثر ما تخشى على هذه
الفتية هوا ذاك الرجل فإن أصبحت في قبضة رجاله أصبحت
Advertisement
في قبضته وإن أصبحت في قبضته وقع ما تخشاه حقا أكثر من
موتها على يديهم , قالت غسق ويدها تحضن يد عمتها التي
تلامس صفحة وجهها الغض ” لم تخبريني حتى الآن لما
قتل ذاك الرجل جميع أبنائه ”
Advertisement
تنهدت وقالت بحزن ” بل لم يكن بطشه لهم فقط لأنه تخلص
من جميع الرجال في عائلته وبطرق مموهة ”
جلست غسق فزعة وقالت بصدمة ” قتل أهله !! ”
هزت رأسها بنعم وقالت ” تصوري وكله خوفا على ذاك الابن
Advertisement
من باقي كلام العجوز من أن هزيمته على أعتاب نصره
تكون من شخص من دم والده سيولد بعد رؤاه المزعومة ”
هزت رأسها بصدمة غير مصدقة كل ما سمعت فكيف يصل
به ذلك لأن يقتل أشقائه وكل من يقرب له من أجل كلام لا
Advertisement
يعرف صحته ! لكن من يلوم مجنونا مثله حدث معه نصف
ما قال له ذاك العجوز فبالتأكيد سيفكر أن النصف الآخر
سيحدث , قالت بحيرة ” هذا يعني أنه لم يبقى لابنه أحد ”
هزت رأسها بنعم وقالت ” شقيقته من زوجة والده الأولى
Advertisement
فقط لأنها وُلدت قبله وهوا خشي حتى أن يولد لأشقائه ابن
يهزمه ولأنه كان الأكبر تخلص من شقيقه الذي عصاه قبل
أن يتزوج والآخر لم يتزوج حتى الآن ولا شقيقته أيضا
التي من حبها لابن شقيقها تخشى أن تنجب ابنا يكسره
Advertisement
ويقتله وضحت بأن يكون لها زوج وأطفال من أجله ”
جالت غسق بعينيها السوداء الواسعة الطويلة في ملامح
عمتها بنظرة ملئها حيرة ثم رفعت شعرها خلف أذنها وقالت
” كيف هذا !! كيف تصدّق هي أيضا ما قال ذاك الدجال ؟ ”
Advertisement
تنهدت العمة وأردفت ” لم يعد يستطيع أحد التكهن بشيء
وهم يروا أن الابن بالست أصابع ولد فعلا وحكم القبيلة
بأكملها وكل مجاوراتها وفي أراضيها فيبدوا أنه صَدق
وكانت رؤية وليس تكهنا ”
Advertisement
زحفت مقتربة منها أكثر وقالت بفضول ” وهذه قصة
حقيقية أم من الخيال وفي أي جيل من قبيلتهم ”
ابتسمت على جملة صغيرتها التي ربتها في حضنها وها
قد فاتها ذكائها الفطري أن تعرف من تقصد وقالت
Advertisement
” بل الآن في هذه البلاد ”
لتشهق غسق بصدمة وقالت ” هنا !! هل هوا …. ”
ثم رفعت شعرها ولفته بعشوائية وغرست فيه مشبكا فضيا
وقالت بصدمة ” لا تقولي أنه زعيم قبيلة الحالك ؟ ”
Advertisement
هزت رأسها بنعم دون كلام فتابعت غسق بحماس ” ظننته
عجوزا فلم أره يوما ولا تحدث عنه أحد سوا بابتعدوا عن حدوده
حتى بعدما دارت الحروب بيننا وبينهم لازال الجميع يخاف
الهزيمة على يديه ولم يكن أحد يذكر اسمه وجميعهم ينادونه
Advertisement
بزعيم قبيلة الحالك أو ابن شاهين زعيم منطقة الجنوب ”
ثم أمسكت يد عمتها وقالت برجاء يقارب للطفولة
” صفيه لي عمتي كيف يكون ؟ ”
لتشد يدها منها وقالت بحدة ” غسق ما هذا الكلام ؟؟ أعرفك
Advertisement
لا يحرك فضولك إلا شيء تمكن من عقلك فلما تريدي معرفته ؟ ”
تأففت برقة وقالت ” أنتي السبب حكيتِ لي حكاية أقرب للخيال
منها للواقع عن رجل لم أرى مثيلا له فكيف لا يجتاحني الفضول ”
نهرتها مجددا قائلة ” لا تنسي أن العشرات من رجال قبيلتنا ماتوا
Advertisement
على يد رجاله وأنه يريد انتزاع الأرض منا ”
قالت بتذمر ” ونحن لسنا بأقل منه قتلنا رجاله ونريد
انتزاع أرضه منه ”
قالت العمة بصدمة ” غسق ما هذا الذي تقوليه ؟ ”
Advertisement
فعقبت بحزن وقد هدأ حماسها ” متى سينتهي هذا الحال عمتي ؟
هل حقا اعتدنا أن يموت الناس وأن نعيش في سكون لليلة
لتعقبها حرب لليالي ؟؟ ”
وكان الجواب منها أن هزت رأسها بيأس وقالت ” ومن سينسى
Advertisement
الدماء يا غسق ؟ كلٌ أصبح يحمل الحقد في قلبه ولن تتصافى
النفوس إلا بأن يحكم أحدهم بالقوة بعدما يدمر ثلثي البلاد الباقيين ”
غزى الحزن ملامحها وعلقت بعبوس ” وما بِنا هكذا ! خرج الاحتلال
من بلادنا ليتركنا نذبح بعضنا البعض ولسنوات ونعاني ويلات
Advertisement
الحرب الأهلية , متى سنتحرر من أنفسنا متى ؟ ”
مسحت عمتها على شعرها بحنان وقالت ” والآن عليك محو فكرة
الذهاب إلى هناك من رأسك لأن الأرض أرضه وإن أمسكك رجاله
سيسوقونك له , ولك أن تتصوري كيف أن رجل يمسك رجاله بامرأة
Advertisement
يسلموها له دون أن يلمسوها وهم رجال كيف ستكون سطوته وقوته
وسيطرته عليهم حد أن يهابه المحاربين من الرجال وهوا ليس معهم ”
برقت عينيها السوداء وقالت بحيرة ” يا الله كيف يكون هذا
الرجل المخيف ! ”
Advertisement
فاشتعلت النار في فخذها التي قرصتها عمتها ونهرتها قائلة
” غسق ماذا قلنا ”
عدلت جلستها تفرك فخذها بتألم وقالت بتذمر ” عمتي هذا
مجرد كلام فلن أراه ولن يمسكني رجاله ولن أذهب
Advertisement
اطمئني فقد أرعبتني منه بجدارة ”
لتبتسم قائلة بحب ” جيد المعلومة وصلتك إذا وأتمنى أن
لا تكون مجرد تصريفه لي لأسكت ”
هزت غسق رأسها نفيا وهي موقنة من أن ما فيه لن يغيره شيء
Advertisement
فإصرارها لمعرفة والدها وعائلته وابنة من تكون وصل لأبعد
نقطة في عقلها لأنها كرهت حديث عائلتها منذ أن علم المقربون
بقصتها وأنها ليست ابنة هذه العائلة , وما خفف كلامهم هوا
معرفتهم بعائلة والدتها العريقة وبقي نسب الأب لغزا تتداوله
Advertisement
الألسن وفي كل حين يرموها على شخص مما جعل إصرارها
على معرفته يكبر يوما بعد يوم لتخطئ عمتها الخطأ الأعظم
وتذكر لها اسم من كانت ولادتها على يدها ووحدها من ستكون
تعلم به لأنه كان من عاداتهم أن تخبر المرأة القابلة وقت توليدها
Advertisement
عن اسم أب ابنها وتحفظه تلك حتى الموت ولا تتفوه به إلا في
الضرورة القصوى ولو كان فيه موتها , ولأن تلك العجوز تسكن
أراضي الحالك فالوصول لها أشبه بالمستحيل والمخاطرة كبيرة .
انفتح حينها باب الغرفة لتنظرا كليهما معا للداخل دون إذن مسبق
Advertisement
وكان من ابتسمت له العمة بحب وقفزت غسق ناحيته ووقفت على
رؤوس أصابعها حتى قبلت رأسه قائة ” صباح الخير أبي ”
مسح على خدها بحنان وقال ” صباح الخير , ما يوقظ
ابنتي الحبيبة قبل الفجر بساعة ”
Advertisement
نظرت للخلف وقالت بابتسامة ” عمتي حكت لي حكاية
أخافتني ولم أنم بعدها ”
ضحك كثيرا وقال ” خذي حذرك من حكايات عمتك
فمخيلتها واسعة جدا ”
Advertisement
فنظرت لعمتها بطرف عينها بخبث وقالت بنبرة مقصودة
” هكذا إذا ؟ هي تعبث بخيالها كثيرا ”
لتقف تلك تعدل لباس الصلاة على صدرها وقالت ببرود
” لا تضحكي على نفسك فكل ما قلته حقيقة ”
Advertisement
ثم نظرت لشقيقها وقالت بقلق ” أراك باللباس الرسمي !!
هل ستخرج من البلاد ؟ ”
هز رأسه بنعم وقال ” مؤتمر صغير وسأعود اليوم ”
تنهدت بأسى وقالت ” تعبنا من هذه الاجتماعات التي
Advertisement
لا نخرج منها بشيء ”
غطى السكون الواجم على ملامحه وقال بشبه هدوء
” على الأقل نتبادل الأسرى حتى يأتي الله بفرجه
على الجميع ”
Advertisement
قالت من فورها وبضيق ” هل تظن زعيم قبيلة الحالك سيقبل ؟
ففي المرة السابقة خرج بأسيرين مقابل كل أسير ”
تحدثت حينها الواقفة تتنقل بنظرها بينهما ولا تشارك في
الحديث بشيء كعادتها وقالت بعفوية ” وكيف خدعكم هكذا ؟ ”
Advertisement
أجاب شراع بجمود ” لا يحظر اجتماعا إلا وخرج منه بما
يرضيه فسيطرته كما نعرفها تتحكم في العقول , وما يعزينا
أنه لن يحظر اليوم فقد نكسب شيئا من غيابه ”
قالت غسق باندفاع ” ولما لن يحضر ؟ ”
Advertisement
لينهرها الصوت الحازم من خلفها ” غسق ”
فلاذت بالصمت ونظرت للأرض قائلة بهدوء ” ترجع لنا
سالما يا أبي واعتني بنفسك جيدا ”
وكان الرد منه قبلة صغيرة لجبينها تحمل كل معاني المودة ثم
Advertisement
قال بدفء ” جبران سيوصلك للمدرسة اليوم ”
حاولت إخفاء ضيقها خلف النظرة الحنونة التي تغمره بها وحده
وقالت ” لن أذهب وكرهتها أيضا , لما أدرس أنا وغيري
الكثيرات بلا دراسة ؟؟ أريد أن أكون كغيري هنا ”
Advertisement
تنهد وقال ” غسق كم مرة سنتحدث في هذا فلستِ وحدك من
تدرس , بنات خالاتك وأخوالك يخرجون أيضا للدراسة حتى
بنات شقيقي يكملن تعليمهن , هل ستبقي وحدك متأخرة عن
الجميع ؟ يكفي ما ضاع منك بسبب هذه البلاد التي لن
Advertisement
تنتهي حروبها ”
تنهدت باستسلام وقالت ” حسنا لكن اليوم لن أذهب
ستأخذني أنت غدا ”
لتُظلم الغرفة فجأة وتدخل في سواد قاتم وتحركت العمة لكشاف
Advertisement
النور في الجدار وشغلته ليعطي المكان نورا أصفرا خفيفا ونظرت
غسق من حولها وقالت ” قطعوا الكهرباء من الآن يعني لن
ترجع حتى منتصف النهار ”
فخرج شراع قائلا ” أفضل من انقطاعها في الليل , اذهبي
Advertisement
لمدرستك يا غسق إن كان رضاي عنك يعنيك ”
ثم أغلق الباب خلفه لتزفر بضيق فهوا يعلم من أين يأتيها
ويحاصرها , التفتت لعمتها وقالت ” اذهبي معنا أنتي ”
قالت وهي منشغلة بتثبيت الضوء ” وهل سيأكلك مثلا ؟
Advertisement
جبران كان يوصلك أغلب أيام العام المضي ”
تأففت بصمت ثم قالت ” ذاك حين كان شقيقي ولا أعلم
أما الآن الأمر اختلف والرحلة طويلة ”
التفتت لها بصدمة وقالت ” هل يضايقك بشيء ؟ ”
Advertisement
لتنتفض بجزع وقالت مستنكرة ” حاشا لله عمتي فلم يكن يتجنبني
أحد من أخوتي مثله , حتى عينيه لا يرفعهما بي إلا للضرورة
لكنه لا يجوز فهذا سفر لثمانين كيلو مترا بالسيارة , لا أعرف
كيف كنتم توافقون عليه ”
Advertisement
تنهدت وقالت ” للضرورة أحكام وحين تتزوجا لن
يصبح سفرا وخلوة ”
لوت غسق شفتيها بعدم رضا بما أن عمتها لن تلحظ ذلك في ضوء
الكشاف الخفيف , فقد كرهت مناقشتها في هذا الأمر وتعلم أنها لن
Advertisement
تخرج منه بنتيجة ولن تخشى شيئا مادام والدها حيا فهوا لا يرفض
لها طلبا وحين تبرر له اعتراضها على ابنه لن يجبرها عليه
فكل ما تفكر فيه الآن أصلها ونسبها فقط لا شيء غيره
*
Advertisement
*
*
في تلك المدينة التي لم يعد يسكنها سوا أشباح خفافيش الليل المتراقصة
على أنغام صوت الهواء وهوا يصفر في مبانيها المهجورة المظلمة نزلوا
Advertisement
ما أن اجتمعت سياراتهم عند الخط الترابي المشهور بسم ( خط حفار )
لكثرة ما كان يستخدم هذا الطريق لنقل مواد البناء التي يتم استخرجها
بحفر الجبال ، المكان الذي لم يعد موجودا فيه سوا المنشئات الخالية
وآلات الحفر الضخمة المعطلة فلم يبقى من حفار سوا صور ثابتة
Advertisement
ساكنة ميتة مخبأ للأفاعي والثعالب , وهذا ما تخلفه الحروب مناطق
مهجورة لأنها كانت في يوم قريب جدا وإن في ذاكرة أهلها فقط
نقطة للهجوم أو الدفاع وقد تعود كما كانت في أي وقت فلا يفصلها
عن خط الحرب سوا منطقة واحدة فقط تشبهها في كل شيء .
Advertisement
بعد رحلة دامت لساعات وصل الرجال الستة بسياراتهم المفتوحة
المخصصة بنقل الجنود , قديمة الطراز لكن وحدها التي تفي بهذا
الغرض هنا ، بلاد قُسمت لثلاث أجزاء شرق وغرب وجنوب
فالاحتلال لم يخرج منها قبل أكثر من خمسين عاما إلا وهوا واثق
Advertisement
من أنه خلّف بعده شبه بلاد , فرقة ودماء وثأر متأصل , فقد عُرف
جنوبها بالتمرد وحارب الاستعمار بكل استماتة وخسر الآلاف من
رجال قبائله ولم ينحني , حتى أن قائد قوات جيش ذاك الاستعمار
اعترف وقت خروجهم أن الجنوب كان مصدر رعب لرجالهم
Advertisement
وأنهم خسروا في حروبهم معه الكثير ، أما غربها فكان مقرهم
الأساسي انتهك بالغصب فكان مقرا لمساكنهم ومنشئاتهم العامة
ومرافقهم الصحية , أي كان نقطة استقرارهم الأساسية لأنه
يربطهم بالبحر وأما شرقها فعرف هنا ببؤرة الشر فهوا أرض
Advertisement
الخونة من قبائل البلاد درجة أن جميع الثكنات العسكرية لؤلئك
الجنود كانت فيه وبعض أبناء القبائل كانوا يعملون جواسيس لهم
بين قبائل بلادهم الأخرى , ومن هنا لعب ذاك المستعمر لعبته
وأصبح يسلم بعض المناطق لهؤلاء القبائل ويعيد تقسيم البلاد
Advertisement
كيف شاء ونشب الحرب بين شرقها وغربها وجنوبها وبث
الفرقة والأحقاد التي امتدت لسنوات فبعد خروجه طالبت قبائل
الجنوب بحكم البلاد واسترجاع أراضيه لقبائلها وتعويض أهل
ضحايا الحرب وجاء الرفض من الثلثين الآخرين , غرب البلاد
Advertisement
أرادوها انتخابية ومجالس وبلديات وأن لا يسلبوه من مرافقه
شيئا وهوا النقطة المعمرة الوحيدة في البلاد فالجنوب شبه مدمر
بالكامل والشرق أشبه ما يكون بثكنة عسكرية , وآخر ما اقترحوه
أن تقسم البلاد لثلاث ولايات تحت حاكم واحد ورفضت باقي
Advertisement
الأطراف أما الشرق فكان من أعلنها حربا وأنه سينتزع المدن
بالقوة ودخلت البلاد في حرب أهلية دامت لسنوات وسنوات
ومات الآلاف بالمئات وأصبحت قضية دم وليس أرض فقط
وقد فشلت جميع الجهود العربية لحل النزاع أما الغرب فكان
Advertisement
غرضهم الوحيد أن تبقى البلاد في حالة فوضى , أغراض
سياسية يغطونها بمؤتمرات واجتماعات لا تخرج بأي حلول
ومن تحت الطاولات يمولون الجماعات الإرهابية لتقوى
شوكتها في الداخل ويدخلون بحجة محاربتها .
Advertisement
اقتربت منهم سيارة أخرى ونزل من فيها واقترب أحد تلك
الخيالات التي تتحرك في سكون هذا الليل ليقف أمام صاحب
المعطف الطويل والعمامة الزرقاء وقال بجدية ” كل ما أمرت
به جاهز سيدي , خسرنا أربعة رجال خلال الخمس ساعات
Advertisement
الماضية ، مصدر الرصاص والقذائف اليدوية مباني
الردم الطينية القديمة ”
تحرك حينها باتجاه السيارة قائلا بحزم ” هذه المرة لن نرجع
لأهالينا إلا والردم والحويصاء أصبحت ضمن حدودنا
Advertisement
أو نموت دون ذلك ”
لترتسم ابتسامات الرضا على وجوه رجاله فكم انتظروا هذا
القرار منه , القرار الذي أجّلته المحاولات الدولية الفاشلة لجبر
ما لن تجبره إلا القوة ، وبعد حوالي خمسون كيلو مترا كانوا
Advertisement
في منطقة السد لينزل القائد الملثم المجهول وخلفه أقرب رجاله
القائد الذي وصوله هنا وفي هذا الوقت له معنى واحد فقط
وهوا أن وقت التحرك قد حان وسيتحول الجميع من وضع
الدفاع للهجوم فهذا القائد أوامره سارية على جميع قادتهم
Advertisement
ولا أحد يحق له أن يسأل من يكون ، ومن هناك طلعت
شمس الصباح لتتخلل تلك النافذة المكسورة وتتسرب أشعتها
على الخارطة الورقية التي تتوسط الطاولة الخشبية الكبيرة
التي ترتكز عليها يدان بقفزات سوداء وحوله القادة من رجاله
Advertisement
بعضهم يحار في هذا الملثم صاحب النظرة الصقرية الحادة
والشخصية القيادية الواثقة والبعض لا يستغربه أبدا لأنهم
يعرفون من يكون وأنه الرجل الذي يضن جميع من هنا أنه
نائم الآن في منزله ينتظر أن تأتيه الأخبار ، حرك أصبعه
Advertisement
على خط حدود مناطقهم ونظر لهم وقال بثبات ” هنا نقطة
الانطلاق , هم مستعدون لنا بالتأكيد وقد وضّحت لكم نقاط
الهجوم والتراجع والأهم من كل ذلك نقاط الالتفاف فتلك
الثغرة نقطة ضعفهم الوحيدة , سنكون على اتصال وأنا
Advertisement
سأكون في الخط الأمامي وإن مت عثمان حداد
سيكون مكاني مفهوم ”
أشاروا له بالطاعة التامة فعدل وقفته وقال بحزم
” الإمدادات ستصل تباعا ولا تَوقف لنا حتى نصل لحدودنا
Advertisement
الجديدة , التراجع إن حدث سيكون بالتحرك غربا حتى
منطقة غويطاء ونرجع هنا , وهذا في حال فشلنا طبعا ”
وتحرك الرجال مع بزوغ الفجر لتدخل البلاد نقطة محورية
جديدة بين شرقها وجنوبها وهي انتزاع الأراضي بالقوة بعدما
Advertisement
فشلت آخر محاولات التهدئة الخارجية لأن الشرق بدأ بخرقها
*
*
*
Advertisement
وبعد ساعات ذلك الفجر الجديد وفي مكان آخر بعيد وأبعد ما
يكون عن تلك الحروب الدائرة وعن تلك البلاد الممزقة كان
اجتماع لرجال ببدل رسمية وربطات عنق أفكارهم لا تشبه
لباسهم أبدا , أناس اجتمعوا في مبنى زُخرفت أعمدته الضخمة
Advertisement
بالفضة والنقوش الذهبية العريضة , طاولة اجتماعات طويلة
أكواب كريستالية موزعة ورجال الفصائل المتنازعة من تلك
البلاد في الصفقة الثالثة لتبادل الأسرى بينهم .
مال جهته قليلا وهمس ” كما أخبرونا حضر عمه وبعض
Advertisement
رجال قبيلتهم وهوا لم يأتي ”
بادله شراع الهمس بجدية وهوا يحرك قلما على الطاولة
أمامه ” إن لم نخرج من هنا ونسمع أخبار تخصه لا أكون
شراع صنوان فغيابه عن هذه الصفقات التي يسترجع فيها
Advertisement
رجاله سيكون لغرض أهم منها فلا تنسى أنه في اجتماعنا
الثاني هنا أخذ عشرة رجال مقابل واحد لأنه ابن عمك
وقمنا بتعويض عشر عائلات أخرى بدية عن أبنائهم فلن
يترك جولة يعلم أنه رابح فيها إلا لسبب أقوى منه ”
جال ابنه بنظره بين الحضور وهمس له مجددا ” زعيم
Advertisement
قبيلة هازان غادر الاجتماع سريعا يبدوا توقعك كان
في محله واستقبل هدية من ابن شاهين ”
لم يخفي شراع ارتجاف يده ووقوع القلم منها لوقع همس
ابنه على أذنه فأن يتحرك ابن شاهين بغثة شيء لا يُطمئن
Advertisement
بالنسبة له ولكن ما يطمئنه أن ذاك الزعيم لن يخاطر بالتحرك
وقت اجتماع عقدته دول صديقة تحاول جاهدة إيجاد حلول لتلك
النزاعات فسيضع نفسه في موقف حرج أمام المساعي الدولية
عاد لإمساك القلم بذهن شارد يتردد صداه ككلمات في رأسه
Advertisement
المشوش ( لن يفعلها أبدا إلا إن جُن مطر حقا وضرب جميع
مساعيهم عرض الحائط وهم يسعون لتهدئة ولو جزئية )
*
*
Advertisement
*
بعد رفض عمتها القاطع للذهاب معها غادرت مع جبران لمدينة
النور من أجل المدرسة كي لا يغضب والدها فيما بعد , ولأنهم
اليوم درسوا شبه نصف الحصص فقط غادرت وقت الفسحة لأن
Advertisement
جبران لن يغادر وكان سينتظرها , خرجت وركبت السيارة
وعادا مغادرين من هناك في صمت تام كرحلة مجيئهما إلى
هنا فجبران كان طبعه معها دائما قلة الكلام وهوا يعلم أنها
ليست شقيقته وتجهلها هي والآن بعدما علم الجميع زاد صمته
Advertisement
حتى تحول لصمت أموات فلا يحدثها إلا للضرورة القصوى
كان يبني الحواجز بينهما لأنه على علم بالحقيقة ولأن مشاعره
نحوها تجاوزت الأخوة بكثير فأتقى لنفسه وأبرئ لها أن يبقى
بعيدا عنها , بعيدا عن امرأة حتى صوتها الناعم يفتنه لأقصى
Advertisement
النخاع فكيف برؤية حسنها كل يوم وفي كل حالاتها حتى وهي
مستيقظة من النوم , بعد مسافة مد يده لمسجل السيارة وشغل
المذياع ليشغل نفسه حتى عن سماع أنفاسها , بحث في تردداته
حتى ثبت على قناة إخبارية محلية وقال المذيع من فوره
Advertisement
” … ومؤتمر الإمارة ألغي بسبب خبر هجوم قبيلة الحالك
على مدينة الردم والمعارك لازالت في أوجها ”
وضعت غسق يدها على صدري ونظرت لجبران
وقالت بصدمة ” تقاتلوا !! ”
Advertisement
قال ونظره على الطريق ” منذ الفجر واستولوا على
الردم , والحويصاء تبدوا في الطريق ”
غصت العبرة في حلقها ونزلت دمعتها رغما عنها فمسحتها
سريعا لكن الذي كان يقود لا يفوته شيئا من تحركاتها فقال
Advertisement
بصوته الجهوري الهادئ ” آن لك أن تعتادي يا غسق
فلسنا حديثي سنة بالحروب ”
تجددت العبرة التي تحاول بلعها وأناملها تقبض بقوة على
الحقيبة في حجرها وقالت بأسى ” ومتى سينتهي هذا
Advertisement
متى ؟؟ بل أرى دورنا سيكون القادم ”
قال ببرود ممزوج ببعض بالجدية ” هم جلبوه لأنفسهم واخترقوا
التهدئة الجزئية من أجل الرهائن مع زعيم قبيلة الحالك وجاءهم
رده القاطع فصمته اليومين الماضيين لم يكن عبثا وكما عرفه
Advertisement
الجميع يضرب مباشرة وبلا حِيل ”
كانت الملايين من الأسئلة تدور في ذهنها لكنها لن توجهها
لجبران فقد اعتادوا أنها تسمع كل شيء ولا تتدخل إلا إن
تحرك فضولها بشكل قاتل وهذه النقطة لن تفوته أبدا , ثم هي
Advertisement
تحترم أنه لا يريد الخوض في الكلام معها وتراه أفضل لهما
مد يده وأغلقه مجددا فسماع أنفاسها بات لديه أرحم من بكائها
وصوتها الحزين , ليغلق على أفكاره بزفرة قوية علّه يبرد بها
حر جوفه ( متى ستقرر يا أبي وترحمني من الانتظار متى ؟؟ )
Advertisement
*
*
*
وعلى الأصعدة الأخرى كانت شرق البلاد في حالة فوضى
Advertisement
وخبر استيلاء الحالك على الردم ودخوله لتخوم الحويصاء قلب
الدنيا رأسا على عقب خصوصا أنه لا أحد يعلم عند ماذا
سيتوقف وأين قرر أنه ستكون حدوده الجديدة لتختلط معمعة
الناس بسيارات الجنود والعتاد التي بدأت تملأ الطرقات ووجهتها
Advertisement
أقصى الشرق جهة الجنوب لتعزيز المقاومة هناك والدفاع عما
تبقى واسترجاع ما يمكن إرجاعه , بينما دخل غرب البلاد في
حالة من الترقب الشديد فلا أحد يعلم ما يفكر فيه ذاك الزعيم ومن
دوره سيكون القادم ؟ فبالرغم من أن قوتهم تكاد تكون متساوية
Advertisement
إلا أن الرهبة من خطط والتفاتات رجاله وجنوده أمر أصبح
يشكل هاجسا للجميع , فالغلبة تكون للأدهى قبل الأكثر مهما
قيل أن الكثرة تغلب الشجاعة فإنها لا تغلب العقل والتخطيط
فوضى كبيرة عمت ذاك الاجتماع حال انتشار الخبر فرد قبيلة
Advertisement
الحالك على الخرق الذي أقدمت عليه الهازان كان غير متوقع
وهز ذاك الاجتماع , فكيف يكون عمه وأكابر قبيلته هناك من
أجل تبادل الأسرى والتحاور حول التهدئة الجديدة وهوا يدك
حصون الشرق وينتزع مدنها وكأن ما يحدث في ذاك
Advertisement
الاجتماع أبعد ما يكون قد يعنيه أو فكر فيه .
أما في جبهة القتال فكان وقوع الردم يسيرا عليهم لأنها جاءت
على حين غفلة بخطة حربية متقنة أما الحويصاء فيعلمون أنها
لن ترضخ لهم بسهولة فقد شد أولئك الرحال لها وعدوا العدة
Advertisement
والعتاد لدعم الجنود هناك , أما في الخط الأمامي على تخوم
الحويصاء كانت صرخة قائدهم الوحيدة ” إن لم نأخذ
الحويصاء لم نجني شيئا ”
وهوا أعلم بغيره أن الردم لن تكون ذرعا حاميا لجنوده فيما
Advertisement
بعد فهي أرض مكشوفة سيتعرضون فيها للهجمات المتسلسلة
التي ستخسرهم الكثير أما الحويصاء فستكون منطقة دفاعية
أكثر لمتاخمتها لمرتفع شهير لديهم , فإما الحويصاء أو العودة
للسد من جديد ، وبالفعل كانت الحرب فيها شرسة مستميتة
Advertisement
فهي أصبحت نقطة محورية لكليهما إن أخذتها الحالك تمركزت
فيها وسيصعب إخراجها وإن صمدت فيها هازان أعادت الردم
بسهولة ، ومن يوقف شلال الدم حين يبدأ بالجريان ؟ حين يرى
الشقيق شقيقه عدوا له وكل واحد له الحق في الدفاع عن نفسه
Advertisement
وأرواح قبيلته , ويصبح لا صوت أعلى من صوت الحرب
ولا طريق للحياة إلا من خلال الموت .
نهاية الفصل
أتمنى أن تكون البداية حازت على رضاكم وإعجابكم
Advertisement
موعدنا القادم مساء الثلاثاء إن شاء الله
ودمتم بكل حب
جنون المطر ( الجزء الأول )
الثاني هنا أخذ عشرة رجال مقابل واحد لأنه ابن عمك
ما أن كان أول المساء طرقت عليها باب غرفتها ودخلت لتُصدم بأنها لازالت بثياب المنزل تجلس عند نافذة الغرفة
يدها على خدها تهيم بنظرها للسماء بشرود فاقتربت منها
وقالت باستياء ” رمّاح ينتظرنا في الأسفل وأنتي
لازلت مكانك ولم تجهزي نفسك ” أبعدت غسق يدها عن خدها وقالت وكأنها تخاطب
صورتها في زجاج النافذة ” عمتي بالله عليك
كم مرة قلت أني لن أذهب ”
تنهدت تلك وقالت ببرود ” لا تخافي فبعدما علمت عائلتنا أن أبناء شقيقي شراع ليسوا أخوتك لن يجرؤ أحد على التحدث
في موضوع الزواج فلن يفوتهم أنك لن تكوني إلا لأحد
أبناء زعيم القبيلة ”
وهذا ما كان ينقص غسق الآن حديثها عن زواجها الذي لا تفكر فيه أساسا ولا يريد أحد أن يفهم وجهة نظرها فيه
وقفت والتفتت ناحيتها وقالت بضيق ” البلاد في ماذا وأنتي
وهم في ماذا يا عمتي ، تذهبين لحضور حفل زفاف ورجال
بلادنا يموتون في الحويصاء كل دقيقة ، بأي قلوب أقاموا هؤلاء المتحجرين أفراحهم ”
هزت تلك رأسها بيأس وقالت ” ومن مات من أجل من ؟
ثم نحن عشنا كل حياتنا في الحروب ما تغير الآن ؟ وإن كنا
نحن مكانهم لأقاموا هم أفراحهم وما اكترثوا بنا ، هل نحن ضربناهم على أيديهم وقلنا تقاتلوا ؟ ”
غصت العبرة في حلقها لتخرج بحشرجة وصوت مختنق
بائس وهي تقول ” كانت مناوشات بسيطة أفراد يُختطفون
أو يموتون على حدود المناطق وليس دماء تسفك هكذا وقبيلة تزحف على حدود قبيلة بالبارود والنار , لا أستطيع أن أكون
هناك عمتي حيث الغناء والرقص فاللذين يموتون في
الحويصاء أبناء بلادي جميعهم ”
هزت رأسها بيأس منها لتنقطع الكهرباء حينها وقالت ببرود ” ها هوا ألغي الحفل الآن فلن أذهب أنا أيضا ”
ثم غادرت الغرفة على ضوء الغروب الخفيف الذي بدأ
يغادر الأفق لتهمس التي عدت تحضن خدها وتهيم بنظرها
للسماء ” لم أفرح يوما بانقطاعها كما اليوم ” وقفت بعدها وطرحت سجادتها رغم أنها صلت المغرب للتو
لكنها عادت للصلاة والدعاء لعل جروح بلادها أن تضمّد
قريبا فالله وحده القادر على كل شيء , وليسافر بها الليل تحاكي
الظلمة الحالكة ولم تشغل ولا حتى كشاف الكهرباء ولم تتناول عشائها الذي رفضته تنتظر أخبارا عما يحدث هناك وهي تعلم
أنها لن تأتيها لغرفتها لذلك زحفت من على سريرها ونزلت منه
وأشعلت شمعة كانت موجودة على الطاولة بجانب السرير إن لزم
الأمر لإشعالها وحال تعطل كشاف الكهرباء , لبست لباس الصلاة الذي أصبح لا يفارق شعرها منذ علمت حقيقتها وخرجت من الغرفة
بخطوات بطيئة كحجم النور المنبعث من شمعتها حتى وصلت السلالم
حيث تسمع حديث والدها وأبنائه في الأسفل فتركت الشمعة على مسافة
منه لتهتدي بها لطريق عودتها وجلست على أول عتبات السلالم من الأعلى واتكأت على حاجزه الخشبي العريض بملامح حزينة تسمع ما
حدث بعدها ولا تعلمه ولن تستطيع النزول والسؤال فالجميع سيقول
أنها ليست عادتها كما قالت عمتها منذ قليل , كان حديثهم واضحا
لها لسكون الليل وهدوء المنزل وانعدام الكهرباء ليصلها صوت رمّاح قائلا ” كنت أعلم أنها ستسقط وأن الحالك سيأخذونها ”
ليعقب عليه رعد بسخرية ” وزعيم هازان خرج منذ ساعات يتحدث
في المذياع أن هزيمتهم ستكون على يده وأن الردم ستعود قبل
المساء ولم يتخيل أحد أن تسقط حتى الحويصاء في ذات اليوم ” جاء حينها صوت جبران الهادئ ” لا تنسى أنها أكثر من
أربعة عشر ساعة من القتال دون توقف ”
ليعقب رعد بصوته الساخر ” زعيم الهازان ذاك جعل
الجميع يسخر منه بخروجه يتبجح بنصره عليهم وكسر ابن شاهين شوكته دون كلام ”
خرج والدهم من صمته أخيرا وقال ” ومنذ متى كان زعيم
الحالك يتحدث وقت قتال جنوده ؟؟ ما سيغيره الآن ”
قال حينها جبران باستغراب ” الجميع لاحظ ذلك وبعض الشائعات تقول أنه يشارك في القتال مع رجاله ”
لتجد غسق نفسها ترهف السمع حينها فعمتها عرفت كيف تجعل
فضولها يتحرك ناحية ذاك الرجل الذي كانت تتخيله في عمر
والدها أو كزعيم قبيلة هازان وليس شابا في منتصف الثلاثين من عمره ولم تسأل نفسها هل هذا فضول فتيات أم أنه قد يتعدى
ذلك يوما وبكثير , لكن ما سمعته كان صوت خطوات والدها
تقترب من السلالم قائلا ” ناموا الآن لا وقت للتفكير في
زعيمهم أين يكون فعلينا سحب الهدنة منه فيبدوا خطره أكبر مما يتوقع الجميع ”
وقفت غسق سريعا وتوجهت لشمعتها وحملتها من الأرض
لحظة ظهور والدها بعد صعوده وتوجه نحوها مبتسما وقال
” ما يوقظ صغيرتي الحبيبة حتى الآن ؟ ” قالت بحزن ودمعة تلمع في عينيها الواسعة على ضوء الشمعة
المرتجفة بين كفيها المرتعشان ” سقطت الحويصاء ؟؟ ”
مسح على رأسها وقال بحنان ” نعم من أقل من ساعة ”
قالت وقد نزلت دمعتها الأولى ” وكم ماتوا منهم ؟ ” أنزل يده من رأسها لكتفها وقال بابتسامة مغصوبة
” من فيهم تعني ؟ ”
قالت بعبرة ” أبناء بلادي ”
تنهد حينها بحزن ومسح دمعتها من فوق خدها قائلا ” لا تتعبي رأسك بهذا يا غسق , ومن قضى أجله
فسيموت بأي سبب كان ”
هزت رأسها برفض ودموعها تزداد انهمارا ليحضن وجهها
بكفه الكبيرة وسحب رأسها ليتكأ على كتفه وقال ” هذا ما كان سيحدث إن عاجلا أو آجلا يا غسق وعلى هذه
الحرب أن تنتهي بانتصار أحدهم ”
قبضت على معطفه بقوة وقالت ببكاء ” لا تقل هذا
يا أبي فهل سيأتي مطر لقتلكم أيضا ” ابتسم بحزن وهوا يمسح على رأس صغيرته المحببة لديه
وقال ” ومن هذا الذي أخبرك عن اسمه ”
ابتعدت عنه حينها وقالت ماسحة لدموعها لتخفي
ارتباكها ” سمعتهم قالوه مرة ” أمسك كفها بين كفيه وقال بهدوء ” لابد أن يأتي اليوم الذي
سنتواجه فيه ومنا الغالب ومنا المغلوب يا غسق , هذه
حقيقة عليك إدراكها كي لا تُصدمي بها فيما بعد ”
هزت رأسها رفضا بقوة تتطاير معها دموعها وارتمت في حضنه لتسقط الشمعة من يدها دون أن تكترث لها وتركتها
تتدحرج على الأرض حتى انطفأت وقالت ببكاء
” ألا حل غير الحرب ؟؟ ألا حل غير الدماء ”
طوقها بذراعيه وقال بهمس ” الله قادر على كل شيء يا غسق فعليك فقط بالدعاء يا ابنتي ”
*
*
” علياااااء أنتي التي اسمك علياء ” كان هذا صوتها الصارخ وهي تنزل بخطوات سريعة من
السلالم تنادي إحدى خدمهم في ذلك المنزل الواسع الكبير
ليتردد صدى صراخها عاليا من شدة اتساعه وخلوه من
الساكنين فبالرغم من اتساع مساحته لا يعيش فيه سوا امرأتان ورجلان ومجموعة من الخدم وبالكاد يظهر كل هذا العدد
في مساحته الكبيرة وغرفه الضخمة بشرفاتها الواسعة
ركضت الخادمة مسرعة نحوها وقائلة ” نعم سيدتي ”
قالت مبتسمة ” أين عمي صقر هل عاد ؟ ” قال الخادمة بهدوء واستغراب ” عاد منذ أمس ”
هزت رأسها بتأفف وقالت ” أعني من المسجد وليس
من الاجتماع ”
قالت من فورها ” سيكون على وصول فالفجر أقيم منذ وقت ” وما أنهت تلك كلامها حتى انفتح الباب ودخل منه رجل رغم
أنه في الستين من عمره إلا أن صحته وقوته تعطيه أصغر من
ذلك بكثير , تقدمت جوزاء نحوه مسرعة وقالت بسعادة
” سقطت الحويصاء يا عمي فعلها مطر , فعلها ابن والدي ” هز رأسه مبتسما وقال ” وما خرج إلا وهوا متأكد من ذلك
فليتعلم أولئك الخونة الدرس هذه المرة ولا يخرقوا تهدئة
وقّع هوا عليها ولو كانت مشروطة ”
عقبت جوزاء حينها بابتسامة انتصار ” تمنيته تقدم أكثر ودكّ حصون مدن قبيلة الهازان وأرانا فيهم يوما كالذي أرونا سابقا ”
ربت على كتفها وقال بهدوء ” أنتي تعلمي وجهة نظر
شقيقك في هذا جيدا ”
قالت بلا مبالاة ” مطر طوال حياته يراعي من يستحق ولا يستحق فكم كان يؤجل هذا اليوم متأملا في الوعود الدولية
التي يقدموها للجميع وكان عليه فعلها دون انتظار لأكاذيبهم ”
هز رأسه دون كلام وتقدم نحو الداخل وهي تتبعه وتعدل من
وشاحها الصوفي على كتفيها وقالت بحماس ” غرب البلاد لا كهرباء عندهم من ساعات , لو كنت مكانه لاقتحمت مدينة
العمران التابعة لقبيلة صنوان كما احتلها هازان منهم بحجة
أنها من حقهم فموقعها لا يقدر بثمن وأصبحت محاصرة
بمدننا بعد الردم والحويصاء ” التفت لها وقال ” لن تفكري أفضل من شقيقك ورجاله ولو
أرادها لأخذها الليلة فيبدوا أنه يدبر لشيء ما ”
نظرت حينها للساعة على الجدار وقالت ” لم يرجع بعد
هل به مكروه يا ترى !! عمتي لا تتوقف عن السؤال عنه ” قال صاعدا السلالم ” اتصل بي منذ قليل وهوا بخير ولن
يترك رجاله والمدن الآن بالطبع حتى يطمئن أن الأمور
ستستقر لنا هناك ”
وصعد السلالم وتركها خلفه تضم يديها لصدرها وتهمس بانتصار ” لو فقط يأتي اليوم الذي تأخذ فيه الشرق كله يا مطر
وتدك مدن الغرب بعده , لو يأتي ذاك اليوم فقط وأراكم يا
صنوان تبكون دما كما أبكيتموني على طفلاي ووالدهم
وأنكرتموني وحرمتموني منهم فقط لأني ابنة الحالك وهم أبناء صنوان , لو يأتي ذاك اليوم سريعا ”
*
*
* بين حركة وضجيج الطالبات وأصواتهن المرتفعة والضحكات
العالية كان ثمة من تجلس مستندة لأحد الجدران يداها تعبث
بشيء ما فيهما ولا تشارك بشيء سوا الاستماع لبعض تعليقات
الطالبات , كان الجو أشد بردا من باقي كل أيام الأسبوع ولأن المدرسة مخصصة للإناث فقط فهي استبدلت الحجاب بالقبعة
المصنوعة من الفراء الطبيعي التي جلبها لها رمّاح في آخر مرة
خرج فيها من البلاد , بل ولبست حتى القفازات التي صنعتها لها
عمتها ورفضت مرارا لبسها لأنها تضايق حركتها , كانت تحاول جمع صورة المكعب في يدها وتعيد وتكرر , اللعبة المحببة لها
ولا تفارقها أبدا , ليست مناسبة لسنها لكنها مرتبطة بماضيها
وذكريات طفولتها بشكل كبير , اعتزلت الجميع اليوم وهي ترى
فيهم عالما مختلفا عنها وهم في حديث مستمر عن الحرب التي دارت بالأمس , عن سقوط الردم والحويصاء فبعضهن يتناقل
أخبارا سمعنها من أبائهم وإخوتهم عن تفاصيل ما حدث في
جبهة القتال والبعض الآخر يصحح معلومات وصلت بالأمس
لهن وبعض الضحكات الساخرة شمتت في قبيلة هازان وقلن أنهم يستحقون ذلك وبعض الأحاديث المتفرقة عن خبر أن زعيم
الحالك كان في الخطوط الأمامية وأنها ليست المرة الأولى التي
يشارك فيها مع جنوده فقد قاد المعارك دوما , وبين مكذب ومصدق
للخبر لازالت تلك الأصابع الثلجية التي احمرت مفاصلها وأطرافها من البرد بعدما نزعت قفازاها تعبث بذاك المكعب المقسم لمكعبات
مرتبطة ببعضها وتحاول أن تفسر فقط لما لا يفكر الجميع مثلها ؟
لما صرنا كالأعداء ؟؟ لما لم يفكر أحد أن من ماتوا بالأمس جميعهم
أبناء وطن واحد والأقسى أنهم أبناء ! وطننا فهل لأننا تأذينا يوما وبشكل كبير من قبائل الشرق يعطينا ذاك الحق في أن نشمت في
موتهم ودمار مدنهم ؟؟ وإن كنا نحن مكانهم هل سيشمتون فينا هم
أو الحالك ؟؟ هل كل ما أصبح يعنينا الآن رد الدين ولو على يد
غيرنا والتسابق لجلب الأخبار الصحيحة حتى أصبحت التعليقات التي تذكرنا بأنها مأساة تعيشها البلاد تقل وتقل مع زوبعة تناقل
أخبار الجبهات ؟ حرّكت المكعب بقوة كقوة مشاعرها وأفكارها
وهي تهتف في داخلها بألم ( هل أصبحت بطلا يا مطر حد أن
يفرحوا هنا بانتصارك وأنت قد تدك مدنهم أيضا في أي وقت أي سلطة لك على أفكار الجميع حولك تحولك من عدوا لبطل )
وفي غمرة كل تلك الأفكار أخرجتها من ذاك العالم اليد التي
أمسكت بكتفها والصوت الهادئ الذي اخترق سمعها قائلا
” ما بها حسناء صنوان جالسة لوحدها اليوم ” دست مكعبها في حقيبتها وقالت بهدوء ” لا رغبة لي
بمشاركتكم حديثكم هذا ”
جلست أمامها وقالت مبتسمة ” هذا حدث الساعة وسينساه
الناس بالتدريج , فكيف لأخبار قوية كهذه أن يستقبلها الناس وكأن شيئا لم يكن !؟ ”
أغلقت حقيبتها بعنف وقالت ” لا أحد يقول خسرنا أبنائنا
وأرواح شباب بلادنا , لا أحد يكترث يا جليلة ”
حركت تلك يدها بتلقائية وقالت ” أنتي فقط عاطفية كثيرا يا غسق فمن عاش حياته هكذا في الكر والفر والحرب وشبه
السلم سيكون اعتاد وتأقلم ولا تنسي أننا كنا مكانهم يوما
وهم يغيرون علينا ”
وقفت حينها لتنهي هذا الحديث وقالت ” سأرى والدي إن أتى لأغادر ”
وتحركت لتتبعها تلك قائلة ” غسق انتظري هل
ستأتي لمنزلنا اليوم ؟ ”
قالت وهي تضع حقيبتها على كتفها ونظرها على باب المدرسة ” لا أعتقد فلا مزاج لي ”
أسرعت جليلة الخطى حتى وصلت عندها وأوقفتها قبل أن
تخرج وقالت ” وثّاب أوصاني بشيء لك ”
تأففت في وجهها دون أن تخفي ذلك عنها فقالت تلك مبتسمة ” لا تقلقي يا ابنة خالتي فالجميع بات الآن مقتنعا أنك ضعت
من أيديهم , فبعدما ظهرت حقيقة أن أشقائك ليسوا بأشقائك يئسوا
من حلم الزواج بك فبالتأكيد لن تتركي أبناء زعيم القبيلة من
أجل أي كان ولا هم سيتركونك بالتأكيد خصوصا أن ثلاثة منهم أكبر منك سنا ”
قالت بضيق ” جليلة لا أريد الحديث في كل هذا أرجوك ”
أخرجت ورقة مطوية من حقيبتها ودستها لها في جيب الحقيبة
كي لا ترفض أخذها وغادرت قائلة ” أصبح لدينا أمل أن تلتفت النساء وأبنائهم لنا ”
فهزت غسق رأسها بيأس من أفكار هؤلاء الفتيات التي لا أمل
أن تتغير أبدا ولا أحد يريد أن يقتنع أن آخر ما قد تفكر فيه
الزواج فهي ليست على استعداد أن تترمل وتيتم أبنائها والبلاد بهذا الوضع بل كيف تفرح وتقيم زفافا والناس تموت بل وأخوتها
آخر من قد توافق أن يكون أحدهم زوجا لها , سرقت نظرة للشارع
لتلمح سيارة والدها تقف للتو فأخرجت الوشاح الصوفي الطويل
ولفته على عنقها لتستره أيضا وخرجت لوالدها , فبالرغم من أنه زعيم القبائل هنا إلا أنه لا يطمئن عليها إلا وهوا يأخذها بنفسه
حتى أبنائه لا يتركهم يوصلونها إلا في الضرورة فكيف بسائق
حافلة أو سائق خاص , وصلت السيارة وفتحت الباب وركبت
فشغّلها مجددا وقال مبتسما ” نسينا شيئا أم لم ننسى ؟؟ ” التفتت نحوه وقبلت خده وقالت مبتسمة ” بلى لم
أنسى وحقيبتي السبب في تأخرها ”
وما كانت غسق ستنسى تقبيل أعز الناس لديها إلا بانشغالها بأمر
مهم فهي كانت منشغلة بالورقة التي تذكرتها وهي تركب وتأكدت منها مخافة أن تقع ويراها والدها أو تنساها هنا ويجدها جبران فيما
بعد , تحرك بالسيارة لتبدأ الرحلة التي ستأخذ منهم قرابة الساعة
والنصف لأن هذه أقرب مدرسة لهم بعدما قلصوا عدد المدارس
لأكثر من النصف بسبب الأوضاع والإمكانيات المادية ولأن زعيم القبيلة تصرف بعدل فهوا اختار المدارس الكبرى لديهم
واستثنى حتى المدرسة القريبة لهم في نفس مدينتهم كي لا ينحاز
من أجل ابنته التي ضاع عليها عامان في السابق لتدرس الآن مع
من يصغرونها بعامين , وليس حالها أفضل من غيرها فمعها يدرسن من هن أكبر منها حتى لثلاث أعوام فقد أصبح كل
الغرض إنهاء الدراسة ولا أحد يسأل هنا عن سن الطالبات
مضت الطرق سريعا كالعادة لأن هذا الرجل بوجود ابنته
يصبح شخصا آخر ولا يتوقف عن الحديث معها في كل شيء باستثناء الحروب والسياسة كعادتهما فلشدة حبه لها ولمعرفته
مدى تأثرها بهذه الأمور وكرهها التحدث عنها لا يفتح هذه
المواضيع معها أبدا لذلك فهذا الجليس بجوارها بالنسبة لها
يساوي الدنيا وما فيها , عندما اقتربا من المدينة التفتت له وقالت ” أبي هل نحن من أخرجنا الاحتلال أم خرج لوحده ”
قال ونظره للطريق ” الحكاية متشعبة ومعقدة لكني سأبسطها لك
كان الجنوب مقاوما شرسا للاحتلال , نحن غرب البلاد تمكنوا
منا واستوطنوا لدينا فكل ما كان بوسعهم تقديم المعونة والمعلومات لإخوانهم هناك ”
ابتسمت حينها بحب وقالت ” كم هي رائعة منك كلمة
إخوانهم هناك يا أبي , نعم جميعنا إخوة أليس كذلك ”
قال مبادلا لها الابتسامة ” نعم ومهما طال الزمن وتقاتلت الناس سيعود كل شيء كما كان ونرجع أخوة وبلاد واحدة ”
عادت للصمت وعاد هوا لمتابعة حديثه قائلا ” كانت قبائل
الجنوب تقاوم باستماتة والجد الثاني لشاهين والد زعيم الحالك
الحالي كان يقودهم وكان مشهورا جدا لكن الاحتلال يا ابنتي لا أحد يقدر على إخراجه , بعض الدول رفضته وحاربته وإن
كان لا أمل في إخراجه من بلدانهم والبعض الآخر انصاعوا له
وعاش بينهم حتى أنهم درسوا لغته , ومع تعاقب الأعوام بدأت
الدول الكبرى بسحب نفسها من الدول العربية في قانون دولي يمنع أي دولة من أن تحتل أخرى وألغي الاحتلال وخرج
الاستعمار من جميع الدول العربية ونحن من ضمنهم ”
نظرت ليديها في حجرها وقالت بحزن ” لكني أرى بعض
البلدان لازالوا يحتلونها تحت مسميات أخرى ” نظر لها ثم عاد بنظره للباب الذي فتح لسيارتهم وقال وهم
يعبرون خلاله ” نعم فبحجة محاربة الإرهاب أصبحنا نرى
أشكالا للاحتلال تعود وما باليد حيلة يا ابنتي ”
وقفت حينها السيارة أمام المنزل ونزلت منها بعدما قبلت جبينه ودخلت ليغادر هوا من فوره , فبالرغم من أنه يستقطع
ثلاث ساعات في اليوم من أجلها وهوا بحاجة لكل دقيقة لتسيير
أمور مدنه ومتطلباتها إلا أنه على استعداد لفعل الأكثر لو فيه
مصلحتها , بينما دخلت هي وصعدت لغرفتها فورا ورمت حقيبتها والقبعة والشال الصوفي ثم معطفها الشتوي ودخلت الحمام لتستحم
وتصلي الظهر وتدعوا الله أن ذاك الأمل الذي غرسه فيها والدها
بالسلام قادم يوما ما وأن يكون حقيقة ولا يتأخر كثيرا
* *
*
بعد يومين آخرين وفي غمرة ما كان لكل قطر من تلك البلاد
نصيبه من التوتر والترقب كان أكثرها توترا تلك الحدود الجديدة وهي لازالت تعيش بين الدفاع والهجوم وبعد ثلاث محاولات فاشلة
لاسترجاع الحويصاء والردم وعند أعلى صخرة في ذاك المنحدر
كان جالسا وعيناه تراقب من منظاره اليدوي تجمعات تلك الجنود
وحركتها البعيدة ثم أنزل المنظار ووقف ونزل وهوا يزيل لثامه بإنزال طرفه للأسفل لتحضن العمامة ذقنه محيطة بوجهه كاملا
فلم يعد من داع لإخفاء هويته بعدما أصبحت الناس تتناقل
أخبار وجوده مع الجنود وستصبح تحركاته مراقبة وقت القتال فيما
بعد , نزل وسار بثقته المعهودة بين الأعين التي تنظر بدهشة كبيرة للقائد الذي كشف عن نفسه أخيرا بل لأنه زعيم قبائلهم وليس سواه
وقف بينهم وقال بصوته الواثق الحازم الممزوج بتلك البحة ” تحولوا
لوضع الدفاع , نجحنا يا رجال وهذه أصبحت حدودنا الجديدة ”
ثم تجاوزهم على صوت الهتاف والصراخ ابتهاجا بالنصر وسار مبتعدا عنهم واثنان يتبعانه وقال دون أن يلتفت لهم ” سأرجع
لحوران وسأعود لكم قريبا فكونوا متيقظين ”
قال أحدهما وهما يجاريان خطواته السريعة الواسعة ” ماذا عن
مدينة العمران سيدي ؟ ضننا أنها حربنا القادمة بما أنها أصبحت بين فكينا وهم يتمترسون فيها ”
قال متابعا سيره ” ليس الآن تلك لها جولة أخرى ”
ليركب بعدها السيارة ويغادر وتركهما واقفان خلفه دون حتى
أن يوضح معنى كلامه فهوا عُرف هكذا دائما حتى أجوبته على الأسئلة أوامر ملقاة وعليهم الطاعة ودون نقاش ولا استفسار
ركب السيارة وغادر المكان وأخرج هاتفه الذي يعمل عن طريق
الأقمار الاصطناعية فهذه البلاد بسبب الحروب لم تصلها تقنية
الهواتف المحمولة , فأي شركة اتصالات ستعمل هناك وكيف ؟ ولا وسيلة لديهم سوا الهواتف الثابتة في المنازل والمكاتب والأماكن
العامة والتي تكون اتصالاتها مقطوعة أغلب الأحيان بسبب
انقطاع الكهرباء , ما أن وضع الهاتف على أذنه حتى قال
من في الطرف الآخر ” مرحبا سيد مطر شاهين معك مكتب وزارة الداخلية لـ…. نود إعلامك بأهمية حضوركم لمؤ… ”
فقاطعه حينها قائلا ببرود ” بلغهم رفضنا الحضور ”
قال من فوره ” لكن سيدي … ”
ليقاطعه بصرامة ” قلت لن أحضر وليفعلوا ما يحلوا لهم , أين كانوا حين بدأت هازان بخرق الاتفاق وقتل رجالي على الحدود
ونحن في صفقة تبادل الأسرى المزعومة والتهدئة المؤقتة , قلت
لن أحضر فليجتمعوا وحدهم , والحويصاء أصبحت حدودنا
الجديدة وفي حال طالبوا بتفاوض من أجل مدينة العمران سأفكر أن أكون هناك وغيره لا ”
ثم أنهى المكالمة وأعاد الهاتف مكانه وتابع طريقه الطويل يضغط
بقبضتيه كل حين على المقود بقوة وأفكاره تأخذه لتلك السنين ومن
بينها خرقهم للهدنة حين ضربوه بل طعنوه في ظهره وهوا من ظن أن الجميع مثله يحترم العهود والمواثيق الدولية , فأين كانوا
وقتها ومن أخذ بحق الجنوب من الشرق ؟ فهذه القبضتان القويتان
لم تعودا تريدان شيئا سوا فتح باب آخِر بيت في مدنهم وسيحدث
ذلك لا محالة ( سيحدث إن قريبا أو بعيدا ) تلك هي الجملة التي يأمر بها عقله كلما أسهب في التفكير كي لا يضع حدا له يوما ما
فخطوته الجديدة أشد حسما وستحدث بلبلة أشد من هذه بكثير
*
* *
أغلقت النافذة تدعوا الله أنّ رش هذا المطر لن يقوى أكثر ويعيق
رجوع والدها فهي لا تطيق أن تحجزه الأمطار عنها لأيام , كانت
تراقب السحابة السوداء الداكنة وتحاول أن تقلد عمتها حين تُقدّر كم سيطول بقائها وقوة مطرها من كثافة لونها وسرعة حركتها
لكنها وجدت تفكيرها يأخذها لما تتمنى هي وباتت تراها خفيفة
وسريعة الحركة , طرق أحدهم بابها طرقات خفيفة فأسرعت
لوشاحها وغطت به رأسها فلابد أنه أحد أخوتها , وما أن انتهت من لفه وهي تتوجه له حتى انفتح الباب وكان شقيقها الأصغر
كاسر فابتسمت له من فورها تبادله ابتسامته الرقيقة وهوا يقول
داخلا ” أين الأميرة الحسناء تسجن نفسها عنا اليوم ؟ ”
وماتت ابتسامتها وهي تنظر للباس العسكرية الذي يلبسه وقالت بحزن ” يبدوا أنك ذاهب للحدود ؟ ”
مسح بيده على وجهها وقال ” نعم وجئت لأراك , وأخويك
الآخران ينتظرانك في الأسفل ”
ترقرقت حينها الدموع في عينيها وقالت بعبرة ” جميعكم ذاهبون ؟ ”
أمسك أنفها وقال مبتسما ” نعم ولا تبكي سنتفقد الأحوال
هناك ونرجع , لن نحارب ”
احتضنته متعلقة بعنقه وقالت بحزن ” كم أكرهكم بهذا اللباس ” ضمها لحضنه بقوة وقال مبتسما ” تكرهين اللباس وليس نحن
ولن تؤثر فينا كلماتك فنحن رجال والرجال لا يخافون
الموت يا غسق ”
كان تعلقها بأخوتها كبيرا لكن كاسر له المكانة الأكبر فقد كان أقربهم لها فهي تصغره بعام ونصف فقط ومن صغرهما كانا
مرتبطان ببعظهما كثيرا وزيادة على ذلك أن والدتها أرضعته
فور ولادتها فأصبح الشقيق الوحيد لها في هذه الحياة وإن
كان بالرضاع فقط , أبعدها عن حضنه قائلا بابتسامة ” على هذا الحال لن أغادر فاتركيني يا متطفلة ”
مسحت عينها وعلى شفتيها ابتسامة حزينة فكم كانت تكره
في صغرها مناداته لها بالمتطفلة حين كانت تتبعه لكل مكان
وتريد معرفة ما سيفعل , قال وهوا يمسح على خديها ” انزلي فشقيقاك ينتظرانك ”
خرجت حينها ركضا وتركته خلفها ونزلت السلالم مسرعة
تمسك وشاحها على رأسها حتى أصبحت خارج باب المنزل حيث
يقفان رمّاح ورعد في انتظار شقيقهم لينظم لهم وشقيقتهم لتوديعها قبل ذهابهم لأيام لحدود مدنهم الشرقية والجنوبية , وقفت أمامهم
والبدل العسكرية تحضن أجسادهم وأكتافهم العريضة ودموعها
تمسح تلك الأجساد تنزل متناثرة كرشات المطر فوقهم , قبّل
رمّاح جبينها وقال مبتسما ” يكفي بكاء نخاف أن تغار منك السحابة وتقوي ضخها علينا ”
ضحكا معا لتشاركهما ضحكة كاسر الخارج خلفها للتو وقبّل
رعد أيضا جبينها وقال بهدوء ” ما الداعي لكل هذا الآن
وكلها جولة تفقدية وسنرجع ” وغفل الجميع في غمرة مزاحهم محاولين تبديد حزن شقيقتهم الواقف
هناك عند السيارة تحت المطر ولا يعجبه شيء مما يحدث ناحيتهم
( لما يقبلان جبينها يكفيهم توديعها ويغادرون ) حيث لم يكن يحترق
إلا وحده فهم يعتبرونها شقيقتهم الصغرى , ولو كان لهم شقيقة ما أحبوها مثلها , وليزيد اشتعاله احتضان كاسر لكتفيها لتتكئ برأسها
على كتفه فها هوا ثالثهم يمارس ما يشغف هوا له ومحرّم عليه من
قبل حتى أن تعلم هي حقيقة أنهم ليسوا أشقائها لأنه كان يعلم
ما لا يعلموه , قال رعد مازحا ” يكفيكما يا عصافير كلها جولة تفقدية وسترجع لشقيقتك ”
ابتعدت حينها عن كتفه وقالت ” إن حدثت أي مواجهات
فاهربوا سريعا وعودوا ”
لينفجر ثلاثتهم ضاحكين وسط نظراتها الغاضبة لهم ثم تحرك رمّاح قائلا ” هيا يا شباب سنتأخر ويأتي والدي ويجدنا هنا
ومن ينجينا من توبيخه حينها فمدللته هذه لن يقول لها شيئا ”
فتبعه رعد أيضا وركبا سياراتهم وقبّل كاسر جبينها ولحق بهم
ولم يبقى سوا جبران الواقف هناك , الأخ الرابع والأكبر والغير راض أساسا على بقائه وذهابهم بدونه لكن والده يعتمد عليه كثيرا
في شئون الداخل فهوا أقربهم له في جميع جولاته داخل المدن
والقبائل , وعلى الطرف الآخر بقيت الواقفة تحت مضلة الباب
تراقب عيناها الدامعتان سيارات أخوتها تخرج تباعا من الباب الكبير لسور المنزل ثم رفعت عينها للسماء ترجوا الله في حديث
صامت أن يحفظهم حتى يعودوا , ثم دخلت ركضا وصوت عمتها
يناديها دون حتى أن تنتبه لمن كانت عيناه تراقب أدق حركة لها
وتصهره حتى بمعانقة بحرها الأسود للسماء , دخلت مسرعة تمسح عينيها حتى وصلت للسلالم تستقبل النازلة من هناك
التي قالت فور أن وصلت لها للأسفل ” هل غادر شقيقك
وأخويه ”
قالت حينها غسق مصححة لها ما تقصد من كلامها ” نعم غادروا أشقائي الثلاثة منذ قليل ”
أمسكت يدها وقالت ” تعالي إذا هناك ما أود أن نفعله معا ”
فتبعتها متأففة وهي تعلم جيدا ما تريد فعله في غياب الجميع
أجلستها في غرفتها وبدأت بتحريك تلك المبخرة حولها والدخان يتصاعد منها وعينا غسق تتبعان حركتها ثم قالت بضيق
” عمتي كم مرة قال لك والدي لا أريد هذه الرائحة في المنزل ”
قالت وهي لازالت تلف بها حولها ” هذا لأنه لم يرى أعين
النساء تلتهمك البارحة في منزل خالتك , لو علمت أنهم جمعوا جيرانهم ما تركتك تذهبين متأنقة هكذا , ظننتها هي وبناتها
فقط , الله أكبر من أعينهم كادوا يأكلونك بها ”
قالت غسق ببرود ” أخشى أنك بعد عام ستصبحين كقطاط ذاك ”
وضعت المبخرة جانبا وقالت بضيق ” غسق إنسي كل ما قلناه يومها , العِبرة من الحكاية ووصلتك والحديث في
كل ذلك ممنوع مفهوم ”
تنهدت وقالت ” مفهوم عمتي مفهوم ”
رواية جنون المطر(الجزء الأول ) للكاتبة برد المشاعر
الفصل الثانى
الفصل الثاني
مدخل انا …. ابحث عن رائحة امي ، عطر ابي ..و عبق اهلي ..
انا غسق ..
****** وسط سكون ذاك المنزل الكبير والإضاءة المسائية الخفيفة
التي يعتمدها الجميع هنا من أجل توفير الكهرباء ، كانت جالسة
تتسلى بهوايتها المفضلة ورغم نصائح الأطباء لها بأن تتجنبه
قدر الإمكان بسبب تحسس جهازها التنفسي منه لازالت هدايا مشغولاتها الصوفية تصل للمقربين لها دائما ولازال عمها
لا يلبس شتاءا سوا الجوارب الصوفية التي تحيكها له بيديها
وحتى شال عمتها تجدده لها كل عام .
تنسج ومع كل حركه لمسمار الحياكة ولف للخيط بين يديها تحكي عيناها له ذكرى صُنعها لهذه الأشياء لابنيها وزوجها اللذين حرمها
منهم تجدد الحروب وخرق الهدن من عشر سنين ولأنه من صنوان
وهي من الحالك كان مصيرها كالعشرات غيرها أصبحت هي في
مكان وزوجها وابنيها في مكان آخر لا يمكنها حتى تقصي أخبارهم والسؤال عنهم , وهذا دائما مصير الأنساب بين القبائل
حين تتحول البلاد لحرب دامية , فمن أكثر من عشرة أعوام
تزوجها أحد كبار قبيلة صنوان كإثبات لعودة وحدة البلاد ولو
جزئيا ليفتحوا الأبواب لزيجات أخرى ممن تحركت فيهم النخوة لتقليد ذاك الرجل وكان الخبر بالنسبة للجميع فرحة لا توصف
وأمل أشرق حديثا في دعوة لنسيان الدماء والأحقاد لكن النتيجة
كانت مدمرة لهذه العائلات حين دارت رحى الحرب مجددا بسبب
قبائل الهازان في الشرق لتدفع تلك النساء الثمن سريعا بأن حرمن من أطفالهن صغارا وأغلبهن تُركن هكذا معلقات لا فرصة لهم ولا
في الزواج من جديد ، كهذه المرأة التي أصبح ابنيها الآن في
العاشرة والحادية عشرة من العمر وهي لم تراهما من عشر سنين
توقفت أفكارها مع توقف حركة يديها وأنزلتهما لحجرها حين سمعت حركة عجلات الكرسي المتحرك خلفها وهي تقترب
ناحيتها فالتفتت للخلف وابتسمت للجالسة عليه تدفعها به إحدى
الخادمات حتى أوصلتها عندها وغادرت لتبتسم لها قائلة
” من علّم عمتي السهر على غير عادتها ” فبادلتها عمتها الابتسامة محركة مسبحتها بيدها لتفك التشابك
البسيط في خرزاتها وقالت ” ومن يأتيه النوم مع صوت
هذا المطر القوي ”
ثم أردفت قائلة ” هل عاد شقيقك ؟ ” هزت تلك رأسها بلا وقالت وقد عادت بنظرها ليديها اللتان رفعتهما
تنهي حياكتها ” سيكون وصل لحوران منذ الصباح وتعرفي ابن
شقيقك جيدا سيمر بجميع حقول مدننا الشمالية بما أن المطر
وصل لأقوى حالاته وقد لا يرجع قبل الفجر ” انفتح الباب حينها ودخل محور حديثهما للتو وأغلقه خلفه بقوة
كقوة الرياح الماطرة التي تحاول فتحه لتتسلل معه للداخل وتابع
طريقه للسلالم المجاورة له فورا وصعد قائلا بصوت وصلهما
بوضوح رغم انخفاضه ” السلام عليكم ”
وتابع صعوده دون أن ينظر ناحيتهما ولا أن ينتظر ردهما
لسلامه فقالت عمته بابتسامة تشاكس بها الجالسة أمامها
” علمتُ الآن لما جعل السلالم قريبا من باب المنزل كي يصعد مباشرة ولا يرانا أنا وأنتي ”
هزت جوزاء رأسها بيأس وقالت ” وكأنه لم يكن في
حرب وغائبا عنا لأيام ونحن نأكل أنفسنا انشغالا عليه ”
تنهدت الجالسة أمامها وقالت وهي تدير إحدى خرزات المسبحة بين أناملها ” تعرفين طبائع شقيقك جيدا فما
سيغيره فجئه ؟ ”
قالت بامتعاض ” بل ما أعرفه أن والدي صنع منه ما
يريد وقتل فيه ما نريد نحن وهذا يكفي ” هزت العمة رأسها وقالت بهدوء ” جيد أنك لست
زوجته فما كنتِ ستصنعين بنا ؟ ”
ضمت مساميرها مع بعض ولفت حولهما باقي خيط الصوف
ثم لفتهم في القطعة التي تحيكها وقالت وهي تضعهم على الطاولة بجانب كرسيها ” فليرضى هوا ويتزوج وليفعل بها
ما يحلو له وإن وضعها أمام الباب وداس عليها وصعد ”
ضحكت عمتها وقالت ” شقيقك هذا لن تغير أفكاره ناحية
الزواج والنساء ولا حتى حسناء صنوان ” لوت جوزاء شفتيها وقالت بتذمر ” يا حسناء صنوان هذه
التي أصبحت مضربا للمثل حتى هنا في الجنوب ”
قالت تلك محركة لخرزات المسبحة ” وكيف لا يصفون ابنة
زعيم صنوان بحسنائهم وهي فاقت جمالا كل نساء قبائلهم وفيها كتب أحدهم قصيدة حفظها الكثيرين وطردوه أشقائها
وأبناء عمومتها من البلاد بأكملها متوعدين بقتله , وتذكرين
مثلي حين رأيناها في اجتماع المهادنة ذاك من أربع سنين
وأقسم أنها تستحق ما يقال فيها ووصفها بالحسناء قليل ” رفعت حينها جوزاء نظرها في النازل آخر عتبات السلالم
ولم يشعرا به يحمل في يده مجموعة أوراق فتح باب المنزل
وخرج منه ويده الأخرى لازالت تمسك الباب يُحدّث أحدهم
في الخارج ولم يفته طبعا حديثهما الذي وقع في أذنه مباشرة لكن عقله لم يعر الأمر أي اهتمام ليس لأنه كلام سبق وسمعه
عن تلك الابنة ومن رجال من أكابرهم بل لأن هذه الأحاديث
بمجملها آخر اهتماماته فلم يعرف الخوض فيها منذ ولد ويكره
تحدث الرجال في أمور هامشية مثل مفاتن النساء ويرى أن الحرب والنساء لا يجتمعان على رجل إلا وخرج دون كليهما
وهوا يرى نفسه رجل حرب ورجل الحروب لا حاجة له بالنساء
أغلق الباب وصعد مجددا ونظرات الجالسة مقابلة له لازالت
تراقبه وقالت بضيق ما أن صعد ” انظري لعمامته تقطر ماءً على جبينه وفكيه ولم يكلف نفسه عناء نزعها بعد صعوده
لو كانت له زوجة لنزعتها منه رغما عنه ”
حركت المقابلة لها عجلات كرسيها للخلف قليلا قائلة بابتسامة
وبنبرة تقصد بها إغاظتها ” قد تكون حسناء صنوان لم تتزوج بعد فلنقنعه بها يجعلها صفقة مهادنة معهم ويتزوجها
لتنزع عمامته كلما تبللت ”
وقفت حينها جوزاء وأمسكت بمقابض كرسيها وقالت وهي
تحركها به ” يبدوا أن النعاس بدأ يداهمك وبدأت تخرفين لن يكون ابن والدي الذي أعرفه إن ربط مهادنة بزواجه
بامرأة وإن عرضها عليه زعيم صنوان عرضا ”
*
* *
نزلت السلالم بهدوء بعدما علمت من الخادمة أن والدها
وصل منذ قليل وأنه في الأسفل , وما أن وصلت منتصف
السلالم وجدت جبران جالسا معه فجلست حيث وصلت حتى يغادر ابنه أولا فحديثهما كان يدور عن شؤون قبائلهم ومدنها
ومؤكد لن يطول ولا تريد النزول وجبران هنا تجنبا لتجنبه
لها وقد حالفها الحظ أن نزولها لم يكن قبل ذلك بقليل حين كان
جبران يخير والده بين أن يزوجها له أو يتركه يذهب للحدود دون عودة , قال شراع بجدية ” الحال لن يدوم هكذا ومع ترديه
قد يتحول للأسوأ , إمداد الكهرباء أصبح محاطا بمخاطر كبرى
ولن تقدم الدول المجاورة الدعم دائما , محاصيلنا في تناقص
ولدينا مشاكل معقدة في المستلزمات الطبية وجرعات لقاحات المواليد الجدد , يرى مشايخ أجواد جمع المال من الناس رغم
أن الناس أحوج منا للمال , سأسافر اليومين القادمين لبحث حلول
لهذه المشاكل قبل أن تستعصِ أكثر خصوصا بعد إغارة ابن شاهين
على الهازان فقد أصبحت المواقف الدولية في تذبذب وقد رفض حضور الاجتماع الطارئ الذي كانوا سيعقدونه من أجل ما
حدث ويطالب بالمفاوضة على العمران ”
قال جبران ” تفكيره أبعد مما توقعنا !! ثم العمران لنا
لا هي للشرق ولا للجنوب ” تنهد واتكأ لظهر الأريكة وقال ” كانت لنا ويبدوا أنها ستصير
له إلا إن قدّم له الهازان تنازلات ترضيه ليتركها , العمران
نقطة محورية إن أصبحت في قبضة ابن شاهين سيكون دورنا
أيضا في التحرك على حدودنا لأن نواياه حينها ستكون غير متوقعة وعلينا أخذ الحيطة والحذر , ولا تنسى أنه في الشرق
بؤرة للإرهابيين في جبال أرياح وإن رأى المجتمع الدولي
أن ابن شاهين قادر على دحرهم أيضا سيقفون في صفه
في زحفه على الشرق وإن من تحت الطاولات ” قال جبران بنبرة استغراب ” أريد أن أفهم فقط كيف
يديرون مدنهم ونحن هنا الذين في شبه سلم معهم نكاد
نجن ولا نجد حلولا لكل مشاكلنا !! ”
قال شراع بهدوء ” كل منهم تجد له ما يكدره , ومسئولية إمساك بلاد تعاني حربا ليس بالأمر السهل ولا يستلمها إلا
من كُتب له الشقاء ”
وقف حينها جبران وقال ” هل تأمرني بشيء ؟ ”
هز رأسه بلا دون كلام فقال مغادرا ” فكر فيما تحدثنا فيه إذاً لأني بالفعل أريد أن أكون معهم هناك ”
ثم غادر مبتعدا ونزلت حينها التي أتعبها الجلوس هناك وسماع
أخبار الحرب والموت , وما أن شعر بها شراع حتى قال مبتسما
” تعالي هنا وأخبريني ما سبب رفضك للطعام الليلة ” قبلت رأسه وجلست بجواره وقالت ” لا رغبة لي
في تناوله ولا سبب آخر ”
قال مبتسما ” في عينيك كلام فقوليه بسرعة
فوالدك يريد أن ينام ” هزت رأسها بحسنا وقالت ” سأقوله لكن لدي شيء
غيره نتحدث فيه أولا ”
أمسك خدها بكفه وحرك إبهامه تحت جفنها لتتابع حديثها
فقالت ” لما لا تتزوج بدلا من هذه الوحدة فوالدة أشقائي رحمها الله مر عامان على وفاتها ”
ثم تابعت مبتسمة ” أريد طفلا أتسلى به وقت فراغي ”
أبعد يده عن خدها وضحك وقال ” طفل في هذا العمر وزواج
ويفترض بي أن أزوج أبنائي اللذين أصغرهم أصبح في منتصف الثانية والعشرين ”
قالت بإصرار ” وإن يكن , أنت لست كبيرا ومن
حقك أن تتزوج ”
أمسك كفها بين كفيه وقال بهدوء ” وأجلب لك من تكدر صفوك من جديد وتضع رأسها من رأسك وتغار منك
هل هناك من تجلب الهموم لنفسها ؟ ”
ضمت يده بيدها الأخرى وقالت باستياء ” ولما ستغار
مني ؟ أنا ابنتك ولست زوجتك ” ضحك ورفع يديه وقبل كفها الناعم ثم قال ” وزوجتي رحمها
الله كانت تغار منك وهي تعلم أنك لست زوجتي ”
عقدت حاجبيها وقالت برجاء ” ذلك كان بسبب والدتي التي
نزلت عليها ضرة وليس غيرة مني فلا تغلقها من جميع أبوابها أبي أرجوك ”
هز رأسه بلا وقال ” ما كانت غيرة من والدتك وهي ترفض
حتى أخذك للحفلات معها وتتضايق من جلوسي معك ومن
حديث الناس عنك , لن أتزوج بأخرى تضايق صغيرتي أبدا ” تنهدت بيأس وقالت ” وإن تزوجت أنا وخرجت
من هنا هل تتزوج أنت ؟ ”
ضحك وقال ” هل ستوافقين على الزواج فقط لأتزوج ؟ ”
رفعت خصلات غرتها خلف أذنها وقالت ” نعم من أجلك أفعلها ” قال مبتسما ” حتى إن كان الزوج أحد أبنائي ”
ماتت حينها ابتسامتها ولاذت بالصمت فمسح على شعرها وقال
” وصلني الجواب يا غسق وبغيرهم لن أزوجك والبلاد في هذا
الوضع المتذبذب , فلن تحصي عدد من يخطبونك مني حتى في مجالس شيوخ القبيلة , منهم من أراد نسبنا ومنهم من أراد حسنائنا
ورفضتهم جميعهم ولن أسلمك لأي كان فقط لكي أتزوج , وأحترم
نظرتك لأبنائي على أنهم أخوة لك لا أكثر فالذنب كان ذنبي
منذ البداية ” تنهدت حينها براحة لأن جبل الزواج انزاح من على كتفيها
أخيرا رغم الحزن الذي غمرها برفضه فكرة أن يتزوج ثم
قالت بيأس ” ألا أمل أبدا في أن تغير رأيك ؟ ”
أدخل يده في جيبه وأخرج منه شيئا وضعه في كفها وأغلقه عليه بيده وقال ” لا أمل , وعلمت من عمتك أن ابنة إحدى
أخوالك ستتزوج وأعلم أنك لن تطلبي مني ”
قالت محاولة إعادتهم لكفه ” أبي أقسم أني لا أحتاج
شيئا فاترك النقود معك أفضل ” استل كفه منها وقال ” أنا أعطيتك فلا ترديني , وأخبريني ما
هوا الموضوع الآخر الذي تريدين الحديث معي فيه ”
قبضت على النقود في يدها بقوة ونظرت للأسفل وقالت
بهدوء حذر ” لم أعد أريد الذهاب للمدرسة ” لم يعلق ولم يتحدث فرفعت رأسها ونظرت له وقالت
” أرجوك أبي لا أريدها , هي ضاعت مني من عامين ثم ما
سأفعله بشهادة ثانوية والبلاد لا جامعة فيها , وأنا كرهتها حقا ”
وقف حينها ليرتفع نظرها ورأسها مع وقوفه وقال ” كما تريدين فقط لأني لاحظت تعب نفسيتك هذه الفترة بسبب ما يقال فيها
لكن الامتحانات ستذهبين لها ”
وقفت حينها مبتسمة وقبلت خده وقالت ” شكرا أبي أعدك
أن أدرس هنا وأذهب لها وقت الامتحانات ” سارت برفقته وصعدا معا حتى دخلت غرفتها وتابع هوا سيره
لجناحه وعيناها تراقبه بحزن , كم تخشى فقده يوما وكم تخشى
البعد عنه وكم تخشى من ظلمه لنفسه وهوا يضحي بكل شيء
من أجلها , اتكأت بيدها على إطار الباب واتكأت بجبينها عليها وقد اجتاحتها ذكريات أوقظها والدها الليلة حين كانت زوجته
والدة أشقائها على قيد الحياة فكم كرهتها وعاملتها بسوء في
غيابه وكانت هي تتستر على أفعالها كي لا تضايقه حتى أوصل
له أحد أخوتها كل ما يحدث من ورائه بعدما اكتشف المستور وما كان ذاك إلا جبران الذي عصى والدته وأغضبها منه لسنوات
حين أخبر والده بما يحدث معها وتسبب ذاك الأمر بما خشيته هي
كثيرا وسكتت من أجل أن لا يحدث وهوا خصومة كبيرة بينهما
جعلت كل واحد منهما ينام بعيدا عن الآخر لأشهر , كم كانت تلك الأيام صعبة وكم كان حنان والدها وحب أخوتها لها داعما أساسيا
لتصبر وكان قدوم عمتها فيما بعد بصيص نور جديد في حياتها
فأصبحت تجد فيها حنان الأم تجد فيها النصح والتوبيخ المفعم بالحنان
والخوف , لو كان لها عائلة والد ما تمنتها أفضل من هذه العائلة لكنها لا تستطيع أن تتجاهل الأمر , من هوا والدها ؟ من أهلها ؟؟ أعمامها
عماتها أخوتها وهل لها شقيقات تمنتهن كل حياتها أم لا ؟ والأهم لها
نسب لها عائلة يقال أنها ابنتها وترحمها الناس من الهمز الذي تسمعه
وهم يتعمدون إسماعها إياه , تنهدت بأسى قد قطعت به تلك الأفكار ودخلت لغرفتها نظرت لكتبها على الطاولة وتوجهت نحوهم وحملتهم
ورمتهم في خزانة أغلقتها للأبد فهي حفظت هذه المناهج من كثرة
الفراغ والوحدة والهروب من التفكير في واقع البلاد كما كرهت أن
تكون طالبة في الثانوية وهي على مشارف العشرين من عمرها ويفترض أنها الآن في الجامعة فكم هو سخيف أن ترى نفسك
في مكان أقل من عمرك فهي تريد أن ترى نفسها شابة ناضجة
تخطت مرحلة الثانوية فلما يريدون إرجاعها للوراء ؟؟!!
وقفت أمام مرآة الخزانة وفكت شعرها ليغطي ظهرها وتدلت جوانبه كستائر حريرية عل كتفيها حتى نزل مغطيا كامل ذراعيها وخصلاته
المقصوصة تعانق جبينها ونحرها وذقنها وهي تتذكر كلمات جليلة
لها يومها في منزل خالها وهي تقول لها ( يا حظك يا غسق يقولون
أن الرجال يحبون الشعر الطويل والناعم وأنتي اكتسبتِ الصفتين وستسحرينه من نظرة واحدة لوجهك فكيف بشعرك معه ؟؟ لن
ألومه إن عسكر عندك أسبوعا ولم يخرج لأحد )
جمعت شعرها بسرعة وابتعدت من هناك ودخلت سريرها وهي
تستغرب من سيطرة كلمات جليلة عليها الليلة فكم سمعت المديح ولم تعره أي اهتمام فما تغير بها هذه الآونة لتصبح تهتم بما يعجب
الزوج وما سيجعلها بهية في نظره وما سيسلبه لبه ما أن يراها
دست رأسها تحت اللحاف وهي تردد في نفسها ( لن تتزوجي يا
غسق , ما تصنعيه بالزواج وحتى والدك يرفضه ؟ هل ستتزوجين برجل مدني ينام في حضنك ويترك الدفاع عن أهله وقبيلته كي لا
تترملي ويتيم أبنائك أم ستتزوجين بأحد رجال الحدود تريه يوماً
بعد عشرة أيام فقط لأنه يدافع عنك وعن غيرك وفي نفس
الوقت يقتل أبناء بلاده ) تأففت من جديد وتقلبت كثيرا حتى غلبها النعاس أخيرا وتمكن
منها فعلى الأقل هي تخلصت من همين هم الزواج بأحد
أخوتها وهم الدراسة
* *
*
في ذاك المجلس الأرضي الواسع بالسجاد العجمي السميك
المزركش بالنقوش وأباريق القهوة والشاي ومياه الشرب الموزعة في كل متر فيه والمليء بكبار رجال القبيلة ومشايخ
القبائل التي تحتها , جالس نصف جلوس ناصبا ركبته ويده
اليمنى ممدودة عليها بإهمال ينظر للسجاد بشرود وعقله مع
الذي ينتظر قدومه في أي لحظة رغم أن سمعه مع كل ما يقول له صاحب الصوت الجهوري الجالس مجاورا له
” آخر ما توصلوا له تسوية بشأن الكهرباء والمحروقات , البنك
المركزي يرفض الفكرة أو على الأقل يخفضوا من سقف المطالب
و صنوان يقترحون الضرائب وهازان يطالبون بنصف ما يدفعه البنك للعوام , ولجنة الرقابة ترفض وقد زادوا عددهم للضعف كي
لا يحدث أي خرق ولا تُصرف الأموال في غير مكانها الذي
حددوه هم ”
نطق أحد الجالسين في آخر المجلس تعقيبا على ما قيل ” البنك المركزي يخضع لرقابة دولية مشددة ولن يخضع لمطالب
الهازان فغرضهم أكل أموال الناس بالباطل خصوصا أنه يُمنع
صرف الأموال على السلاح والعتاد ويقسم على العوام شهريا
وعلى المرافق التعليمة والصحية سنويا وبدقة ورقابة ومحاولتهم العبث مع السلطات الدولية يعني حرمانهم البتة من نصيبهم
السنوي من مال ثروة البلاد ”
وقال آخر ” يبدوا أنهم سيقلصون الإرادات لهذا العام ويتحججون
أن السبب إغارتنا على الهازان لتسببها في تذبذب كبير في المواقف الدولية ”
خرج حينها من صمته وقال وعيناه لازالت في شرودها
” هل رصدوا الميزانية ؟ ”
قال ثالث الجالسين على يساره ” هذا الشهر حد علمنا من مصادر موثوقه ”
شد على إبهامه بين أنامله وقال بصوته الجاد ببحّته الواضحة
” لن نساوم ولن ينقص الناس شيئا ”
ليفهم الجميع هنا رده القاطع ورأيه في الأمر دون توضيح ولا شرح كعادته التي ألفوها واعتادوا عليها منه فقد وصلت
المعلومة … ميزانية العام ستصرف كالسابق ورواتب الناس
ستعطى لهم دون نقصان أي لن يسلك طريق صنوان في أخد
الضرائب من الناس لسد النقص ولا طرق هازان الملتوية لأخذ نصف الميزانية لشراء السلاح والعتاد وحجتهم
الوحيدة محاربة الجماعات الإرهابية
” السلام عليكم ”
كان ذاك الصوت الرجولي الذي دخل عليهم مجلسهم والذي جعل نظره يرتفع من معانقته للسجادة طوال الوقت مهما دخل
وخرج منهم فميزة تذكر الأصوات وتمييزها لديه جعلته يعلم
فورا أنه الغائب المنتظر , نظر له بهدوء أقرب للجمود مثبتا
نظرته الصقرية الحادة على عينيه وقال ذاك بعدما أخد نفسه ” يطالبون بالتفاوض على العمران والاجتماع صباح غد ”
وقف حينها من فوره ليقف جميع من في المجلس مع وقوفه
فأشار لهم بيده ولازال نظره على الواقف هناك وقال بجدية
” عشائكم هنا الليلة , عمي على وصول ” ثم أنزل يده وقال مغادرا جهة الباب ” حين أرجع أريد ما
تحدثنا عنه بخصوص ترميم السد تحول لأفعال ”
وخرج من هناك ووجهته باب المنزل الملاصق لذاك
المجلس الواسع , دخل مناديا بشدة ” جوزااااء ” لم يجبه أحد فكرر النداء وهوا يصعد السلالم لتخرج تلك من
غرفة عمتها مسرعة ولحقت به صاعدا للأعلى فقال
” حين يرجع عمي أخرجوا العشاء للمجلس وأخبريه يزور
الحقول ويراقب سير زرع المحاصيل بدلا عني ” دخلت خلفه لغرفته قائلة ” وأين ستذهب أنت ؟ ”
فتح الخزانة وأخرج الحقيبة الصغيرة منها ورماها على السرير
قائلا ” سأسافر خارج البلاد ليومين أو ثلاثة , فلا أحد
وأولكم عمي ينام خارج المنزل مفهوم ” مطت شفتيها من جملته المكررة دائما ثم قالت
” دعني أرتب لك ثيابك إذا ”
قال متجها للحمام ” لا تلمس الخادمة شيئا سأستحم وأخرج ”
قالت قبل أن يدخل ” وماذا بشأن عقد قران أ…. ” قال وهوا يغلق الباب خلفه دون أن ينظر ناحيتها
” لا داعي له ”
فمدت هذه المرة شفتيها أكثر وحركتها بامتعاض فها هوا رفض
ذهابهما هناك بما أنه لن يكون هنا وطبعا كي لا يباتا خارج المنزل وهوا غير موجود ولا يحق لها النقاش أو الاعتراض
على أوامره , فتحت الحقيبة وبدأت بترتيب بعض الملابس
الداخلية والبذل فيها لحساب ثلاثة أيام ورتبتها بعناية واهتمام
أغلقتها بعدما انتهت وقالت بضيق وهي تغلق السحّاب ” لا أعلم لما لا يتزوج ويرحم نفسه مادام لا يريد أن
تلمس الخادمات شيئا يخصه بدلا من أن يفعل
كل هذا بنفسه ”
ثم رفعت رأسها فجأة عندما سمعت حركته قريبا منها فوجدته عند طاولة التزيين ببذلته الرسمية وربطة العنق
الموضوعة على عنقه بإهمال دون ربط يفتش عن شيء
ما في أدراج الطاولة , بلعت ريقها فيبدوا كان هنا وسمع
ما تقول , أغلق الدرج بقوة فخرجت مسرعة وتركته فهي تعلم كم يكره الحديث عن الزوجة والزواج وقد سبق وحذرها
من فتح الموضوع مجددا , نزلت السلالم فستعود ما أن يغادر
لتنظف غرفته والحمام وتعطي الخادمات ملابسه لغسلها
دخلت مجددا لغرفة عمتها التي قالت ما أن رأتها ” ما به شقيقك ؟ ولما تأخرتِ هكذا ! ”
عادت للجلوس أمامها ورفعت كوب قهوتها وقالت
” سيسافر لأيام وأوصاني أخبر عمي ما يريد قوله له ”
هزت رأسها بحسنا دون كلام فقالت جوزاء بامتعاض ” ومشوارنا ألغي طبعا بأوامر من ابن شقيقك ”
قالت بهدوء ” هكذا أراد الله , ثم لا تنسي أنك
ستستقبلين بعض الزائرات غدا ”
وضعت الكوب على الطاولة وقالت ” مللت منهن لا شيء لديهن سوا الطلبات , هل يضنونه سيستمع لكلامي وأؤثر
عليه ! حتى إن كنت زوجته لن ينصت لي فكيف بشقيقته
التي لا تراه إلا صاعدا لغرفته ونازلا منها ”
ضحكت تلك بخفة وقالت ” ولما لا تخبريهم بذلك وترحمي نفسك وترحميهن بدلا من تمثيل دور شقيقة زعيم القبيلة الباردة واتركي الخادمة تسخنها لك مجددا ”
*
* *
مررت أناملها البيضاء على ورقات الأزهار الندية وهي جالسة
على الأرض بجانب الشتلات المغروسة بعناية , تحضن ركبتيها
بذراعها الأخرى وتتكئ بذقنها على ركبتها وتتابع حدقتيها حركة أصابعها بشرود وعينان منسدلة للأسفل بحزن حتى شعرت باليد
التي لامست كتفها ووصلها صوت عمتها الهادئ
” غسق ادخلي عن البرد هيا ”
لم تتكلم ولم تتحرك من مكانها فتنهدت تلك وأبعدت يدها وقالت ” لمصلحتك قلت ما قلت يا غسق فلا أريد لتلك
الليلة أن تتكرر ”
أبعدت أناملها عن الأزهار وحضنت ركبتيها بذراعها الأخرى
ولازالت سجينة صمتها ليدخل عليهم الصوت الرجولي ” ماذا تفعلان هنا في هذا البرد ؟ ”
التفتت لشقيقها الواقف خلفها وأشارت له بعينيها على الجالسة
لم تغير وضعيتها ولم تتحدث فأشار لها أن تدخل وتتركهم لكنها
أبت فهي تعلم مدى تدليله لها وأنه سيقف في صفها وستفعل ما تريد هي حتى إن كان خاطئا , قال بحزم
” جويرية ادخلي واتركينا ”
تنهدت بضيق ومرت بجانبه ووقفت وأمسكت يده بقوة
وقالت بهمس ” قدّم مصلحتها على حبك لها يا شراع فهي لم تعد طفلة وعنادها يزداد بسببك ”
دخلت بعدما لم يجبها بشيء وعيناه على الجالسة خصلات شعرها
الحريري تلعب بها الرياح الباردة الشديدة وبخار تنفسها يخرج
بين الحين والآخر دليل أنها تتنفس من فمها , قبض على يده بقوة وعيناه لازالت تراقب الجسد المنكمش على نفسه تحتضنه برودة
الأرض فهي تشبه والدتها حتى في هذا فحين كانت تحزن تنطوي
على نفسها وكم كان يتكرر ذلك فلم يعرف تلك المرأة إلا حزينة
وشاردة الذهن وكل تفكيرها كان في جنينها ومستقبله ولم تطلب منه سوا أمرين ( إن كان مولودا ذكرا فلا تخبر أحد عن حقيقته
حتى يموت ابن شاهين وإن كانت أنثى فسموها غسق ولا تزوجها
إلا من قبيلتها )
فلطالما استغرب الجميع أسمها الذي لم يعتادوه لديهم كما استغربوا حسنها الذي فاقت فيه حتى قبيلة والدتها ولم يعلموا أي مزيج هوا
من عرقين أخرجها بهذا الحسن , تنهد بأسى فأكثر ما يتعبه هذه
الأمانة وهذا الحمل الكبير على كتفه فهذه الجالسة بحزن حملها
على قلبه أعظم من البلاد والقبائل وشئون المدن ( لو تعلمي أي أمانة أنتي يا غسق وأي حمل وضعته والدتك على كتفي ولن
أرتاح في نومي ولا يقظتي وتلك العجوز لازالت على قيد الحياة
فوحدها تحمل سرك وإن علم به ابن شاهين فلن يرضيه إلا أنتي
أو رقبتي , وما رفضت زواجك حتى الآن إلا خوفا منه إن علم ) اقترب منها حتى وقف خلفها مباشرة وقال ” غسق عمتك
خائفة عليك فلا هي ولا أنا نريد لتلك الليلة أن تتكرر ”
خرجت حينها من صمتها وقالت بحزن ” وأنا لم
أعد أريد الذهاب ” تنهد وقال ” وكيف لن تحضري زواج ابنة خالك ”
ضمت نفسها أكثر وقالت ” أبي لا تجبرني أرجوك قلت لن
أذهب ولن أغير رأيي حتى لو سمحتم لي بارتدائه والتزين ”
هز رأسه بيأس وقال ” أدخلي إذا قبل أن تصابي بالزكام ” خبأت وجهها في ركبتيها وقالت ” قليلا وسأدخل ”
فتركها مستسلما ودخل ليجد جبران في وجهه وقال من
فوره ” لم تدخل ؟؟ ”
قال بهدوء ” أتركوها ستدخل وحدها ” قال حينها وبضيق ” ولما تمنعوها مما تريد , لا أرى
عذركم منطقيا أبدا فهذه الأفكار نستها الناس من سنين ”
قال مارا من أمامه وهوا يتبعه ” ونحن لم ننسى تلك الليلة التي لم
تنم فيها ولم ينم أحد منا حين تعبت ولو لم يحضر رعد ويقرأ عليها لكانت فقدت عقلها , فقد عاهدتْ عمتك نفسها أن لا تتركها تتزين
في حفلات الزواج مجددا فإن سلمت الأمور مرة لن تسلم دائما ”
ثم جلس وقال جبران ” لهذا إذاً ترفضون أن تحضر
زواجا لشخص لا يقرب لها أو لنا ” هز رأسه بلا ونظر للأرض وقال ” بل هي من ترفض
وأنت تعلم السبب جيدا ”
جلس حينها بجانبه وقال ” أخبرها عن والدها إذا إن كنت
تعلم من يكون وأرحها لترحمها الناس ” قال شراع ببرود ” قلت لا أعلم وانتهى ”
تنهد بقوة وشجع نفسه لفتح ذاك الموضوع مجددا وقال
” وماذا بشأن ما تحدثنا عنه ؟ ”
قبض حينها شراع على أنامله بقوة وقال ” سيأخذ كاسر مكانك هنا وغادر أنت للحدود ”
وقف حينها على طوله من صدمته ثم قال
” رفضت ”
اتكأ على ظهر الأريكة وقال ونظره للفراغ ” ذلك من حقها فإن كنت أنت تعلم ومن صغركم أنها ليست شقيقتك فهي لا
ثم حتى لو وافقت هي فأنا لم أعد موافقا ولن أزوجها ”
قبض على يديه بقوة وقال بغيظ يحاول كتمانه قدر الإمكان
” ولما يا أبي لما ؟؟ فلو ربطت الأمر برضاك لوافقت أم لا تراني كفئا لها ”
نظر له للأعلى بسرعة وقال بحزم ” أصمت لا تكرر هذا
الكلام أمامي وقلت لن أزوجها وانتهى الحديث في الأمر ”
غادر حينها جبران يشتعل غضبا وحزنا وترك خلفه الجالس ينظر له بحيرة ورحمة , يعلم مدى تعلقه بها ورغبته فيها لكنه سيخطئ
إن فعلها سيخطئ خطئا كبيرا فوالدتها ما طلبت تزويجها من قبيلة
والدها إلا خوفا على مستقبلها في هذه البلاد كي لا يكون مصيرها
مشابها لها أو للكثيرات ممن حرمن من أزواجهم وأبنائهم لأنه زواج فاشل من بدايته حين جمع شخصين من قبيلتين متنازعتين لوقت لا
يعلمه إلا الله وقد يكون حتى تفنى الأرض , فليحترق الآن أفضل من
أن يحترق أكثر حين يأخذوها من حضنه وهي زوجته ويحرموها
هي من أولادها , وقد قرر قراره النهائي ووقف مغادرا لغرفته ليرتاح ( إن تحسنت الأوضاع وتهادنا مجددا أزوجها لأحد
رجال قبيلتها وبعدها حتى إن علموا من تكون لن يضروها
ولا زوجها في شيء )
* *
*
أنهى لبس بذلته وربطة العنق , الملابس التي لا يلبسها إلا أحد المسؤلين , لبس المعطف الشتوي ولف شالا أبيض حول عنقه وحمل حقيبته ونزل وخرج من المنزل حيث تنتظره سيارة
بسائقها أمام الباب فستستغرق رحلته لساعات ليخرج برا للبلد
المجاور لهم ثم ينهي رحلته بالطائرة , خرجت سيارته تتبعها
ثلاث سيارات لحرسه الخاص عند خروجه وحده بدون أي فرد من قبيلته فهوا اعتاد السفر لهذه الأغراض وحده كما اعتادوا
هم على رؤيته وحيدا لا يناقش أحدا في قراراته التي يقررها
أمامهم إلا إن كان اجتماع مهادنة تحضره رؤوس القبائل .
بعد خمس ساعات من السير برا في رحلة سيدها الصمت المميت سوا من بعض الاتصالات المهمة التي أجراها وصلت
السيارات للحدود وتمّ إدخالها فورا لتسرح عيناه ككل مرة
فيما جد هنا في هذه البلاد , يمعن النظر بفكر شارد للبعيد
لتلك المباني العالية والتطور العمراني المهيب , وهوا يرى أن لبلاده الأحقية أن تصبح مثل غيرها وأفضل بكثير .
وبعد مشوار الساعة والنصف كانوا في العاصمة ووقفوا أمام
المبنى المرتفع بطوابقه العالية وفتح له أحد الحارسين الواقفان
عند الباب باب سيارته ونزل وأخذ منه حقيبته الدبلوماسية ودخل يتبعه مع حرسه لتستقبله المرأة الثلاثينية بقصة شعرها المدرجة
وبذلتها الرسمية رصاصية اللون بتنوره ضيقة تصل لنصف
الساق وقالت وهي تسير بجانبه ” حمدا لله على السلامة سيدي
بشأن الاجتماع الطائرة خاصة وتوجد رحلة لليوم وللغد أيضا فيمكنك أن ترتاح اليوم وتصعد على رحلة الغد ”
قال متابعا سيره ودون أن يلتفت لها ولا بطرف عينه
” بل اليوم , هل أعطيتم السيد عثمان خبرا بوصولنا ”
قالت وهي تسبق خطواته وتفتح له الباب أمامه ” نعم وهوا في انتظارك ”
مخرج أخوة .. ومن ربوع وطننا عشنا ..x نهاية الفصل الثالثرواية جنون المطر(الجزء الأول ) للكاتبة برد المشاعر
الفصل الثالث
بقلم الغالية: همس الريح
ابحث عن نفسي في من حولي و لا اجدني
المسيطرة التي لها كلمة عنده , وتوقفي عن شرب القهوة
خارجا من البلاد لحضور إحدى تلك الاجتماعات أو زيارة
بقلم الغالية : lulu moon
فهل بمرور سنوات كالأعداء صرنا
ولدنا.. أكلنا..; شربنا… لعبنا.x
ولرسالة العلم ادينا..
في وطن واحد وتحت علم واحد .
فهل الآن أعداء بتنا.
يدك بيدي ….
وحلمكx على حلمي …
من أجل اجمل ما في وطني …
أخوة وسنبقى ..
لا فرق بين غربه وشرقه ..
ولا بين شماله وجنوبه …
فكلنا نعيش تحت سقفه وبين حدود أرضه ..
فسلاما عليك وطني سلاما….
خاطرة بقلمي
أسعد الله صباحكم أحبتي …
لولو العراقية ..
المدخل : اهداااااء لكاتبتنا الراااائعة برد المشاعر من الكلام فلم تتحدث مع أحد ولم تخرج من غرفتها منذ أمس
إلا للضرورة , علمت من بعض ما سمعته منهم أن شقيقها كاسر
سيأتي اليوم أو في الغد , لم تسأل لما ومتى سيذهب لكنه الشيء
الوحيد الذي أسعدها بعد يوم أمس فكم كرهت معاملتها كطفلة لا يحق لها اتخاذ قرار يخصها , وبّختها عمتها لأنها قررت ترك
الدراسة وقالت أمامها أن والدها يخطئ دائما وأنه رضخ لرأيها
ولم يفكر في مصلحتها التي لا تعلمها هي حسب كلامها وفي
النهاية هي من تخطئ ووالدها يشجعها وسؤالها الوحيد ( لما ليس العكس ؟؟ )
انقلبت على الجانب الآخر لتقابل النافذة التي تركتها منذ البارحة
مفتوحة ليوقظها ضوء النهار المتسرب منها واكتفت بإغلاق
زجاجها فقط , بحثت بعينيها في السماء عن الطائرة التي تسمع صوتها بوضوح حين عبرت فوقهم , وهي طائرة مدنية بالتأكيد
فلا طائرات حربية تحلق هنا , جالت بحدقتيها السوداء الواسعة
في تلك السماء الملبدة بالغيوم وهي لازالت تسمع صوتها رغم
يقينها أنها لن تراها ليس بسبب تلك الغيوم السوداء المتلاصقة ولا العلو الكبير لتلك الطائرة ولكن لأنها ما سمعت الصوت إلا
لأن الصورة سبقته لكنّ شيئا ما في قلبها ضل يتساءل ( ترى
من فيها من أين أتت وإلى أين تذهب ؟؟ ) وهي موقنة من أنها
قادمة من بلدان الجنوب متجهة حيث الشمال من اتجاه صوتها كم شعرت أنها تحمل أمانيها تحمل حلما بعيدا جدا ولا تعرف
لما !! بل شعرت أن من على متنها تعرفه جيدا ولا
تعلم كيف ولا أين ؟؟
أغمضت عينيها برفق وشدت من احتضان الوسادة في حضنها وعادت لحزنها من جديد ( لما لا يرون أني كبرت وأنه من
حقي أن أقرر وحدي ما أريد ؟ والدتي في عمري كانت حاملا
بي خرجت من أهل زوجها اللذين الله أعلم من يكونون وجاءت
إلى هنا , لقد قررتْ ونفذت وحدها وقال والدي بلسانه أنها فعلت الصواب حينها فلما أنا لا أعرف مصلحة نفسي !! لما والدي في
نظرها يقف معي على الخطأ وليس يساندني فيما يرى فيه
مصلحتي ويريحني ؟ لما أدرس وآخذ من وقته ساعات لأخذي
وجلبي يوميا وغيري تركوا الدراسة والآخرون يركبون الحافلات الصغيرة التي تقلهم ليومين فقط في الأسبوع وستأخذهم يوميا
للامتحانات فقط لأن المحروقات لا تكفي لنقلهم , أنا لست أفضل
منهم ولا أشعر بالراحة هناك وكرهت كلمة ( أنتي ابنة زعيم القبائل
ولستِ مثلنا ) فمن قال أني لست مثلهن أم لأن بنات أشراف قبيلة صنوان يرين أنفسهن أفضل من الجميع سأكون مثلهن , ثم ها أنا
ظهر أني لست ابنته ولا شيء من ذلك بل كما يقول البعض مجهولة
النسب , وما يُهون الأمر شهادة والدي أمام رجال القبيلة أني ابنة
شرعية بزواج شرعي وموثق ) انقلبت للجانب الآخر مجددا فالتفكير في ذاك الموضوع يزيدها
أرقا وحزنا فكيف تقتنع برفض والدها شراع التصريح بسم والدها
الحقيقي وقبيلتها وقال أنه لا يعلم من يكون ذاك وأنه احترم رغبة
والدتها التي لا تريد إخباره ثم يشهد لها وهوا لا يعلم ؟؟ لا تصدق ذلك ولم تقتنع به وترى رفضه تزويجها ورائه سر آخر فإن علمت
من تكون ستعلم أسباب كل هذا , سبب رفض والدها الإفصاح عن
الحقيقة وسبب رفض تزويجها حتى يصطلح حال البلاد , ولازالت
تذكر حتى الآن حين كان يلاعبها في صغرها قائلا ( يا حسناء غزير وحسناء من شهدوا بالحسن لنسائهم ) ولم يقل أن من يقصده
قبيلة والدتها فقط فنسائهم الأجمل بين قبائل صنوان جميعها لأنها
تنحدر من أقصى جنوب غرب البلاد وهم قبيلة غزير فقد عرفوا
بهذا اللقب لغزارة شعور أبنائهم وخاصة النساء فلا امرأة في القبيلة شعرها أجعد أو طوله أقل من خاصرتها فلكل قبيلة من
اسمها نصيب وسميت لصفة متعاقبة فيها وهذا حال القبائل في
كل مكان من الأرض وضل السؤال الذي يحيرها ( من هي
القبيلة التي قال أنها اشتهرت بحسن نسائها وأنا فقتهن ) تنهدت بقوة وجلست تجمع شعرها للخلف فهي تكره الوصول
لهذه النقطة من التفكير لأنها ترهقها حقا وتجعل فكرة زيارة
تلك العجوز تكبر في رأسها أكثر رغم المخاطرة وصعوبة
الأمر عليها , مدت يدها للمذياع بجانبها ولأول مرة تفعلها فلا أحد هنا يشغله سوا عمتها حين تجلس معها فهي برفقتها أغلب
الوقت فكل واحدة منهن وحيدة هنا وليس لها سوا الأخرى , وما
أن بدأ صوته يملأ سكون الغرفة وقفت وتوجهت للنافذة وفتحتها
ووقفت أمامها لتسمح للرياح الباردة أن تحرك خصلات شعرها الحريري الطويل في حركة انسيابية لتداعب كتفيها وذراعيها
واكتسبت عيناها لمعانا غريبا من لفح ذاك البرد لحدقتيها السوداء
المظلمة , بل قد يكون السبب شيئا آخر يتسلل لأذنيها الآن فعلى
غير عادتها فتحت اليوم المذياع الذي تكرهه وتسميه بجالب أخبار السوء والدماء , وعلى غير عادتها أرهفت السمع لكلام
المرأة فيه بإنصات وهي تتحدث عن شيء لم تعره يوما أي
اهتمام , فكل شيء في حياتها أصبح مخالفا لعاداتها القديمة
منذ لا تعرف متى ولا لما ؟ ضمت ذراعيها بيديها وحضنت نفسها ورفعت عينيها للسماء ليزداد بريقهما ويزداد تطاير ذاك
الشعر المظلم مع حركة الريح الباردة التي جعلت من خديها
لهيباً أحمراً يروي فصول حكاية أخرى من الحسن , ثم جمدت
كصورة رسمتها أنامل لا تتقن الرسم سواها وزادت دقات قلبها في نغمة لم تعرفها من قبل , وشيء من التوتر الغريب غزى
أطرافها وهي تستمع باهتمام لصوت المذيعة في ذاك المذياع
وهي تقول ” يبدوا أن الاجتماع انفض بسرعة لم نتوقعها جميعنا
فهل حسم زعيم الحالك أمره سريعا أم رفض عروضهم أم رفض الهازان طلبه ؟؟؟ ”
أغمضت عينيها برفق ولازالت تنظر للأعلى فما تعلمه أن ثمة
تسوية ستتم بينهم واتفاق على مدينة العمران , إما أن يقدموا له
عرضا يرضيه بدلا عنها وسيكون باختياره طبعا أو يأخذها منهم لأنها أصبحت بين قبضته الآن ويستطيع أخذها في ساعات قليلة
فقط فتلك المدينة يعرف الجميع أهميتها ففيها توجد مجموعة أنهار
شالوف الصغيرة وتصب في بحيرة رقراق في آخرها وتذكر
وهي طفلة حين زارتها مع والدها وأخوتها حين كانت تابعة لصنوان وتذكر جيدا جمال تلك المنطقة الذي لا يصفه شيء
أنزلت رأسها لتعانق خصلات شعرها وجهها وأغمضت عيناها
بقوة وهي نفسها تستغرب حالتها هذه وتلك المذيعة تقول بصوت
يؤكد أنها تكاد تركض جهة أحدهم ” يبدوا لحسن حضنا سنعلم ما حدث في الداخل من زعيم الحالك تحديدا ولأول مرة تلتقطه
قنوات الأخبار لخروجه من الباب الرئيسي وليس الباب الخاص
بهم … سيد مطر سيدي سيدي دقيقة نريد فقط ملخصا
لما توصلتم له ” ازداد رنين تلك الطرقات الغريبة في قلبها حتى أصبح يدوي في
أذنيها وارتجف جسدها ارتجافا خفيفا حين سمعت ذاك الصوت
الجهوري البارد المثقل بالكثير من الحزم والشدة مع رنة بحة
رجولية غريبة قائلا ” اسألي غيري ” كان ذاك فقط ما سمعته وذاك فقط ما قاله وذاك ما جعلها تضع
يدها على قلبها وقالت برجفة وهمس ” يا إلهي ما به
صوته مخيف هكذا ”
وما لا تعلمه أن الاختلاف لم يكن في صوته بل في مشاعر الرهبة لديها منه , التفتت سريعا جهة المذياع وكأنها ستراه وستلحقه قبل
أن يذهب وأنصتت باهتمام للتي أكملت حديثها مع غيره قائلة
” سيد عثمان هلاّ أطلعتنا على ما حدث في الداخل , لما
انفض الاجتماع بسرعة ولما خرج زعيم الحالك من هنا ويبدوا مستاءً فمن ماذا ؟؟ ”
تكلم الآخر بأريحية قائلا ” أما لما انفض سريعا فالسيد مطر ما
ترك مجالا للمقدمات والشروحات واختصر الأمر عليه وعليهم
بأن تكلم أولا وأنصت الجميع دون اعتراض , أما لما خرج من هنا فوجّهي هذا السؤال له وليس لي فلست أعلم , أما أن يكون
مستاءً فلست أجزم بذلك فشخصيته هكذا ولم يحدث ما يجعله
يستاء والاستياء كان من نصيب زعيم قبائل الهازان ”
قالت من فورها ” الأهم لم تطلعنا عليه سيد عثمان وهوا ماذا حدث في الداخل ”
قال بنبرة وكأن فيها سخرية أو استهزاء ” السيد مطر طالبهم
بالديجور مقابلا لها وأمهلهم حتى مطلع الربيع ”
لتفتح الواقفة بجمود هنا عينيها على اتساعها وقالت بهمس مصدوم ” يريد ديجور مقابلا ”
هزت رأسها غير مستوعبة ما سمعت ثم ركضت جهة الباب
تعدل من حدائها المنزلي في قدميها كي لا تقع وفتحته سريعا
لتقف فجئه وهي تكاد تصطدم بأحدهم أمامها رافعا يده وكان سيطرق الباب للتو , أمسكت شعرها بيديها للخلف لتناثره أمام
وجهها بسبب ارتدادها المفاجئ وقالت بصدمة ” جبران !! ”
أنزل يده ومعها نظره وقال بهدوء ” آسف لقد أرسلت لك
الخادمة وقالت أنها طرقت كثيرا ولم تفتحي لها ولم تجيبي وكنت سأطرق للتو وأناديك لتخرجي ”
جمعت خصلاتها خلف أذنيها بأصابع مرتجفة ومرتبكة
وقالت ” لا عليك يا جبران الخطأ ليس منك ”
رفع نظره لها ونظر مجددا للشعر الليلي الحالك الذي حُرم من رؤيته لوقت طويل منذ علمت بحقيقتها , نظر للحسن
وهوا مكتمل أمامه لا يحجب شيء عنه أي تفصيل من
تفاصيله ثم سرعات ما هرب بنظره للأرض وقال
” جئت لأراك قبل أن …. ” وسكت عن تكملة جملته وعن قتل نفسه بالسلاح الذي اختاره
هوا رغم علمه أنه لا راحة من العذاب بعذاب أشد منه , غصت
الكلمات في حلقومه وتحجرت حين نزلت هي بنظرها لما يلبسه
بعينين تترقرق دموعا يراها حزنا كحزنها ذاك اليوم على فراق أشقائه ليس أكثر من ذاك الشعور وليس كما يحمل هوا لها بين
هذه الأضلع , عادت بنظرها لعينيه التائهة فيها وقالت بعبرة
” هل ستذهب أنت أيضا ؟ ”
نظر للأرض مجددا وقال بحزن ” سيأتي كاسر وأذهب أنا فبقائي أصبح موجعا لي يا غسق ”
ركزت حينها نظرها فيه بصدمة ودهشة وفهمت أن والدها بلّغه
رفضها بالتأكيد وها هوا يخبرها الآن أن مغادرته بسبب قرارها
ذاك , هزت رأسها رفضا لِما سمعت ودموعها تغطي حدقتيها السوداء وقالت بحزن ورجاء مكسور ” لا تترك والدي يا جبران
فهوا يعتمد عليك في كل شيء , لا تجعلوني عبئا فوق ما أنا
عبء عليه ويخسرك بسببي ”
قبض حينها على يديه بقوة وقد فقد السيطرة الكلية على حركة عينيه ولم يعد بإمكانه إبعادهما عن هذه العينين الدامعة مهما حاول
وبعد صراع طويل مع نفسه رفع كفيه لوجهها وحضنه بهما برفق
وانحنى له وقبّل جبينها وقال بهمس موجع ” هناك سيكون أفضل
لي حتما وأحترم قرارك يا غسق فقط عديني أن هذا قد يتغير يوما وأن ثمة فرصة أخرى لي , عديني وأعيدي حب الحياة لي يا غسق ”
رفعت حينها يديها وحضنت يديه المحتضنة لوجهها ورفعت نظرها
له وقالت والدمعة الأولى قد تدحرجت من إحدى عينيها
” لا تترك المنزل بسببي يا جبران , حلفتك بالله أن لا تفعلها ” قال بجدية وإصرار ” عديني يا غسق أريد وعدا فقط
لأرجع يوما من أجله ”
نظرت لعينيه بحزن شديد وتمنت أن حققت له ما يريد تمنت والدها ولكن مستحيل كيف لأي واحدة مكانها أن تتخيل فقط أن شقيقها الذي عاشت معه سنين حياتها شقيقا لها تكتشف
فجأة أنه ليس كذلك وأن عليها أن تقبله زوجا وتنام معه
على سرير واحد كيف !! هذا جنون لا يمكنها حتى تخيله
أنزل يديه بخيبة أمل حين طال صمتها وفقد الأمل فيها وفي العودة هنا قبل أن تتزوج وتغادر المنزل فهوا وهي وقلبه لا
يمكن أن يجتمعوا في مكان واحد لأن الغلبة ستكون للغبي الذي
أحبها ولحبها المدفون فيه ولن يقدر لا هوا ولا تجاهلها هي
لمشاعره على جنون هذا القلب بها ولن يهزم أحد عناده غادر بعدها وتركها تمسح الدموع من خديها كما مسح والده
الحلم من عالمه الملون وتركه باهتا بلا قيمة فكم علّق الآمال
على إقناعه لها لتوافق ومن ثم حين ستصبح له وفي حضنه
سيعرف كيف يجعلها تحبه وتراه زوجا وليس شقيقا , وعلّق أملاً جديدا كاذبا في فرصة أخرى له ولها لكنه اكتشف أنه لا
شيء يحي الحلم الميت ويبدوا أن الأحلام المستحيلة لم تُخلق
إلا لتبقى مستحيلة للأبد كما لم يُخلق الأبد إلا ليكون أبديا
غادر من أمامها في صمت لا يشبه ضجيج قلبه المتيم ونزل عتبات السلالم الأولى يدوس في كل خطوة منهم قلبه وحلمه
ويقبض يديه بقوة يمنعهما من ضرب خشبه بقبضته ليفرغ
شيئا مما يكبته ويحرق قلبه ثم تسارعت خطواته حتى أوقفه
الصوت الرقيق الباكي خلفه مناديا ” جبران ” فوقف والتفت لها دون شعور وهي تقف أعلى تلك السلالم
ولازالت تمسح الدموع الغالية بكفها الذي لطالما حلم أن
يحضنه بكفيه أن يدفنه في صدره قبل أن تتبعثر جميع تلك
الأحلام بكلمة منها وقرار من والده , نظر لها بقلق وقال من فوره ” غسق توقفي عن البكاء وقلت وأعيد
وأكرر أنني أحترم قرارك ”
نزلت أول عتبتين في السلالم ليصبح ما يفصلهما القليل
منهم فقط ثم وقفت مجددا وأمسكت بخشبه وقالت بغصة ” قد يكون ثمة أمل فكل شيء مرتبط بمشيئة الله يا شقيقي ”
كانت كلماتها قاتلة أكثر من كونها باعثة للأمل في نفسه فها
هي وعدته وذكّرته في ذات الوقت أنه لازال شقيقها لكن قلب
العاشق لا يستطيع إلا أن يكون عاشقا فهوا كالبحر تماما يقبل الزيادة دون رفض وإن نقص منه شيء فلن يؤثر فيه , نظر
لعينيها بابتسامة لم يخفيها وقال ” لن آخذ من كلامك
إلا أوله وسأبقى على الأمل ”
ثم تراجع خطوة للخلف وهوا لازال ينظر لها وقال بشبه همس ” لأني أحبك يا شقيقة شقيقي ”
وغادر بعدها مُكْملا باقي عتبات السلالم وتركها خلفه تشهق
الدمعة والوجع وتبكي أول كلمة حب سمعتها في حياتها وكانت
من شفتي من رأته شقيقها طوال العمر رغم أن رسائل وثّاب ابن خالتها مليئة دائما بكلمات الغرام إلا أن هذه سمعتها بصوت
رجل ولم تقرأها وتمزق الورقة وترميها وكأن شيء لم يكن
وليثه كان أي رجل إلا هذا إلا شقيقها الأكبر الذي أنقدها يوما
من مكر والدتهم بها وحرم نفسه من موتها راضية عنه وكم كان يدافع عنها في صغرها والجميع يعلم أن من سيبكيها
سيكون عليه مواجهته لأن رده سيكون قاسيا
حائرة وضائعة ولم تعد تعرف كم سيدفعون أثمانا لراحتها
لرضاها ولتحقيق رغباتها فأول ما جال بذهنها هل هي حقا أنانية كما قالت عمتها وهل ترى مصلحة نفسها فوق الجميع ؟؟
هل هي مخطئة في كل ما تراه من حقها ومن أجل راحتها
أغلقت فمها بيدها تمسك شهقاتها وقد عاهدت نفسها أنه ما أن
تعرف حقيقة أهلها ستقبل به , ستضحي من أجله كما ضحى يوما من أجلها وترغم نفسها من الآن أن تتقبل فكرة أن هذا الرجل ليس
شقيقها , ركضت عائدة للأعلى ودموعها تنسكب على يدها لتوقفها
رؤيتها للشخص الذي كان موجودا ويسمع كل ما دار هنا وما
كانت إلا عمتها لتزيد قتلها بتلك النظرة التي رأتها في عينيها نظرة لم تعرفها يوما من هذه المرأة الحنون المحبة لها , نظرة
تشبه نظرات زوجة والدها الذي رباها غير أن ما غلب على هذه
العتاب وليس الكره فهي لا تصدق أن عمتها قد تكرهها يوما
اجتازتها مسرعة لتدخل غرفتها وتهرب من كل هذا لكن كلماتها سبقتها قائلة ” نامي قريرة العين الآن يا ابنة أميمه بعدما كسرت
قلبه وأخرجته من المنزل وحققتِ رغباتك التي لا تنتهي ”
وقفت مكانها حيث عتبة الباب ونظرت لها بصدمة ليس من عتابها
لها على ما حدث لابن شقيقها ولا من طريقة كلامها بل من مناداتها لها بابنة أميمه وليس ابنة شقيقي كعادتها حتى بعدما علمت بحقيقتها
أنزلت غسق يدها من فمها وقالت بصدمة ” عمتي لا تلو…. ”
لكن تلك لم تعطيها مجالا بل نزلت السلالم وتركتها واقفة مكانها .
ومرت الأيام تحيك بعضها وتنسج أسابيع تعاقبت وأصبحت شهراً وتلاه آخران واستقبل الجميع بشائر الربيع الأولى وبراعم الأوراق
الصغيرة وأصوات عصافير السماء مبتهجة برحيل البرد والمطر
وشُحّ الغداء بسبب تحول الأشجار لأشباح من الأغصان اليابسة
مرت تلك الأيام صعبة على البعض في تلك البلاد وشبه جيدة على الآخر وكما هي عليه على الكثيرين , الحالك كما حال الجميع هناك
ينتظرون قرارا حاسما لطلب زعيمهم الذي خنق به الهازان والهازان
يحصون الأيام على أمل أن يحدث شيء يغير ذلك القرار المجنون
في نظرهم قبل أن تنتهي المدة وإن كان بموت ابن شاهين , كاسر أصبح ذراعا لوالده في مدنهم كما كان جبران وإن بالتدريج , بل
وأصبح مصدر تسلية لغسق بوجوده معهم ولو ليلا فقط في أغلب
أيام الأسبوع , رعد ورمّاح لازالا عند الحدود ويزوران منزلهم
وعائلتهم من حين لآخر ويستقران هناك خصوصا بعد قرار الحالك وطلبه الغريب فقد زادوا من تعزيزاتهم ووجودهم هناك , أما
جبران فلم يروه من ذاك الوقت أو ذاك اليوم فقد اختار دفن
نفسه هناك كما دفن مشاعره وكما ينتظر إحيائها من جديد
غسق أنهت امتحاناتها للتو ولازالت عمتها في حالة جمود حيالها ولا تبادلها الأحاديث إلا للضرورة أما هي فقد قررت قراراها
النهائي وأرسلته لجبران في ورقة مع رمّاح , الورقة التي تكاد
تتمزق لديه من كثرة ما يقرأنها كلما فتش أغراضه وأخرج شيئا
وكأنه لم يحفظ أسطرها فهوا يعتبر تلك الكلمات القليلة آخر أمل له في العودة هناك ( جبران أنا موافقة فقط أعطني وقتا
واترك قراره بيدي أرجوك )
كلمات قليلة لكن معانيها كثيرة وكبيرة بالنسبة له خصوصا أنه
علم من والده عن الحديث السري والخاص الذي دار بينه وبينها ولا يعلمه أحد كما هذه الورقة وما فيها فقد أخبره والده أنه وافق
بعد ضغط كبير منها وعلى أن يكون القرار في وقت زواجهم
بيدها هي وأن يكون كل هذا سرا بين ثلاثتهم , وما لا يعلمه أن
والده اشترط عليها أنه إن ظهرت حقيقة أهلها وكانوا خارج قبائل صنوان وحدودها وطالبوا بها أن تعلم منذ الآن أنها ستُحرم
من أبنائها وأن أحفاده لن يتربوا إلا تحت سقف منزله وهي وافقت
ليس من أجل شيء إلا ذاك الشقيق الذي فعل الكثير من أجلها
وأصبحت تحاول غرس أفكار تخبر فيها عقلها قبل أن تجبره بأن ذاك الرجل هوا مستقبلها ولن يكون إلا معه وهوا وحده
من سيكون والد أبنائها الذين قد تفقدهم يوما وتتركهم هدية له
وعلّقت أمالا كثيرة بأن أهلها قد يكونوا من هنا وتكسب على
الأقل أن تبقى تحت سقف هذا الرجل الذي تدين له بعمرها وهوا والدها الذي لم ينجبها وأن يربي أبنائها كما رباها وربى أبنائه
حتى إن أصبحت بعيدة عنهم , وها هي على الأقل أصبحت تتقبل
ممازحة والدها لها في الأحاديث التي لا يفهمها سواهما وهوا
يحاول إحراجها بذكره لأبنائها وأنهم سيتربون في حضنه , وليست تعلم هل باتت كلماته مستساغة لديها لتقبلها الفكرة ولو قليلا أم
أنها فقط أحبتها من حبها له ولأن مصدرها شفتي هذا الرجل الذي
لو طلب عينيها ما بخلت بهما عليه ولا ترددت في إعطائهما له
ورغم صعوبة الفكرة عليها إلا أنها لازالت تحاول ولم تيأس فلا يفصلها عن تقرير موعد زفافهما إلا معرفة من يكونوا عائلتها
فهي لا تريد الزواج وهي بنصف نسب , لا تريد أن تبني حياة
وأسرة وهي لا أسرة لها , لا تريد أن يكون لها أبناء وهي لا
تعرف ما ستقول لهم حين يسألوها عن أهلها وما ستبرر لهم حين يصلهم ما سيقول لهم الناس عنهم , أما في ذاك الثلث من
تلك البلاد فلازال مطر ينتظر حسم الهازان لقرارهم ليحسم هوا
قراره ولازال هدفه الوحيد الذي يطارده في يقظته ونومه هوا بلاد
واحدة تنعم بالسلام وتتقدم للأمام كغيرها , ولازالت جوزاء تنسج من أمومتها المجروحة حقدا دفينا على صنوان كما تنسج الصوف
بين أناملها ببراعة وسهولة , ولازالت عمتهم الشبه مقعدة تحيط ابن
شقيقها بدعواتها حينما يسلم عليها من وقت لآخر بعيد جدا بالنسبة
لشخصين يعيشان في منزل واحد لأنها تعلم جيدا أطباع ابن شقيقها وما صنع منه والده ولم تلمه يوما على جفائه نحو الجميع فهي
تعلم أكثر من غيرها أن شقيقها بجنونه الغير مسبوق قد صنع
منه آلة حرب أكثر من كونه مخلوقا بشريا والنتيجة كانت رجلا
بعقل متصلب لا يقبل ولا حتى المزاح , وعينا قائد لا تريان شيئا غير أتواب الرجال وعمائم الحرب , وقلب محارب لا يعشق إلا
دوي المدافع والرصاص , فقد بنا منه بالفعل آلة حرب متجسدة
في رجل لم يعرف العواطف يوما , لم يهبها لأحد ولم يطلبها ولم
يرى نفسه يحتاجها بل مقتنع تماما أنها ليست للرجال , وعلى هذا عاش وعلى هذا اعتادوا رؤيته والعيش معه
نظرت من النافذة لتتأكد مما سمعته وما أن رأت سيارة شقيقها
كاسر تدخل المنزل حتى ركضت من فورها خارجة من الغرفة
ونزلت السلالم ركضا وشعرها يتطاير مع قفزاتها عليه وتقابلت معه عند الباب الداخلي فقفزت لحضنه وتعلقت به وضمها هوا
لصدره قائلا بضحكة ” من يراك يضنني مسافرا لأشهر
وليس أيام قليلة لم أخرج فيها من حدودنا ”
ابتعدت عنه ولكمت صدره بقبضتها وقالت بابتسامة حزينة ” كيف تغيب هكذا لأيام دون أن تراني وتخبرني كعادتك ؟ ”
أمسك أنفها وقال مبتسما ” لأني كنت في الحدود ولم
أخبرك كي لا أرى دموعك ككل مرة ”
شهقت وقالت بصدمة ” ماذا !! هل جد شيء هناك ؟ ” ضحك وحضن كتفيها بذراعه وقال سائرا بها للداخل
” جبران مرض قليلا وذهبت لأحضره لكنه رفض ”
وقفت مقابلة له وقالت بقلق ” ما به ؟؟ ”
ضحك كثير ثم غمز لها وقال ” حمى بسيطة ونزلة برد بسبب تقلبات الربيع فلا تقلقي ”
دفعته من كتفه وقالت بخجل من مقصده ” أحمق إن
كنت أنت مكانه أو رعد أو رماح لقلقت ”
قرب شفتيه من أذنها وهمس فيها ” قوليها لغيري وليس لمن أوصل ورقة منك له وأحضر اليوم واحدة منه ”
وكزته بمرفقها وقالت بهمس وعينها على عمتها المتوجهة
نحوهما ” أنت لا أحد يستأمنك على شيء أبدا ”
ضحك ودس لها شيئا في جيب فستانها ثم ضمها لكتفه ينظر مبتسما للقادمة نحوهم والتي قالت ما أن وصلت عنده
” عدتَ الآن ؟؟ ”
نظر للتي تحضن خصره بذراعيها متكئة على كتفه وقبّل
رأسها وقال ” نعم وشقيقتي المشتاقة دائما لم تتركني أرى أحدا فها هي قد استلمتني من عند الباب ”
أما هي فنظرت بحزن لعمتها التي لم تعلق بشيء ثم رفعت
رأسها له وقالت ” أحمد الله أن لك شقيقة تشتاق لك
ولست كإخوتك ” قال مبتسما ” أنكري أنك لا تشتاقين لهم مثلي تماما ؟ ”
نظرت له بحب وقالت ” أشتاق لكل من يغيب عنا منكم
وشقيقي شيء آخر طبعا ”
قالت حينها الواقفة أمامهم ببريد ” من يأتي ونراه شيء ومن لم نره لأشهر شيء آخر ”
نظرت حينها غسق للأرض بصمت وحزن من تغير
عمتها وغضبها الذي لن ينتهي وتابعت تلك بجدية
” أين جبران ؟ لا أراك أحضرته ” ضم غسق له أكثر ماسحا على ذراعها وقال ” رفض
المجيء معي وقال أن حالته أفضل الآن ”
قالت مغادرة من أمامهم ” أتمنى فقط أن يرتاح بما
يفعله الآن ويرتاح غيره منه ” وغادرت وتركت خلفها أنامل رقيقة تمسح الدمعة قبل أن
تسقط ويلاحظها أحد وعينان أخرى تتبعها باستغراب وعدم
فهم , نظر كاسر لها وقال ” ما بها عمتي تغيرت معك يا غسق ؟ ”
ابتعدت عنه حينها وقالت ” لا شيء أنت تتوهم فقط وهي مستاءة من الجميع هذه الفترة ”
رفع كتفيه بعدم اهتمام وقال ” يبدوا ذلك ”
ثم قال متوجها جهة السلالم ” سأنام الآن إن جاء والدي
أخبريه أن جبران أصبح أفضل ” ثم صعد السلالم وتبعته هي بخطوات بطيئة وحزينة ونظرها
للأرض حتى وصلت غرفتها ودخلت وأغلقت الباب خلفها
وارتمت على السرير ثم أخرجت الورقة من جيبها ووضعتها
أمام وجهها ولا تشعر برغبة في فتحها ولا قراءتها , لا تعرف متى ستقتنع بفكرة ما وافقته عليه , تشعر أنها كمن يلعب بمشاعر
غيره وهوا موقن من أنه سيخذله في النهاية , جلست تستغفر الله
بهمس وتتعوذ من الشيطان وكلها إصرار أن تحاول للنهاية , ثم
مدت أناملها للورقة ورفعتها وفتحتها ببطء ونظرت للمكتوب فيها كان خط جبران لكنه يبدوا متعرجا قليلا ومتغيرا ففهمت فورا
أنه كتبها الآن وأن حالته ليست أفضل كما قال لكاسر , تتبعت
بحدقتيها الأسطر تقرأها ببطء ( اشتقت لك غسق واحتجت الآن
تحديدا لشرابك الساخن ذاك عندما أصاب بالزكام , بل يبدوا أن رؤيتك كانت سبب شفائي , كلمة واحدة منك تفصلني عن
منزل والدي يا غسق وسأصبر لآخر العمر مادمتِ
وافقتِ أخيرا …. أحبك )
قبضت عليها بيدها وضمتها لصدرها بقوة تمسح دموعها باليد الأخرى وتشعر بضياع لم تشعر به حياتها ( ليثك تفهمني يا جبران
ليثك ترحمني وترحم نفسك قبلي , يا رب ألهمني للصواب لأفعله
يا رب لا تجعلني أندم يوما على أي قرار أقرره )
انفتح حينها باب الغرفة فجأة ودون استئذان أو طرق فانتفضت بجزع تحاول إخفاء الورقة ومسح دموعها وما كان الداخل سوا
عمتها التي اقتربت منها ومدت يدها لها وقلت بجدية ” أعطني
الورقة التي خبأتها في جيبك ”
أمسكت غسق جيبها بقوة وقالت ” هذه أمور تخصني عمتي ولا أريد أن يراها أحد ”
قالت تلك بحدة ” أعطها لي أو أريت سابقاتها لوالدك ولكاسر ”
نظرت لها بصدمة وقالت ” أي سابقات ؟ ”
كتفت ذراعاه لصدرها وقالت ” رسائله السابقة طبعا ابن خالتك المتيم , من تركتِ جبران وهجّرته من هنا لأجله ”
رفع بيده إحدى الأوراق الموضوعة أمامه على مكتبه ينظر لها
بتمعن وأصابع يده الأخرى تتحرك على جبينه وقد سقطت بضع
خصلات من شعره الأسود الناعم بلمعته الواضحة الغريبة وهوا يستمع لأحد الجالسَيْن أمام مكتبه يقرأ ورقة في يده قائلا
” الحقل الثالث للشعير أنتج العام مائتا شِوال وبعد موسم الحرث
والغرس بقي أكثر من ثلثي الكمية , أي أصبح بإمكاننا ملء ثلاث
مخازن كاملة في قُرى ذِمار , وإن استثنينا منها ما سيطحن ليغطي مع القمح ما سيوزع على القبائل سنوفر ضعف كمية العام الماضي
فِزقين أنتجت خمس مئة شوال من القمح ومئه وخمسون من الأرز
هذا إذا ما استثنينا الحقول التي جرفتها السيول بسبب مطر آخر الشتاء
رغم أن الخسائر قلّت عن العم الماضي لإتباعنا فكرتك في جبال الرقاع إلا أن باقي الحقول تضررت , هذا بالنسبة لحقول الشعير
والقمح والأرز أما الفواكه ….”
وواصل حديثه حتى أنهى جَرده لمخازن مئونة المدن التي في عهدتهم
ووضع الورقة على الطاولة ثم رفع نظره للجالس خلف المكتب في صمته المعتاد وقال ” وهذا العام كما أشرت سنقتطع جزئا أكبر
للمحاربين في الحدود خاصة جهة الشرق أما باقي الحقول سيبدأ
القطاف فيها قريبا وأهالي القرى ينتظرون فقط أوامرك ”
هز حينها رأسه بحسنا ونظره لازال على الورق أمامه فتابع قائلا ” وثمة أمر آخر سيدي ”
أشار له بأصابعه التي كانت تحتضن جبينه ليتابع دون أن يرفع
نظره به فقال ” حقول الرمان في قرية حَجور لازالت تتعرض
لتسلل ذاك الفتى المدعو ( تيم ) ولا يجب السكوت عنه أكثر فكيف يحفر خندقا يُدخله للحقل ويسرق من هناك
ونتركه يفعل ما يريد ”
رفع حينها رأسه لتعانق تلك الخصلات طرف جبينه وقال بنبرة
باردة جامدة ” قلت اتركوه هل سأكرر كلامي مرتين ” نظر ذاك للأرض ملتزما الصمت وتابع مطر حديثه بحدة شقّت
برود نبرته المبحوحة ” قلت إن تخطت سرقته لكميته المعتادة
فأمسكوه أما إن بقيت كما هي فلا أحد يعترض طريقه وليس
من مصلحتكم أن أكرر كلامي مرة ثالثة ” هز حينها رأسه مطأطئا له للأسفل وقال ” حاضر سيدي ”
ثم وقف قائلا ” هل تأمرني بشيء آخر ؟ ”
هز رأسه بلا مشيرا له ليغادر وما أن خرج حتى تحدث عمه صقر
الثالث في الجلسة من لم يُسمع صوته إلا الآن وقال ” إن كنا سنسكت عن كل يتيم يسرق من الحقول سينتهي المحصول على
أيدي اللصوص , وصِغر سنه لن يكون سببا لتسكت عنه يا مطر”
فوقف حينها المقابل له وجمع الأوراق التي كانت أمامه وقال
مغادرا بها وبذات نبرته الباردة ” ليس السبب ما ذكرت ” وغادر المكتب تاركا الباب مفتوحا بعده بل وترك عمه يهز رأسه يئسا
منه لأنه لم يكلف نفسه عناء توضيح السبب له ورغم أنها عاداته منذ
عرفوه لكن أملهم في تغيره يبدوا لا يموت , بينما نظر من تابع طريقه
بخطواته الثابتة سالكا الممر متوجها للخارج ونظره على وجهته للأمر من منظور آخر تماما , فتى في الحادية عشرة يحفر خندقا صغيرا يدخله
للحقل ويسرق رمانتين فقط يوميا وحتى قشورها تختفي فهذا ليس لصا ولا
عقل فتى طبيعي في ذاك السن يوصله لتلك الطريقة , ولم يرى فيه مطر
سوا أنه شيء يجب أن يُترك هكذا للمستقبل فسيكون رجلا يستحق إعطاء فرصة له بدلا من زجه الآن في السجن وتدمير ذاك
المستقبل خاصة وأنه ابن ذاك الرجل ( شاهر كنعان ) تحديدا
*
* أصابع نحيلة مجعدة بالكاد تمسك بتلك العصا التي تسندها
على الأرض وبقع بنية متفرقة على ذالكم الساعدان المكشوفان
من كمين لفستان رفعا للأعلى قليلا , تتنهد بين الفينة والأخرى
وعيناها الشبه مغمضتين تنظران لأوراق تلك الشجرة التي بدأت تورق بسرعة وكأنها تسابق الربيع , لازالت تملك ذاك السواد
القاتم رغم مرور السنين على هذا الجسد إلا أنها عينان سوداء
واسعة تعرف حسنها في صباها دون أن تسأل عنه , وكيف لا
وهي تنتسب لهذه القبائل الجنوبية وكيف إن كانت والدتها تنحدر من قبائل إزميم من جهة الأم , أنزلت نظرها للطبق المصنوع
من السعف الموضوع أمامها يحوي تمرا وكوبا من حليب المعز
ثم قالت بصوت مرتفع منادية لأحدهم من بعيد ” روحاء تعالي
الذباب شبع من الحليب , ألم أقل خذيه لا أشتهيه ” لتخرج من أحد أبواب الغرف الطينية في ذاك المنزل القديم امرأة
تظهر من خلف تلك النخلة الصغيرة المغروسة وسطه وهي تنزل
فستانها الطويل المصنوع من الكتان بعدما فتحت ربطته التي كانت
ترفعه بها للأعلى كي لا يعيق طوله حركتها وهي تعمل وقالت وهي تسرع بخطوات مَصدرها شبشبها المصنوع من الجلد الصناعي
” قادمة يا أمي ”
لتصل لها في ظرف ثواني وجلست أمامها وشربت ذاك الكوب
دفعة واحدة ومسحت فمها بظهر كفها ثم مسحته في فستانها وكأنها تحكي حكاية من حكايات تلك المدن القديمة وبساطة عيش أهلها
تخللت ملامحها ابتسامة صغيرة وهي تقول ” لم أترك له شيئا ”
لتعقب الجالسة أمامها بشيء من السخرية ” من ؟؟ زوجك ”
لتجعل تلك الابتسامة تموت في مهدها فهي تدرك أنه لم يكن محض سؤال عادي ولا مزاح فلا تجلب والدتها سيرته إلا لتنتقد
حياتها معه فقالت مغيرة مجرى الحديث ” لم أصطد تيم اليوم في
الشارع لأعطيه نصيبه من الخبز ونجح في الهروب مني ”
تنهدت الجالسة أمامها تقبض بوهن على عصاها التي رافقتها لسنين وقالت ” جميعهم سيحملون إثم ذاك الفتى , وزوجك واحد منهم
وأخشى أن عقاب الله سيكون في الدنيا قبل الآخرة وعلي يديه ”
تنهدت روحاء بقلة حيلة فها قد ساقت نفسها لموضوع زوجها
مجددا رغم موافقتها لوالدتها في هذه النقطة بالتحديد وهوا الفتى اليتيم ( تيم ) وما يلقاه من عائلته , وقفت ورفعت طبق السعف
من أمام والدتها وتحركت بخطوات بطيئة فأوقفها صوتها قائلة
” عندما يرجع زوجك ليلا أخبريه أن يرسل في طلب ضرغام ”
فوقفت مكانها والتفتت لوالدتها بنظرة مصدومة وقالت ” وما تريديه من ضرغام يا أمي ؟ ”
وقفت هي الأخرى ليظهر انحناء ظهرها وتحركت بخطوات بطيئة
مستندة على عصاها لتصل لأحد الغرف وقالت قبل أن تدخلها
” أريد مغادرة الجنوب وسأدخل لمدن صنوان ولن أرجع ” ليقع الطبق من يديها وتتدحرج حبات التمر منتشرة أمامها من
هول ما سمعت وما قررت والدتها
المخرج ظلمة ايام حياتي كليلك يا وطني نهاية الفصل الرابع
المدخل فسال الدمع على الوجنات ومن العيون.. لأناملها الرقيقة راقب وتمنى بد لها أن يكون.. تهور!!!نعم يعرف … سار بالخطى .. واحد وإثنان …والعين تراقب ليل الغسق المنان .. انحنى قلبها قبل الحس :انتظرني.. فربما ما في القلب سينام د.. وأخي ستتحول إلى زوجي حبيبي كما تتمنى الآن .. *******
نظر بضيق وعتب وخيبة أمل للواقفة بجانه وهو يقبض بأصابعه
على الورقة المطوية في يده ويطرق باليد الأخرى باب الغرفة
قائلا ” غسق افتحي أو غضبت منك وذهبت للحدود ” ولا مجيب ككل مرة فمنذ أكثر من ربع ساعة وهو على هذا
الحال واقفا يحاول إقناع التي تسجن نفسها في الداخل أن تفتح
الباب وبلا فائدة , هز رأسه وهو يزيد من قبضته على تلك
الرسالة التي أصبحت في يد الجميع وقال بصوت منخفض أغلبه توبيخ ” عمتي هل أعجبك هذا الآن ؟ بأي حق تتدخلي في أمر
يخصها وحدها ”
قالت هامسة باستياء ” وما أدراني أنها من جبران ظننت أنـ … ”
وسكتت فجأة ليقول الواقف أمامها باستغراب ” ظننتها ماذا ؟ ” تأففت وقالت ” أين ذهب والدك ؟ وحده من يمكنه إخراجها ”
عاد للطرق مجددا قائلا ” في الرجلاء فقد وصله خبر
عثورهم على خمس جثت هناك ”
وضعت يدها على فمها قائلة بصدمة ” ضننت أننا نسينا هذه الأحداث من أكثر من عامين ”
أبعد يده بيأس عن الباب وقال مغادرا ” البَركة في البلبلة
التي أحدثها ابن شاهين والقادم مؤكد سيكون أكثر سوءا ”
وغادر نازلا السلالم وتركها واقفة هناك وحدها تنظر للباب بتأنيب ضمير فلم تقسوا عليها إلا لمصلحتها , لا تريد أن يتزوجها رجل
يعيرها بأصلها المجهول , وتعلم أن أبناء شقيقها وحدهم من ستكون
مع أحدهم محمية من كل ذلك وخشيَت عليها من ابن خالتها الذي
اكتشفت رسائله لها فهو يُعرف بسوء لسانه وإن كان العيب الوحيد فيه إلا أنه سيتحول لأكبر سيل من العيوب إن كان الذي سيواجهه
هي غسق , تنهدت بقلة حيلة وتوجهت لغرفتها تتمتم لنفسها بضيق
( لو تقلعين عن عادة سجن نفسك يا غسق وعن كتمك الأمور وتحمل
أضرارها فلِما لم تخبرني من قبل أنها وافقت على جبران ؟؟ هي لن تتغير أبدا فكم تكتمت عن سوء معاملة زوجة شراع لها لسنوات حتى
كشف جبران الأمر ثم عن إحدى خالاتها وما تقول لها عن حقيقة
أصلها المجهول بعدما انكشفت الحقيقة للجميع , وغيرها الكثير والكثير
والآن وضعتني أنا محل اتهام من الجميع ولازال لي حصة كبيرة من شراع ما أن يرجع لأنه خرج ونظرته لي تنذرني بسوء ما كتمه في
نفسه لأنه استعجل الخروج )
دخلت غرفتها وأخرجت الأوراق التي أخذتها من درج مكتب غسق
وعادت لباب الغرفة ودستهم لها من تحته وغادرت نازلة السلالم وهي تعلم ما سيحل مشكلة غسق ومطمئنة ( مؤكد ما إن يرجع
شراع سيخرجها هذا إن عاد اليوم ولم تبات سجينة الغرفة بلا
طعام للغد أيضا وسيتضاعف لومه لي )
* *
رفعت عيناها من على مسبحتها لتتدلى خرزاتها تتبع بعضها وهي
تضعها في حجرها ببطء جالسة على السرير الذي يحتضن جسدها
أغلب ساعات النهار واستقبلت بابتسامة صاحب اليد التي دفعت باب غرفتها ببطء ودخل يرتدي معطفا خريفيا يناسب الطقس الحالي وصل
طوله لما يقارب ركبتيه بعمامته الداكنة تحتضن وجهه لتزيد من دكون
لون عينيه وحدتها بل لتبرز لمعان شعر لحيته ومنابت شعره لتصف
زعيم تلك القبائل في الصورة التي لا يعرفه فيها سوى المحاربين في حدود مناطقه , حاجبين مستقيمان يحفان تلك العينين بسبب النظرة
المقتضبة القوية المسيطرة , وصل عندها ومرر يده وأصابعه
الطويلة على رأسها قبل أن ينحني ويقبّله فرفعت نظرها له ما
أن وصلها صوته الجاد المبحوح قائلا ” قالت جوزاء أنك تريدين رؤيتي ”
قالت ناظرة له ” نعم ويبدوا أنك مستعجل فأين بعمامتك
هل ستوسع الحدود مجددا ؟ ”
دس يده في جيب معطفه وسافر بنظره للنافذة الواسعة المفتوحة فأكثر ما يكره سؤاله عما سيفعل وما يريد وفيما يفكر ويكره أكثر
الإجابة عليه لكنه تنهد ونظره لازال يعانق السحب البيضاء التي
أخفت الشمس وقال ببرود ” لمناطق التدريب ”
فهزت رأسها بحسنا وقالت ” أريد أن ترسل من يتقصى لي عن أمر العجوز عُزيزَة التي كانت تُوَلد النساء في الماضي في قرية
حَجور, لقد سألت عنها وعلمت أنها لازالت هناك لكن يبدوا
أن منزلها تغير فأريد أن ترسل من يأتي بها دون أن تعلم أين
أو زرها بنفسك واسألها ما أنجبت أميمه غزير لديها فتاة أم مولودا ذكرا ؟ فوحدك من ستنطق أمامه ”
نظر لها دون كلام لتفهم استغرابه للأمر فقالت ” لأمر
مهم قد أطلعك عليه يوما لكن ليس الآن ”
بمجرد أن أنهت حديثها استدار مغادرا بخطوات ثابتة بطيئة حتى وصل الباب وتخللت أصابعه الطويلة مقبضه وقال وهوا
يخرج ساحبا له خلفه ” أعطني بعض الوقت حتى نحسم
أمر ديجور أولا ”
* *
ما أن تناصف الليل وتيقنت من دخول شقيقها كاسر غرفته
وتيقنت أن والدها لن يرجع اليوم أما عمتها فمن عادتها النوم
مبكرا فما أن تصلي العشاء تنام وتستيقظ قبيل الفجر بوقت فتحت باب غرفتها وخرجت منه ونزلت للأسفل حيث الهاتف
الوحيد في هذا المنزل وكل ما تخشاه انقطاع الكهرباء في هذا
الوقت ليس لأجل الرؤية لأن المنزل كان شبه مظلم فقد تعلّم
أهالي هذه البلاد أن يوفروا قدر الإمكان وقت عدم احتياجهم لها لكن ما كانت تخشاه أن تنقطع الإتصالات بإ ولن تستطيع التحدث به , نزلت السلالم ببطء ويصل لمسامعها
صوت المذياع المرتفع الذي يخرج من جهة غرفة شقيقها كاسر
والحوار فيه في أوجه عن طلب زعيم الحالك مقابلا للعمران وتأخر رد الهازان والاحتمالات المطروحة أمامهم وموقفهم وتداعيات أي
خيار قد يختاروه من طلب ابن شاهين , وكادت أن تجلس على عتبات
السلالم تستمع لهم وتنسى ما جاءت من أجله لولا أنها هزت رأسها
وأبعدت سمعها وتفكيرها عما يقال هناك وتمتمت وهي تخطوا جهة الهاتف مسرعة ” منذ متى كانت هذه الأمور من
اهتماماتك يا غسق !! تبا لك توقفي عن هذا ”
وما أن وصلت حيت الهاتف حتى جلست بجانبه ووضعته في
حضنها ورفعت السماعة واتصلت فورا بمنزل خالتها وطال انتظارها وكلما انقطع الاتصال ولم يجب أحد أعادت المحاولة
مجددا حتى أجاب عليها الصوت الرجولي قائلا
” مرحبا من معي ”
فبلعت ريقها وعيناها تجولان بين ممرات الطابق بتوتر ( سحقا هذا وثّاب ما الذي جعله يجيب الآن ؟ بل ظننته ليس هناك في مدينتهم )
أعاد السؤال مجددا فحمحمت وقالت ” أنا غسق أعطني جليلة ”
وصلها حينها صوته مسرورا ” غسق !! ليلة سعيدة
هذه التي عادت بي للمنزل وللمدينة ” تنهدت بضيق تمط شفتيها ثم قالت ونظرها على ممر غرفة
كاسر ” توقف عن هذا واعتبرني جليلة هل ترضى
أن يخاطبها أحد أخوتي هكذا ”
قال من فوره ” لكنك تعلمين أني أحـ … ” قاطعته بضيق ” وثّاب اقسم أن أمرك سيصل لأبي وأخوتي
إن لم تسكت الآن ”
تأفف حينها وقال ببرود ” انتظري لأناديها لك ”
وسمعت بعدها خطواته المبتعدة فتنهدت براحة ويدها على صدرها فلم تتخيل أن تجد القوة لتصده هكذا فكم تهربت من لقائه وجها
لوجه عند أي مناسبة تذهب فيها لمدينة عائلة والدتها ولم تتخيل
أن يكون هوا من سيجيب عليها الآن , بعد قليل وصلها صوت
ابنة خالتها قائلة ” مرحبا غسق ” فقالت من فورها وبضيق ” لما لم تخبريني حين اتصلت المرة
السابقة أن شقيقك سيكون معكم هذا الأسبوع ”
قالت تلك ضاحكة ” ولا نحن نعلم بمجيئه , مفاجئة
سارة أليس كذلك ” تأففت وهمست ونظرها على ذاك الممر ” أخبريني ماذا حدث
بشأن ذهابك لقريبة تَوْز لكي أتحدث مع والدي ”
قالت جليلة بشيء من القلق ” غسق أخاف أن نتسبب بمشاكل وإن
حدث لك شيء وأنتي تعبرين تلك الحدود فلن يرحمني أحد ” تنهدت بضيق فهي مهما حاولت إقناعها والشرح لها لا تزال خائفة
قالت بذات الهمس ” كم مرة سأشرح لك يا جليلة سأذهب لزيارة
تلك العجوز وأرجع لن يلحظ أحد شيئا ”
قالت في محاولة جديدة لردعها عما تفكر فيه ” لا أعلم كيف تبسطين الأمر هكذا يا غسق ؟ تذكّري أنك ستتسللين لمناطقهم التي
يحرسها رجال قبائل الحالك من جانب ورجالنا من الجانب الآخر
لتعبري منها ذهابا وإيابا أي أن فرصة نجاتك منهم صفر ”
قبضت على سماعة الهاتف بيدها بقوة وقالت بتصميم ” بل سأذهب وسأدخل هناك وأصل لتلك العجوز , فأخبريني كيف يتسلل البعض
دائما ؟ ثم لا أحد يمكنه تأمين كل شبر في حدوده ولا خوف من أن
يمسك رجال والدي بي فإخوتي هناك أما رجال الحالك سأعرف
كيف أعبر منهم المهم الآن أن أصل للحدود ولا حل غير الذهاب معك في زيارتك لجدتك فهي وحيدة وتنسى ولن تلحظ شيئا ”
تنهدت جليلة باستسلام وقالت ” أمري لله رغم أني أعلم العواقب إن لم
ترجعي , ولستِ توافقين على أخذي معك كي نواجه نفس المصير , المهم
أن الزيارة تأجلت ويبدوا لوقت بعيد قليلا , حاولت جهدي ولم أنجح فعليك بالصبر أو أخبري والدك الآن وحين نكون مستعدين للذهاب
سأخبرك ”
قالت من فورها ” لن ينفع ذلك فعليا أن أتحدث معه قبل ذهابنا بيوم
أو اثنين كي لا يُقلِّب الأمر كثيرا ويشك بي ويمنعني فأنا أعرف جيدا كيف يفكر , ثم عمتي ستكشفني بسرعة ”
نظرت بعدها للأعلى بريبة وتجمدت ملامحها وهي ترى الخطوات
التي تنزل السلالم فأغلقت السماعة من فورها ووقفت ناسية أن الهاتف
في حجرها فوقع أرضا مصدرا ضجيجا واضحا لحظة وصول عمتها للأسفل فحملته بسرعة وتوتر ووضعته على الطاولة لتكتشف أن سماعته
التي تحاول من وقت وضعها في مكانها وتقع منها في كل مرة كانت
مقلوبة فوضعتها جيدا على صوت عمتها المستغرب قائلة
” غسق مع من تتحدثين هذا الوقت ؟ ” سوت وقفتها وأنزلت رأسها وقالت ونظرها على أصابعها التي
تعبث بطرف بيجامتها ” كنت أتحدث مع جليلة ويمكنك التأكد
من الرقم المخزن ”
قالت الواقفة أمامها من فورها ” ما هذا يا غسق هل تضني أني سأكذبك ؟ ”
لم تعلق ولازال نظرها على أصابعها الثلجية الرقيقة التي تبرم طرف بيجاتها
وتفتحه في حركة متكررة فتنهدت الواقفة تراقبها بتأني وتفحص من شعرها
المجموع في ضفيرة تتدلى على صدرها وقد وصلت لخاصرتها وبيجامة من الكتان بيضاء اللون متناسبة مع جسدها الضئيل النحيل وكأنها خيطت له
خصيصا , ركزت نظراتها على عينيها التي تخفيها غرتها المقصوصة وقالت
” أنا استغربت فقط يا غسق وخفت أن مكروها أصاب أحد أبناء شقيقي ”
هزت رأسها بلا بقوة وتحركت مسرعة غير مصدقة أنها لم تسمع ما دار بينهما فذاك وحده يكفي ليجعلها تفر بفرحتها هربا لكن يد عمتها كانت
أسرع لها وأمسكت برسغها وأوقفتها مكانها وقالت بهدوء ” تعالي
اجلسي يا غسق لنتحدث قليلا ”
أنزلت رأسها للأسفل أكثر وقالت بصوتها الناعم المنخفض ” إن كان حديثا طويلا فلنتركه للغد لأني أشعر بالنعاس ”
تركت يدها من فورها وقالت ببعض اللوم ” غاضبة مني لهذا الحد يا
غسق ولم تعد أحاديثي التي تعشقي منذ طفولتك تهمك ؟ ”
رفعت رأسها من فورها لتبتعد خصلات غرتها معانقة لطرفي وجهها كاشفة عن بحر عينيها الأسود الهادئ الذي تلألأت مياهه في ظلام المكان
وقالت من فورها ” لا عمتي ليس هذا ماأقصد فأنا لم ولن أنسى كل ما
فعلتيه من أجلي لكني حقا أشعر بالنعاس ”
أمسكت يدها مجددا ساحبة لها معها للأريكة الطويلة بقماشها البني الغامق الذي تحول لما يقارب الأسود بسبب النور الخفيف وطغي الظلام على
المكان , وقالت وهي تجلس وتُجلسها أمامها ” لن يطول بنيتي ”
ثم تابعت وقد حضنت كفها الصغير الرقيق بين كفيها الأكبر حجما منه رغم
صغرهما ” غسق أعلم أن تصرفي كان خاطئا لكنه من خوفي عليك بنيتي فلا أريد لابن خالتك ولا غيره أن يهينك بسبب جهله لعائلة والدك ونسبك , وأبناء
أخي شراع وحدهم من لن يفعلونها فكيف إن كان جبران أكبرهم وأعقلهم
وأكثرهم حكمة واتزانا , بل وهياما بك ”
أنزلت رأسها بسرعة تحجب ملامحها عنها ليس لتحاول إخفاء حيائها من كلماتها ولا هربا من نظراتها المتفحصة لردة فعلها بل لعض شفتها بقوة في
حركتها المعتادة منذ طفولتها حين يكون لديها كلاما لا تريد قوله , امتدت
أصابعها لذقنها وأمسكته ورفعت لها وجهها ببطء لتحرر تلك شفتيها سريعا
كي لا تراها لكن الجالسة أمامها قالت مبتسمة وهي تبعد يدها ” قولي ما لديك يا غسق فقد فجرتِ الدم في لون شفتك وقد فاتك أنها تشبه حبة الكرز عطبُها
يخرج لونها أكثر , أو أنك نسيتِ أني أعرفك منذ كنتِ ابنة العشر سنين ”
عادت للهرب من نظراتها وخرج صوتها وقد طغى على رقته وهدوئه نبرة
الأسى والخذلان قائلة بحزن ” كل شيء نسيته عمتي ولم أحمل في قلبي منه لكن مناداتك لي بابنة أميمه بدلا من ابنة شقيقي لازالت تنحرني حتى الآن ”
ضمتها لحضنها فورا وقالت بحنان ” سامحيني بنيتي الخطأ كان خطئي
من البداية يا غسق ”
قالت وقد دفنت وجهها في صدرها ” وليس لأني وافقت على جبران ؟ ” أبعدتها عنها وقالت بجدية ” مهما حدث يا غسق فقلبي كان سيأنبني عليك
فحتى الأم تغضب من ابنتها وقلبها لا يحمل ناحيتها شيئا ”
امتلأ بحر عينيها القاتم بالدموع وقالت تمسك عبرتها ” لكنك كنت غاضبة
مني طوال الأشهر الماضية ومنذ غاب جبران عن المنزل ولم ترضي إلا اليوم بعدما قرأتِ رسالته ”
مررت كفها على طرف وجه الجالسة أمامها تمسك دمعتها بصعوبة وقالت
بحزن ” كلما فكرت فيه وفي قلبه المكسور حز ذلك في خاطري يا غسق وأنا
أكثر من يعلم بعشقه المزروع في نخاع عظامه لك , وكم كان يقول لي سابقا ( نفذ الصبر مني يا عمتي وقلبي ينفطر ولا أحد يعلم بحالي ولا يرحمه )
ولم يرتاح له بال حتى أخبرك والدك شراع بحقيقة أنهم ليسوا أشقائك ”
قالت بعبرة وقد تدحرجت دمعتها الأولى تتلألأ في النور الخفيف ” هل سأسعده
عمتي ؟ هل حقا هوا يستحقني ؟ أنا خائفة عمتي خائفة عليه وليس على نفسي ” مسحت بكفها على الخد الذي أشتعل احمرارا وقالت مكفكفة الدمعة الجديدة
التي لحقت سابقتها ” الزواج يبدأ بالعشرة الطيبة يا غسق والتي ستتحول
لمحبة وود وتراحم , وبدون هذه القاعدة لن ينجح أبدا صدقيني ”
قالت بشفاه مرتجفة وكلمات ناعمة مبحوحة ” كم أتمنى ذلك وأن لا يكون الندم حليفنا ”
وقفت وأوقفتها معها قائلة ” نامي الآن وارتاحي ولا تشغلي نفسك بأمر
ستجديه فيما بعد لا يستحق كل هذا القلق والخوف ”
وسارت بها جهة السلالم لازالت تمسك يدها حتى وصلتا لغرفتها ودخلت معها وأجلستها أمام المرآة وقالت وهي تفك لها ضفيرتها ” ألم يعدك كاسر برحلة
لجيروان في الربيع ؟ فاقتنصيه غدا ليأخذنا لها فهي أجمل مناطقنا في
هذا الموسم من العام ”
رفعت رأسها ونظرت لها فوقها وقالت ما انتظرت الفرصة طويلا لقوله ” ولما ليس توز فمن كثرة ما حكت لي عنها جليلة أصبحت أتمنى رؤيتها ”
أنزلت الواقفة فوقها رأسها ونظرت لها وقالت وهي تمشط بأناملها الحرير الطويل
الأسود الذي فكته ” وأنا سمعت عنها الكثير لكنها بعيدة وعند حدودنا الجنوبية
وقد تتحول لمنطقة خطر في أي وقت ولن يرضى والدك ولا جبران قبله ” وقفت على طولها وأمسكت يدي الواقفة أمامها وقالت برجاء عميق
” عمتي أريد الذهاب , وجليلة ذاهبة نهاية الشهر قبل خروج الربيع
حيث منزل جدتها هناك , وأريد حقا زيارتها معها لتريني كل
ما حكت لي عنه فأقنعي والدي معي ” قالت بابتسامة وهي تسحبها معها جهة السرير ” إن لم تقنعه مدللته
الصغيرة غسق فلن أنجح أنا لكني سأحاول بما أن أبنائه هناك دائما
وإن قريبا منها , وهيا للنوم أم طار النعاس ”
دخلت سريرها ونامت على وسادتها الناعمة ولم تكلف نفسها عناء شد اللحاف على جسدها فقد أصبح منسدلا عليه ويدي الواقفة فوقها توصله لكتفيها كعادتهما
لأعوام ثم قبّلت جبينها وقالت ” تصبحين على خير بنيتي ونامي ولا تفكري
في شيء فالسهر سيء للصحة ”
ثم أطفأت نور الغرفة الخفيف وخرجت بهدوء مغلقة الباب خلفها على نظرات النائمة على السرير وقد ارتسمت ابتسامة طفيفة على شفتيها , فهي تحبها حقا
ومهما غضبت منها كانت ستسامحها وكم أسعدها أن تجاوزتا كل ذاك الصمت
والبرود الذي كان بينهما من أشهر , وأنها قامت بنصف المهمة وأقنعت عمتها
بذهابها للحدود دون أن تشك بها وبقي والدها فقط الذي إن قال كلمته فلن يناقشه أحد , مررت يدها من تحت رأسها ورمت شعرها الطويل الحريري
للخلف ليتناثر مغطيا المكان خلفها فهكذا اعتادت أن تنام وكلما تقلبت ليلا
رمته بعيدا عن كتفيها وجسدها
* *
تحت الظل الممتد بسبب أشجار البلوط الطويلة المصفوفة على طول الطريق
الترابي الذي يشق تلك القرية الحدودية البسيطة , قرية ( حجور ) التي اشتهرت
بحقول الرمان الشاسعة مكونة أحد القلوب النابضة لتلك الجهة من البلاد , يجلس ذاك الجسد الصغير النحيل منحني الرأس تراقب عينيه الحادة يده المرتجفة التي
يحاول تثبيتها وهوا يقص حواف أظافره بسكين حلاقة قديم مكسور كي لا يلقى
توبيخا جديدا من معلمهم وهوا يفتش أظافر الطلاب , نفض يده بقوة وخرجت
منه أنة متألمة متأففة وقد جرح أصبعه الثالث بنفس الطريقة فوقف بعدما مسحه في طرف سترته السوداء التي تغير لونها من كثرة ما غسلها ولبسها فلم يعرف
من سنتين ثيابا غيرهم بعدما ضاقت على ابن العائلة التي يعيش ووالدته معهم
ولم يعد بإمكانهم الانتفاع بها لما كانوا تصدقوا بها عليه , رفع حقيبته ووضعها
على كتفه وتحرك بمحاذاة الظل الطويل للأشجار فلا ينقصه أن يتأخر أيضا عن المدرسة , سار لخطوات قليلة يضرب جذع كل شجرة يمر بها بالغصن الذي
يحمله في يده ويردد آيات السورة التي سيقوم الطلاب بتسميعها اليوم , ليوقف
ترتيله الصوت الرقيق الطفولي الذي نادى على مسافة من خلفه
” تيييييم ” ليخرج منه تأففا طويلا وهوا يتابع سيره دون أن يقف أو يلتفت لصاحبة
الصوت التي وصلت عنده بخطواتها الصغيرة الراكضة تمسك يداها بقوة
بالحقيبة التي تحملها على ظهرها بفستانها الربيعي البسيط المكون من بلوزة
صفراء صغيرة كحجمها وسنها البالغ خمس سنوات ونيف فوقها فستان بحمالات عريضة وصل طوله لركبتيها وشريطة زهرية تمسك بها شعرها بفوضوية من
يراها سيعلم فورا أنها هي من ربطتها بنفسها وطبعا لتتجنب توبيخ مدرساتها
لمنعهم الطالبات من ترك شعرهم مفتوحا كي لا يضايقهن , شعر بني وصل طوله
لكتفيها وغرة بسيطة تحف حاجبيها الرقيقان وعينان بنية واسعة وابتسامة مرحة لم تقتلها أحزان الحياة بعد لأنها لم تعرف شيئا منها سوا عائلة عمها التي احتضنتها
صغيرة بعد وفاة والديها وإن كانت تعاني الإهمال منهم , ولم يعي عقلها الصغير
بعد أنهم ما قبلوا بها إلا من أجل ما ترث من مال ولم يمسكهم عنه سوا قوانين ابن
شاهين الصارمة في ميراث الأطفال حتى يبلغ الشاب وحتى تتزوج الفتاة , نظرت له ليبدأ ما يعرفه جيدا ويهرب منه منذ الصباح وهوا السيل الهادر من الأسئلة
والحديث الذي لا يتوقف إلا بابتعاده عنها لأي سبب كان , قالت بابتسامتها
الجميلة ونظراتها معلقة بملامحه الجامدة وعينيه الحادتين ” لما لم تنتظرني ؟
كنت أبحث عنك في المنزل وفي غرفة والدتك ” قال ببرود ونظره على الغصن في يده ضاربا به جذع الشجرة
” ولما عليك الذهاب معي ؟ طريق المدرسة تعرفيها لوحدك ”
قالت من فورها مبتسمة وكأن هذا الكلام الذي اعتادت سماعه منه في
كل وقت وفي أي شيء كلام ترحاب ووعود أصدقاء وليس بكل هذا البرود ” أنا أريد الذهاب معك ”
وتابعت بعبوس ونظراتها على قديها الصغيرتان اللتان تغوصان في
التراب اللين تحتها ” وبلال والشريرين اللذان معه سيمسكون بي
وسيضربني ويأخذان طعامي مني إن كنت وحيدة ” تجاهل كل ما قالت وما سمع وتابع ترتيله للسورة التي يحفظها منذ صباح
أمس ونظراتها لازالت تراقبه وهوا يقطع وريقات الغصن ونظره عليه
ويردد الآيات ويعيد فكل ما يعنيها أن تذهب معه فوجوده يشعرها بالأمان
فالمدعو بلال لن يستطيع أن يقترب منها وهي معه فجميع الأطفال يعلمون أنه لا يخشى إلا تيم وأن تيم لا يتدخل في أي شيء يفعله بلال إلا إن
كان يخصه أو شخصا معه ولا أحد يرافقه في هذه القرية سوا
الطفلة ( ماريه )
بعد السير لمسافة لا بأس بها وصلا للطرف الآخر من القرية حيث تشبه طرفها الأول بمنازل أغلبها طينية بسيطة ولم يدخل التطوير إلا على القليل منها , وعلى
هذا اعتادوا العيش واعتادوا أن لا يتذمروا من حالهم , وسائل النقل فيها تعتمد على
العربات التي تجرها البغال أكثر من اعتمادهم على السيارات فلا تراهم يتنقلون
داخلها إلا بها , وعبور السيارات فوق ذاك الطريق الترابي المصفوف بالأشجار لا يكون إلا لعابري السبيل أو سيارات الجيش وحاملات الجنود عابرة من هناك
للمدن المجاورة المعدة لتجميعهم , وصلا لباب المدرسة حديثة البناء رغم بساطة
تجهيزاتها ليتوقف حديث الطفلة الذي لا ينتهي بالنسبة للصامت طوال الطريق
والذي لا يُتعب ولم ينتهي بالنسبة لتلك الشفاه الزهرية الصغيرة , وما أن دخلا حتى افترقت عنه سائرة جهة مجموعة من الفتيات ممن في سنها ويقاربه
ولوحت له مبتعدة ” أراك لاحقا يا تيم ”
حيث تابع هوا سيره موليا ظهره لها ولم يجبها بشيء كعادته فهكذا عرفته
وهكذا اعتادوا عليه جميعهم , ابن شاهر هازان الذي يعيش مع والدته وسط أحد مدن الحالك ليصفه كلا الجانبين بابن الخائن المنشق عن قبيلته
*
*
نزل من سيارته ضاربا بابها بقوة وتبعته أصوات أبواب لسيارات وقفت بعده تباعا وسار بخطوات واسعة ثقيلة وهم خلفه تدوس أقدامهم وأحذيتهم
الجلدية الضخمة أزهار الأرض التي اختلطت بين البنفسجية والصفراء تخللها
بعض أزهار البابونج برائحتها الزكية لتحكي فصل الربيع في تلك الأراضي
التي غادرها ذاك الشتاء الماطر من فترة ليست قريبة , اقتربوا من أصوات الرصاص المتفرق وبدأ يتضح لهم مدى كثافته شيئا فشيئا وقال أحد
السائرين خلفه ” يبدوا عددهم قليل سيدي ”
قال السائر أمامهم يضغط قبضته بقوة ” عشر رجال وخمس رشاشات
في كل جهة , وأي قتيل آخر سيزيد من تأزم الأمر أكثر فعلى هاتين العائلتين أن تتوقفا فورا ”
وصلوا لمنزل كبير عائلتهم حيث يخرج منه صوت نواح النسوة باكيات وما
أن لمحهم أول الخارجين من الباب حتى عاد للداخل راكضا ووقف وسط
الجالسين وقال من فوره ” الزعيم ابن شاهين هنا ” فهب الجميع واقفين لحظة ما دخل وستة من رجاله خلفه وما أن وقف
عند مدخل باب مجلسهم حتى رفع يده لهم وقال ” لا يرحب بي أحد
ولن تقبلني داركم حتى تقبلوا بوساطتي لحل ما أنتم فيه ”
قال من اختلطت لحيته القصيرة بالبياض وظهر عليه القوة وقيادة كلمتهم ” شأنك أكبر من أن تكون وسيطا يا زعيمنا لكن الدم دم وساخن
وما من أحد يسكت عنه ”
جال بنظره بينهم حتى وقع على شيخ كبير وقال مثبتا نظره على عينيه
المجعدة ” أفهم من هذا أني مرفوض من عند الباب ” انتفض العجوز من فوره وقال بحدة ” خسئ وهوا ابني أن يفعلها
وصدر المكان لك وعتابه لنا ”
قال من فوره ” إذا أرسلوا من يوقف وابل الرصاص هذا حتى
نجد حلا للأمر ثم لكم ما تختارون ” نظر لابنه الذي برزا فكيه من كتمه لغيظه واشتعال قلبه على ابنه الشاب
الذي فقده من ساعات بسبب مشاكل تافهة في نظر من هم في سنه , أخفض
ذاك رأسه وقال بكلمات جامدة ” غادر يا لبيب وأخبر أخوك وأبناء
عمك أن يرجعوا ” فخرج المعني بالأمر من فوره ودخل مطر بخطواته الثابتة ومن معه وسلم
على الجميع وعزاهم في ابنهم وقد قبلوا عزائه في أول إشارة لرضاهم
بحكمه فقد رفضوا منذ ساعات الجمع الذي يقوم بحل مثل هذه المشاكل
في مدنهم ولم يقبلوا تعازي أحد حتى يبرد ثأرهم ويراق دما مقابل دم ابنهم جلس ورجاله حوله وقال من فوره ” سنجتمع بأهل قاتل ابنكم ونفض
الخلاف كي لا نصير في عشرة بدل الواحد وعداء داخلي نحن
في غنى عنه في هذا الوقت ”
لم يعلق أحد رغم أنه لا بوادر رضا على ملامحهم حتى نطق أحد الجالسين وكان رجلا فيما تجاوز الأربعين بقليل ” القاتل مختفي وأول ما سيقولونه
أنه فر خارج البلاد ويضيع دم ابننا كما حدث مع الكثيرين ”
خرجت كلمات ذاك الشيخ ذاته حازمة حادة مسكته له قائلا ” ليس
ابني وليس حفيدي ولا أعرفه من يناقشه وهوا في مجلسي وقد جاء بنفسه فابلع لسانك في حلقك ”
سكت ذاك كاتما غيظه وقال مطر ” هل يرضيك أن تدفن غدا بدل
الواحد ثلاثة حتى إن قتلتم منهم ستة أو عشرة ”
لم يستطع أحد الرد ولو أن أعينهم تحكي الكثير فقال وهويجول بنظراته بينهم ” أعلم أن الجواب هوا أن يبكوا مثلكم وأن يتذوقوا مرارة الفقد لكنه ليس
حلا وسيجلب لقبيلتكم مصائب أنتم في غنى عنها وتتحول الطرق لمذابح
بينكم ولن ننتهي عند اليوم ولا الغد , وبعد أشهر قليلة لن يكون في
استطاعتك حتى أن تخرج من منزلك كي لا تصيبك رصاصة غدر ” لم يعلق أحد فتابع قائلا ” ما علمته أن الخلاف كان على أرض في جنوب
ينبع وهي ملك لهم ومستأجرة منكم وأنكروا محصولها هذا العام ”
قال والد المقتول ” بالفعل وقد أخذوا أجارها من موسم الصيف الماضي ونحن
من قام بحرثها وزراعتها مع أراضينا وطالبوا الآن بنصف محصولها مدعين أن الأجرة لم تكن كافية , وليلة أول أمس أحرقنا المحصول ولا أحد له فيه شيء
فالمحصول محصولنا وأحرقناه , لنفاجئ فجر اليوم بحرقهم لثلاث أراضي
لنا وحين اعترضنا طريقهم عن تدمير الأرض الرابعة قتلوا ابني أمام أعيننا ”
قال من فوره ” هل من صك أو شهود على اتفاقكم ” قال والده ” رجلان من قبيلة صيغار ”
قال حينها مطر بصوت جهوري ميّزته تلك البحة الواضحة ملأ سكون
المكان وكأنه يُسمعه للذي في الداخل والخارج ” دم ابنهم مهدور ومباح
لكم ولغيركم وسأبعث من يبحث عنه , وقطعة الأرض ستكون لكم ملكا وسيعوضونكم في محاصيلكم التي أحرقت فهل هذا الحكم يرضيكم ”
نظروا لبعضهم يتبادلون أحاديث صامتة وقال أحد الشباب الجالسين
” وهل سيوافقون على كل هذا وهم بخلوا بترك المحصول لنا ؟ ”
وقف مطر ليتبعه رجاله فورا ثم جميع الجالسين وقال بحزم ” سيرضون إن بالطيب أو أكرهتهم على ذلك فالخسائر كانت من نصيبكم أرواحا
وأرزاق وعليهم أن يرضوا ”
قال كبيرهم ” وإن قُتل منهم شخص بسبب ما حدث قبل قليل ؟ ”
قال من فوره ” إذا دم بدم وتحررت رقبة القاتل والأرض والتعويض من حقكم ”
نظر لمن حوله ثم له وقال ” رضينا بحكمك ويكفينا شرفا أن
خطت قدماك مجلسنا ”
خرج بعدها من عندهم ورجاله خلفه وقال ما أن وصلوا سياراتهم ” لينطلق اثنان منكم ومعكم عشر رجال من أكابر قبيلتي للقبيلة الأخرى وأبلغهم بما
صدر مني وأن مجلسي سيستقبل الطرفين بعد ثلاث أيام وأن لا يضطروني
على إكراههم على ما حكمت به فلا أريد أن تنشب حربا بين اثنان من
أكبر القبائل هنا , وإن رفض أي طرف منهم إيقاف وابل الرصاص قبل ثلاث أيام فواجهوهم بالنار ”
أشاروا له بالطاعة ففتح باب سيارته وركب وغادر وسيارتان تتبعانه
وواحدة غادرت شمالا من حيث جاءوا
* *
مد له منديلا آخر واستمر المقابل له في السعال حتى أصبح يخرج متقطعا
وكأن روحه ستخرج فسنده وأجلسه على السرير الخشبي وقال ” جبران
ضع عقلك في رأسك وعد معي للمنزل لتحضا بعناية أفضل فعلى هذا الحال ستموت ”
رمى المنديل في سلة المهملات وقال بصوت مبحوح ” أخبرتك أني
سأكون بخير وسيأخذ العلاج وقته كما يأخذ المرض وقته أيضا
ولن أرجع هناك الآن ” تأفف الواقف فوقه ويداه وسط جسده فرفع رأسه له وقال ” هل جلبت
شيئا مهما أم قادم فقط لتصرعني بإرشاداتك ”
قال كاسر ببرود ” لا تتوقع الكثير فأنا لم أراها بعد وصولي أبدا وقد
بقيت سجينة غرفتها حتى خرجت فجرا ” نظر له باستغراب وكل مخاوفه أن رسالته السبب لكن كاسر بادر قائلا ما
أن لاحظ الوجوم على وجه شقيقه المتعب ” عمتك سببت لها مشكلة وأخذت
الورقة منها ولست أعلم ما كانت تظن بها وأخبرها عقلها , وحين اكتشفت
أنها منك كانت غسق سجينة غرفتها ورفضت الخروج والتحدث مع أحد ووالدي غادر صباحا بعد محاولة واحدة فاشلة ”
عاد للسعال مجددا وبعدما هدأ قال بتنفس متقطع ” سترضى بسرعة
أعرفها لا أنقى من قلبها , وأنت ما أعادك كل هذه المسافة وأنت
غادرت فجر أمس ” نظر جهة النافذة المفتوحة حيث التدريبات الصباحية لجنود حدودهم وقال
” هل نسيت أن مهلة ابن شاهين للهازان ستنتهي نهاية هذا الأسبوع والعمران
داخل حدودنا ولا أحد يتكهن بما يفكر فيه ذاك الرجل , لذلك طلب مني والدي
أن أكون مع الدعم والجنود وأن أرى رعد بما أن رمّاح انفصل عنه عند قيروا وأنت هنا , أما تخوم العمران ففيها رعد فقط لذلك طلب أن نزيد من
عدد الجنود هناك ففكرت أن أراك في طريقي وسأرجع للمنزل غدا فجرا ”
اتكأ على السرير وقال ” إذا لا تُقلقهم عليا وأخبرهم أني بخير , ولا
أريد أن أرى والدي هنا بعد يومين يا كاسر مفهوم ” تنهد ذاك بيأس وقال مغادرا ” ما أنا متأكد منه أني سأكون الملام الوحيد
ومن الجميع إن حدث لك شيء وتطورت حالتك ”
وغادر من هناك تاركا خلفه عينان راقبته حتى خرج وتمتم صاحبهما
” لا أقسى من مرض الشوق إلا مرض الحرمان يا شقيقي وكلاهما أشد من مرضي هذا فبقائي سيكون أفضل لي حتى يحين الوقت الذي حدّدته بنفسها ”
*
*
نزلت السلالم تحاول ترتيب ياقة فستانها العريضة بحيث لا يشدها شعرها للأعلى وكان هذا أكثر ما يضايقها فيه وتعلم أنه لن يرضى لها أحد بقصه
لكانت على الأقل تخلصت من جزء منه , وصلت للصالون الواسع الذي
حوا مالا يقل عن عشرة نسوة عمتها أحداهن في اجتماعات اعتادها هذا
المنزل , فهوا يمر بفترات لا يتوقف فيها عن استقبال نساء بعض كبار رجال قبائلهم , وكما هوا متعارف لدى الجميع أن منزل زعيم القبيلة كما
يستقبل رجالها تأتيه وفود نسائها وكما تؤخذ الكلمة فيه من مجالسه فبعض
الأمور قد تتكفل بها الأم والزوجة والشقيقة وحتى الابنة , وقد كانت عمتها
تصر على حضورها لأغلب هذه التجمعات ولتتعلم كيف تقابل جميع مطالبهم وما عليها أخذه منها فيما بعد ومناقشته مع والدها شراع وما عليهم تركه , فقد
حرصت عمتها كثيرا على حضورها معها لسنوات مضت وألزمتها حضور
جلساتها مع شقيقها شراع ومناقشتهما , وخلال السنتين الأخيرتين بعد اكتشافها
حقيقة أنها ليست ابنة هذه العائلة وليس شراع صنوان سوا زوج والدتها أصبح حضورها لاجتماعاتهم يقل وينحصر تدريجيا وتضيق مدة بقائها فيه لأنها
كرهت أن ترى ذلك في نظراتهم حتى إن كانت مجرد وهم يصوره لها عقلها
عند البعض منهن , وعمتها احترمت ذلك ولم تتطرق للحديث مع شقيقها عن
الأمر بطلب من غسق كي لا ترى نظرة اللوم في عينيه والتوبيخ في كلماته وهوا يذكرها بأنه شهد لوالدتها أمام الجميع وبأنها ابنة شرعية وما كان لزعيم
قبيلة أن يتزوج بامرأة عبثت بشرفها وسمعة قبيلتها , وقفن جميع الموجودات
عدى عمتها طبعا وسلمت عليهن بالواحدة وعلى ثغرها الجميل ابتسامة رقيقة
وبكلمات ترحاب شبه هامسة لا تسمعها غير المعنية بها كعادتها , ثم اتخذت مكانا منفردا وجلست فيه , فلسن الموجودات من سنها ولا يليق أن تناقشهن
حتى إن كان لها رأي خاص فهكذا كانت العادات والأصول فالحديث في هذه
الاجتماعات لزوجة زعيم قبيلة ووالدته وشقيقته إلا في حال كان لا أحد له
سوا تلك الابنة , كانت أحاديثهن تمتعها أكثر من أحاديث أشقائها ووالدهم بعد اجتماعهم برجال القبيلة لأنها لا تخلوا من ذكر الحروب والنزاعات وتناقل
أخبار الدماء في البلاد , كانت تدقق على كل ما يقال وتحب ملاحظة الفوارق
في الأفكار وأساليب طرح الرأي ولازال على ثغرها الصغير الجميل تلك
الابتسامة الحريرية الجميلة التي تزيد من لفت نظر أغلبهن لها وأعينهن لا تفارقها كلما سمحت لهن الفرصة , وهؤلاء النسوة وبسبب مراكز رجالهم في
القبائل يتمتعن باللباقة في الحديث وحسن الإنصات وترك المجال لمن تتحدث
ويستمع لها الباقيات , حيث لا يتسم مجلسهم بالفوضى التي تُعرف عادةً في
مجالس النساء وهذا أول ما حرصت عمتها أن تعلمه لها .. الاستماع إن تحدث أحدهم والصمت إن قاطعها حتى ينهي كلامه وعدم مقاطعته , حين خفت موجة
الأحاديث وبدأ يغلب عليها الصمت بعض الفترات نظرت لعمتها فورا ففهمت
تلك نظرتها وقالت مبتسمة ” غسق لا تنسي ما طلب منك والدك من أجل مكتبه ”
لتبادلها الابتسامة وقد أومأت لها برأسها إيجابا ووقفت معتذرة بكلمات منخفضة لكنها كانت مسموعة بوضوح من الأعين المحدقة بها بصمت وهي تغادر وقالت
أول من شعرت بابتعادها ” ألا يفكر شقيقك في تزويج هذه الحسناء الجميلة ”
وجاء جواب شقيقته سريعا وقالت بابتسامة واسعة ” بالتأكيد سيفكر في
تزويجها وأبنائه ثلاث شباب عدا شقيقها , ثم هي لم تدخل العشرين بعد ولا تزال صغيرة ”
قالت مبادلة لها الابتسامة ” بالتأكيد , أنا فقط أردت التأكد مما سمعت
وأنه الزعيم شراع قرر تزويجها لأحد أبنائه لأجد جوابا لأسئلة كثيرة
تردني عن فكرة إن كان والدها يسمح بخطبتها ” قالت المجاورة لها بذات ابتسامتها الواثقة ” إذا الجواب جاهز
وابنته لابنه ولن يستحقها أفضل منه ”
أما المعنية بكل ذاك الحديث فما كان يشغلها أكبر بكثير وبعيد عن أفكارهم
وتساؤلاتهم وهي تدخل مكتب والدها الذي اعتادت أن تقضي فيه ساعات طويلة تقرأ الكتب الكثيرة المصفوفة في الأرفف التي تطوق مكتبه قد جُمعت على امتداد
أعوام وأجيال , وكانت تلتهم تلك الكتب التهاما وتحفظ أماكن أغلبها إذا ما استثنينا
كتب التاريخ التي لم تكن تقربها , فقط لأنها في نظرها تتحدث عن الحروب وعن
الموت لذلك تبغضها أما البقية فلم تترك شيئا لم تتطلع عليه السياسة الأدب الشعر وحتى الاقتصاد وكان والدها وشقيقها رمّاح يجيبان على جميع تساؤلاتها حول أي
شيء لم تفهمه فأكثر من كان يشاركها هذا المكان هوا رمّاح وعلى الرغم من أنها
تطّلع على كل هذه الأمور لم يعتادوا أن تناقشهم فيها , لكن دخولها اليوم كان لأمر
مختلف تماما فلم تشدها تلك الكتب كالمغناطيس كعادتها ولم تفكر وخطواتها تقترب من هذا المكان ماذا ستقرأ اليوم وعن ماذا بل كانت وجهتها مكان آخر تماما وهي
تغلق باب المكتب وتتوجه للّوحة البيضاء المثبتة على أحد الجدران بما أن عمتها
مشغولة حاليا ووالدها وجميع أخوتها خارج المدينة , سحبت الكرسي ووقف فوقه
وشدت الحلقة المتدلية من الخيط الأبيض المبروم لتنزل الخارطة الكبيرة مغطية تلك اللوحة الضوئية ثم ثبتت الحلقة في مكانها ونزلت من الكرسي وأخرجت ورقة
وقلما اعتادت أن تجده هنا مكانه ولا أحد يلمسه مثلما اعتادوا وجود الخطوط التي
تتركها في بعض أسطر الكتب لتسألهم عنها , ورغم أهمية مكتبتهم وما تحوي لا
أحد يزعج مدللتهم الجميلة حين يتعلق الأمر بشيء تعشقه وتجد فيه التسلية وقت وحدتها وفراغها , وقفت أمام اللوحة وشغلت الإضاءة لتظهر معالم الخريطة
بوضوح تام , خريطة بلادها التي تنهدت بأسى ما أن رأت الخطوط العريضة
المتعرجة التي تقسمها لثلاث أجزاء ( شرق وغرب وجنوب ) بحثت بنظرها
فورا في خط حدودهم الجنوبية مع شمال الجزء الجنوبي حيث قبائل الحالك حتى وقع نظرها على ما تبحث عنه وهي قرية توز من جهتهم ومقابلا لها قرية حجور
في الجانب الآخر تماما لا يفصلهما إلا حدود وهمية صنعتها الحروب والدماء .
بدأت تدون في ورقتها كل ما كان إشارة بين القريتين من حيث المساحة بينهما
وتكتل جنود والدها وجنود الحالك من جانبهم والثغر المفتوحة التي تأخذ علامة اكس حمراء , ولم تترك شيئا لم تكتبه في خارطتها المصغرة تلك على الورقة
حتى مبنى مقر الجنود , ثم دستها في جيبها وأعادت قلمها مكانه والخارطة مكانها
وأخرجت لها كتابا وجلست تقرأ فيه وتلك الورقة داخله تريد حفظها عن ظهر
قلب قبل أن تكون هناك فهذه وسيلتها الوحيدة لتدخل حدودهم وتخرج منها عائدة لتوز دون أن يمسك بها أحد
المخرج ~
بقلم الغالية : نجـ”ـمـ”ـة المسـ☆ـاء
ما معنى الغسـقْ؟
جاءت برد الينا جاءت هدية بسيطة لكي برد المشاعر .. اتمنى ان تنال اعجابك
” تيم ” كان ذاك الصوت الغليظ الأجش الحازم الذي جعله يرفع رأسه من كتابه حيث
كانت تراقب عيناه الأسماء التي زينت حوافه القديمة فقد اعتاد أهالي المدن على
نقل الكتب بين أجيال أبنائهم كما اعتاد أولئك الأطفال كتابة أسمائهم على الهوامش
وكأنه يقول لمن سيستلمه بعده ( هذا الكتاب كان لي قبلك ) ونظراً لظروف تلك البلاد وحال أهلها فقد كانت قوانين ابن شاهين صارمة على تعليم الأبناء فالذهاب
للمدرسة كان فرض واجب يحاسب عليه ذويهم حال التقصير فيه والكتاتيب ودور
تخفيض القرآن ألغيت بأمر منه كي لا يتخذها الناس بدائل ويقدموا أولويات أخرى
على تعليم أطفالهم وقد خُصص وقتا واسعا في المدارس لتحفيظهم القرآن مع تعلم الكتابة والرياضيات والتاريخ والعلوم بنوعيها تسلسلا حسب سن الطلاب .
عاد ذاك الصوت الجامد والنظرة الباردة للحديث مجددا وقال بفظاظة
” اسرح في منزلكم أو في الشارع وليس هنا ”
ثبث نظره ونظرته الحادة على عيني من كان رحبا مع جميع الطلاب ومبتسما إلا معه ولم يعلق , لم يقل اليوم درس تسميع فلما الانتباه وما
الضير إن سافر بتفكيره والطلاب يُسمّعون حفظهم وهوا منشغل معهم
فلمن سينتبه , قال ذاك وقد تحولت ملامحه للحدة ” كم مرة قلت لا
تنظر لي بهذه الطريقة وكأنك من سني ” وبدلا من أن يخفض نظره للأسفل أشاح به جانبا , فليس من العدل
أن يعامله بما لم يعهده عليه بقية الطلاب وهوا لم يفعل شيئا ولم
يقصر في واجباته كطالب
” اقرأ هيا ” تخللت تلك الكلمات الآمرة الغليظة مسمع الفتى ابن العشر سنين وكأنها
قطار مر بين أذنيه أخلفت طنينا لم يعد يسمع معه شيء وخرجت كلماته
مقتصرة جافة ” لم أحفظها ”
وكان ذلك الزر الذي ضغطه لينفجر الواقف فوق مقعده الصغير وكأنه أعطاه مناه فنزلت يده الضخمة على الطاولة الصغيرة للمقعد وخرج
صوت صراخه الغاضب قائلا ” ولما تأتي وأنت لم تحفظ يا
حبيب والدتك ”
اكتفى الجالس تحته بالصمت والجمود عن أي ردة فعل بينما صرخ الذي امتدت كرشه أمامه ” لست أعلم يرسلون أمثالك للمدرسة لماذا
ونكلف أنفسنا دفع وإهدار المال على أشكالك ”
لم يعلق الصغير الجالس ولم يزح عيناه ونظراته الحادة عن طرف طاولة
المقعد أمامه وكأن لسان حاله يقول ( ليس المال يدفع من جيبك أنت ) لكن الجواب واحد ويعرفه ( لما يدفعون مالا على ابن الهازان ليدرس عندهم )
صرخ ذاك مجددا ” اقسم لولا أن ضرب الطلاب ممنوع لسلخت لك
قدميك حتى تعجز عن المشي عليها , قف غادر من أمام وجهي الآن ”
ليقف ذاك الجسد النحيل من فوره وخرج من مقعده متبعا ليس طريق الباب بل مسار الأصبع الكبير الذي يشير له عليه وغادر من هناك مجتازا الممر
الضيق على صوت صفق ذاك للباب بقوة خلفه وسار متابعا طريقه يديه في
جيوبه لازال يحتفظ بتلك النظرة الباردة والملامح الجامدة حتى كان في ساحة
المدرسة الصغيرة الخالية , وأخذته قدماه فورا لخلف تلك الفصول الصغيرة المتراصة وصعد فوق ذاك المبنى وجلس مكانه المعتاد حين يكون عليه مغادرة
المدرسة قبل الوقت المحدد لجميع الطلاب فيها فلا يريد أن يرجع مبكرا وتسأله
والدته المريضة عن سبب عودته , جلس في زاويته المعتادة حيث يلوح لنظره
من بعيد تلك الساحة الواسعة والمبنى مبهم المعالم ورجال بلباس الجيش يتدربون لوقت طويل ويتحركون دون توقف , فهناك تكون نقطة تجمع جنود قبائل الحالك
على الحدود الشمالية حيث يفصلهم ما يقارب الخمس كيلوا مترات عن حدود صنوان
جلس محتضننا لساقيه ومثبتا ذقنه على ذراعه يراقب تدريبات الجنود على الرماية
ببعض الأسلحة الخفيفة والمتوسطة حيث دوي أصواتها أمر معتاد جدا في هذه القرية وأشباهها من قرى الحدود كما رؤية الجنود وسياراتهم , وكحال أي طفل ما كان ليكل
أو يمل من مراقبتهم ففي أي أرض وأي مكان أحلام الفتية لا تتجاوز قيادة سيارة
والضرب بالأسلحة كما حلم كل طفلة أن تصبح كبيرة كوالدتها وتلبس كعبا عاليا
* *
نظر للأجساد الشابة ببذلهم العسكرية وأذرعهم الصلبة تحضن أسلحتهم
لصدورهم يركضون بخطى ثابتة في مجموعات منتظمة تسير أمامه تباعا
يديه وسط جسده وعينيه تراقبان كل حركة لهم عاقدا بين حاجبيه مضيقا لهما وقد لمع شعره الأسود تحت أشعة الشمس الربيعية الخفيفة لتنسج تناغما
بينه وبين لحيته السوداء المشذبة بعناية تحضن وجهه , يمسك بأكتاف بعضهم
من حين لآخر جاعلا ذلك قفزاتهم تشتد قوة وأعينهم تلتهب حماسا وعلى وقع
خطواتهم القوية على الأرض تخرج زفراتهم بوضوح في جيل نشئ ليدخل حربا لا يعلم أين ستأخذه وإن كان سيفوز فيها أم لا
تحدث أحد الواقفين بجانبه من وقت محتفظين بصمتهم وقال بثبات
” هذه الدفعة تحتاج لثلاثة أشهر أخرى فقط وستكون جاهزة ”
قال مباشرة ونظره لازال عليهم ” بل ستدخل قتالا حقيقيا قريبا وستستقبلون الدفعات الأخرى الجديدة ”
نظر له بصدمة وقبل أن يعلق أو يسال أسكته قائلا
” هذا أمر ”
تنفس بقوة ونظر للمتدربين على يديه وقال ” كثر عدد المتطوعين للقتال بعد نصرنا في الردم والحويصاء والجميع متفائل بأن
الزحف عليهم سيستمر ”
تحرك حينها مطر وقال بصوت عال أبح وهوا يجتاز صفوفهم
المتحركة ” ستنتقلون للحويصاء وخسافة يا رجال ” وتابع طريقه على صيحاتهم الحماسية الموحدة سائرا جهة المبنى المقابل لهم
داخل ذاك السور الواسع وعيناه تراقب الضلال التي ترك أصحابها خلفه لازالت
تتحرك تباعا ( سنوحد البلاد وسنأخذ المدن واحدة بعد الأخرى إن بالسلم أو الحرب
ولن أكون ابن شاهين ولن أرتاح حتى تصبح بلادا واحدة تتجه للمستقبل كغيرها وليس يعنيني أن أكون رئيسا ولا حاكما فيها كما يدعي الهازان فحريتك ووحدتك
يا بلاد أجدادي هي الغرض ولن تضيع دمائهم التي سكبوها فوق ترابك يحاربون
الأعداء هذرا ولن أكون مطر ابن شاهين ابن الحالك إن لم أفعلها )
ما أن وصل المبنى ودخله حتى ركض أحدهم في الممر خلفه قائلا ” سيدي ”
وقف مكانه والتفت له فقال المتوجه نحوه بابتسامة واسعة ونفس لاهث
من الركض ” وافق الهازان على تسليم ديجور وبدئوا بإخلائها ”
لترتسم ابتسامة النصر على شفتيه ودار من فوره حتى وصل الغرفة التي ما أن دخلها وقف له جميع من كانوا فيها وقد وجه نظره لأحدهم
وقال بحزم ” جهزوا عشر سيارات وحاملات جنود وسننتقل
للحدود الجديدة فورا ”
خرج ذاك من فوره منفذا الأوامر فوجه مطر نظره للبقية وقال ملقيا باقي أوامره ” سنطوق العمران وريهوة الليلة وما أن نستلم ديجور
سندكهما دكا وننتزعهما سلما أو حربا بعدما يخلوهم ساكنيهما ”
ثم قال مغادرا الغرفة ” أريدكم أمامي في الحدود لنتم الخطة بإحكام ”
وغادر مخلفا خلفه أفواه فاغرة على وسعها مما سمعت , فهل أخذ الديجور مقابلا للعمران ليسلبهم العمران أيضا وزيادة عليها ريهوة !! وديجور لن
تكون له إلا وقد سلموه ثبيران معها , وما كانت إلا دقائق وقد خرجوا
جميعهم منفذين للأوامر ليروا ما توقعوه وهي سيارات تحمل جنودهم
حديثي التدريب لينتقلوا لأرض المعركة التي ستحتدم مجددا خلال أيام إن لم تكن ساعات
*
*
وبعد أربعة أيام تكتم فيها كل من كان في ذاك الاجتماع عن تحركاتهم وعن مكان زعيمهم وقائدهم الدائم , وحشدوا الجنود والعتاد على حدود الحويصاء
وخسافة تحديدا في أمر ضل مبهما على الجميع حتى أعلنت الهازان عن فتحها
الممر لهم لديجور لأخذها وثبيران معها تحت مراقبة دولية عربية مقابل تخلي
ابن شاهين عن العمران النقطة المحورية التي خسارتها بالنسبة للهازان تعني خسارات متتالية متفاقمة لذلك سلبتها من صنوان سابقا وبالقوة وغطت بعض
الدول عليها بحجة أن تلك المدينة تشكل ممرا حساسا للجزء الشرقي من البلاد
وأن تكون تحت سيطرة الهازان فذلك سيدرأ العديد من المشاكل المحتمة مستقبلا
وفي تلك الليلة السوداء المظلمة التي هجرها القمر ولا ضوء فيها سوا لسيارات الجنود والكشافات اليدوية الكبيرة ولا أصوات إلا لحشرات الليل وحشرجة
الأغصان بسبب الأجساد التي تمر ملامسة لها وهمس رجال من أماكن متفاوتة
كان تجمع رجال الحالك في الحويصاء وخسافة بدلا من دخولهم لمدنهم الجديدة
التي تم تسليمها لهم وكله كان ضمن خطة محبوكة عملوا عليها لأربعة أيام متتالية بلا نوم ولا انقطاع , وعند ساعات الفجر الأولى تم إدخال سيارات بأجساد
وهمية لديجور عن طريق ثبيران في حركة عشوائية لسيارات جنود وكما توقع
من وضع كل تلك الخطة شنت جيوش الهازان هجوما كاسحا على ديجور فورا
وكان الفخ الذي نصبوه لجنود الحالك الذين اعتقدوا أنهم دخلوا تلك المدينة وكان مخطط الهازان شن هجوم كبير عليهم من داخل تلك المدينة وخارجها ومن ثم
وفي نفس الوقت الهجوم على الحويصاء والردم وإعادتهما منهم , وكانوا موقنين
من أن المراقبة العربية سلاح ضعيف جدا فلطالما فشلوا في حل أي شيء يخص
بلادهم وغيرها ولطالما كانوا فزاعة لا قدرة لها على شيء ولا اعتبار لها بدون دعم غربي لذلك نقضوا الاتفاق , أما رجال الحالك في ذاك الوقت فكانوا يتسللون
كأرانب الليل للعمران وريهوة اللتان احتوتا على العدد الأقل من الجنود والكثير
من العتاد من أجل إكمال الخطة ليفاجَئوا بهجوم بدلا من أن يكونوا هم المهاجمين
وقد وقع جنودهم في ديجور بين فكي كماشة وقد سُلبت منهم العمران وريهوة في طرفة عين وتعالى صراخ الجنود ودوي الرصاص والمدافع في مواجهة العدد القليل
الذي واجههم من الهازان بعد هروب الأغلبية بسبب المفاجأة ماعدا من دخلوا ديجور
وحوصروا فيها , ومن قاوم قُتل ومن استسلم كان أسيرا لتنقلب تلك الليلة لصخب
في الجزء الشرقي من البلاد والناس تفر من منازلها في المدن القريبة لهجوم الحالك مخافة زحف جيوشهم , واختلط الخوف والهلع والمفاجأة بالشائعات , بينما كانت ليلة
هادئة في الجزأين الغربي والجنوبي من تلك البلاد وأغلب الناس لا علم لها بما يجري
هناك بينما البعض أفسدت نومهم تلك الأخبار التي وصلتهم في جنح ذاك الليل الربيعي
الهادئ عن استيلاء ابن شاهين على خمس مناطق دفعة واحدة وفي ليلة واحدة من حدود الهازان لتصبح حصيلة ما أخذ منهم من منتصف الشتاء لآخر الربيع سبع
مناطق , منها ما أخذ بالقوة ومنها بالحيلة ومنها برد الغدر بالغدر
وعند مطلع الفجر كان الهازان يحشد لشن هجوم معاكس واسترداد ولو جزء
من كرامته قبل أراضيه وكانت جيوش الحالك قد تمركزت في مواقعها الجديدة يتلقون الأوامر من الأرفع مكانه فالأرفع حتى تصل للذي يمسك بهاتف سلكي
يدوي في إحدى غرف المراقبة والتخطيط في الحويصاء يتلقى الأخبار عن
تحركات الهازان ويلقي الأوامر على قادة جنوده , ومع أول خيط للشمس رمى
ذاك الشيء من يده وحمل رشاشه ليوقفه أحد مرافقيه ممسكا ذراعه بقوة وقال ” ابق هنا سيدي أفضل لنا ولك ”
ربت مطر بيده على كتف أحد أذرعه ورجاله المخلصين وقال بجدية
” لن يرتاح لي بال إلا وأنا معهم ولم يتغير شيء عن السابق يا ضيغم”
ثم تابع متوجها للباب بخطوات سريعة ” تولوا باقي المهمة أنا أعتمد عليكم وسنكون على اتصال ”
وخرج للسيارة التي في انتظاره بعدما اختار أن يكون قائدا ميدانيا ومحاربا
بدلا من أن يقودهم عن بعد فما يعلمه الجميع أن الساعات القادمة ستحمل
الكثير من القتال الكثير من الدماء والكثير الكثير من الدمار وكان الأمر كذلك بالفعل
*
*
” تيم ألم تذهب للمدرسة بني ؟ ” رفع نظره عن الكتاب في يديه جالسا على الأرض متكئ بظهره على
السرير الخشبي خلفه ونظر للأعلى حيث الوجه المتعب الشاحب وقال
” لا مدرسة اليوم يا أمي , نامي الوقت ما يزال مبكرا ”
عادت للاستلقاء جيدا وقالت بصوت متعب ” اليوم ليس جمعة أليس كذلك ؟ ”
عاد بنظره لكتابه وقال ” نعم لكن المدارس مغلقة ”
كانت ستتحدث لولا قاطعها السعال الذي هاجمها فجأة وتحول سريعا
لتنفس متقطع يخرج بصعوبة جعل الجالس على الأرض يرمي الكتاب من يده للأرض ووقف من فوره وقال ماسحا على شعرها الأسود الناعم
” أمي ما بك ؟ تنفسي بسرعة ولا تتركيني أنتي أيضا ”
حاولت أن تتحدث ويدها المرتجفة ترتفع لوجهه لكن تنفسها كان يزداد
ضيقا كلما حاولت ذلك فتركها وخرج راكضا من تلك الغرفة الضيقة التي تعتبر منزلهما هي والحمام الصغير المشترك معها , ركض بقدمين حافيتان
على التراب متوجها للمنزل الذي يشتركون معه في سور واحد ووصل الباب
الحديدي له وطرق بقوة طرقات متتالية حتى فتح له صاحب الصوت الخشن
الذي نادى من الداخل ” مهلك مهلك كسرت الباب ” رفع نظراته الحادة التي تحولت لزجاجية من حبسه لدمعته وقال ناظرا
لصاحب الجسد الضخم فوقه ” أمي مريضة ولا يمكنها التنفس
خذوها للطبيب في حوران بسرعة ”
ورغم أنه يعلم الجواب الذي كان الرفض في كل مرة بحجة أنه لا مال لديهم إلا أنه خمن أنّ تردي حالتها هذه المرة سيجعل هذا الجدار خالي
المشاعر يشعر بابنة عمه المرمية هناك في تلك الغرفة لا يزورها أحد
من أبناء عمها ولا يطمئنون عليها منذ توفي زوجها مقتولا ولم يترك لهما
شيئا لأنه خرج من قبيلته فارا بحياته ودخل الحالك مع مجموعة أخرى عن رضا تام من ابن شاهين , تحركت تلك الشفاه العريضة المغطاة
بشارب كثيف قائلة بحنق ” كم مرة سنعيد ذات الكلام ؟ ثم إن كنت
لا تعلم فالبلاد في …. ”
وقطع كلامه الجسد الصغير النحيل الذي حاول أن يعبر من بين ساقه والباب وخرجت صاحبته بصعوبة بالغة مستغلة الفرصة التي انفتح فيها
باب المنزل وخرجت الكلمات الرقيقة الصغيرة منها بصعوبة بسبب
كل ذاك الجهد للعبور ” تيم أنت هنا ؟ ”
لكن نظراته كانت ما تزال عالقة على ملامح ذاك الضخم معقود الحاجبين الواقف مكانه , نظرات حادة ترسلها تلك العينان السوداء كما عُرف عن
قبيلة والده المنطوية تحت أشهر قبائل الهازان , حيث كانوا يملكون نظرة حادة
ثاقبة وذكية فهم يتصدرون العقول المدبرة في ذاك الطرف الشرقي من البلاد
ويعرفون بحنكتهم ودهائهم , خرجت الكلمات مجددا من تلك الشفاه الزهرية الصغيرة التي علقت خصلة من شعرها البني في طرفها بسبب خروجها
المجهد ” تيم إنها الحرب هناك ولا مدرسة اليوم ”
قالتها مندفعة وكأنه لا يعلم وليس يدرس في ذات مدرستها , وتحدث
الواقف فوقه بذات نبرته الخشنة القاسية ” لا حل لدينا لها ” وتابع بسخرية ” والأطباء جميعهم عند جبهات القتال حيث ندك
مدنكم هناك ونسلبكم إياها ”
بقيت نظراته الحادة متركزة على عينا الواقف فوقه من لا يعلم أن آخر ما
يعني هذا الفتى الصغير إن أخذوا مدنهم أم تركوها بعدما كان يسمع حكايات والده في صغره عما لقي من قبيلته حين رفض أمرا يتعلق بمبادئه وأخلاقه
قال بنبرته الباردة ” أمي مريضة وستموت ”
لتشهق الواقفة بالقرب منه ويدها الصغيرة على فمها ونظرت من فورها
للأعلى حيث وجه عمها الواقف عند الباب بكل صلابة من جسده لملامحه لقلبه وقال بلامبالاة ” يكون أفضل للجميع ”
ثم أمسك باليد الصغيرة للواقفة بجانبه ورغم اعتراضها وبكائها جرها معه
للداخل بخشونة وقسوة يشتمها بكل ما يملك من ألفاظ وضرب الباب خلفه
بقوة تاركا الواقف ورائه ينظر لمكانه بكره وحقد لا يمكنه إخراجهما كما لا يمكن وصفهما , وعاد بخطوات ثقيلة غاضبة عكس الخطوات الراكضة التي
غادر بها ودخل الغرفة حيث يسمع سعال النائمة هناك من قبل وصوله , وما
أن هدئت نوبتها تلك حتى نظرت له مبعدة قطعة القماش عن فمها وقالت
” أنا بخير بني لا تتعب نفسك معهم فلن نشتري قلبا لمن لا قلب له ” قبض يديه بقوة وقال بحقد ” يقولون دائما أنه لا مال لديهم وهم يكذبون
حتى المال القليل الذي يخصصه ابن شاهين للأرامل لا يعطونه لك يا أمي ”
نظرت للسقف ووضعت قطعة القماش البيضاء تلك على فمها وأنفها وكأنها
ترتجي أن تنقي لها هواء الغرفة الذي لم يعد بإمكانها تنفسه فتحرك الواقف عند الباب حتى وصل حقيبته المدرسية وأخرج منها الرمانتين اللتان أحضرهما
من الحقول ككل يوم وأخرج السكين من تحت السرير وفتحهما وجلس على حافته
وبدأ ينتزع البذور بيده الصغيرة ويطعم التي لا ترى منهم هي وابنها سوا وجبة
واحدة وليست كل يوم والحجة ذاتها نفاذ المال وكأنهم لم يسرقوا أرضها ويضموها لأراضيهم وكأنها ليست ابنة عمهم ولها ما لهم , أطعمها كل تلك البذور الحمراء
الصغيرة دون أن يبقي لنفسه ولا واحدة وكان يرفع نصف الثمرة فقط من الأرض
كي لا ترى كم أكلت , وحين انتهى سألته ككل يوم ” أنت لم تأكل يا تيم ؟ ”
فأجاب كالعادة ” حصتي في الأسفل سآكلها الآن ” وجلس على الأرض تحتها بحيث لا تراه وككل يوم بدأ بأكل لب الرمان
متحملا كل مرارته تلك كي تسمعه وهوا يأكل ولا تحرم نفسها من الأكل
من أجله , ووصله صوتها المتعب معقبة على كلامه السابق ” هم على الأقل
يعطوننا وجبات مهما قلت ورمانتين كل يوم ويتركوننا نعيش في هذه الغرفة ” ابتسم بسخرية وألم ولم يعلق يرمي القشرة القاسية التي ينزع اللب منها وكل
تفكيره بعد أن تُقطف الحقول من أين سيجد طعاما وكيف سيأخذ والدته للطبيب فيهما يستمع لأزيز رئتي النائمة خلفه على السرير وهي تحاول جاهدة البقاء ولو
من أجله كي لا يطردوه من هذه الغرفة ويصبح في الشارع لأنه لا أحد سيقبل به بعد ذلك , رفع رأسه حين سمع همسا بعيدا متقطعا فأبعد يده وخبئ القشور تحت
السرير فورا قبل أن يقف وينظر جهة باب الغرفة المفتوح وظهر له الجسد الصغير
النحيل الذي لا يظهر منه إلا القليل وذاك الوجه الدائري بالعينين العسليتان يحيطه
الشعر البني الناعم , واليد البيضاء الصغيرة التي تناديه بها في صمت فتوجه نحوها بخطوات بطيئة وملامح جامدة حتى وصل عندها وقال بصوت بارد
منخفض ” ماذا تريدين ماريه ؟ إن علموا أنك خرجتِ سيعاقبونك ”
أمسكت يده دون أن تتحدث ووضعت فيها شيئا وركضت عائدة جهة باب
المنزل الشبه مغلق ودخلت وأغلقته خلفها ليخرج صوت المرأة الصارخ باسمها يصل لمسامعه بوضوح وما هي إلا لحظات وخرج صوت بكاء
الطفلة ذات الخمس سنوات ونصف فهز رأسه وقال بهمس
” غبية ”
ثم رفع يده وفتح كفه ناظرا لما وضعته له فيه فكان عملتين نقديتين ولم يخبرها عقلها الصغير أنها لا تجلب طبيبا ولن توصل والدته للمستشفى
قبض عليهما مجددا ثم دسهما في جيب بنطلونه والتفت عائدا لوالدته
التي نادته تريد الماء لتشرب
* *
نزلت السلالم بخطوات راكضة لتلحق الذي لم ترى منه سوا نصف جسده
خارجا من الباب وعمتها تقف خلفه تضم يديها أمام ذقنها بحزن متمتمة وكأنها
تستودعه خالقه وتخشى أن لا يعود , وما كان اختفى باقي جسده إلا وذراعه في قبضت ذراعيها النحيلتان وشعرها الأسود الطويل قد تناثر على طرف
سترته العسكرية فنظر سريعا للجسد النحيل الصغير في تلك البيجامة الربيعية
البسيطة وهي تتشبث به وقد رفعت وجهها محتقن الوجنتين اللتان تتوهجان
احمرارا وعينين تنذران بانفجار وشيك لدموعها وقالت بغصة وصعوبة ” ماذا يحدث يا كاسر ماذا ؟ ”
مسح على طرف وجهها بيده الكبيرة طويلة الأصابع وقال بلمحة
حزن لم يجاهد أبدا لإخفائها ” ابن شاهين غار على شرق البلاد البارحة
وأخذ العمران وريهوة أيضا والحرب هناك في أوجها , هوا ورجاله يدافعون عما أخذوا والهازان يحاولون استرجاع مدنهم والأخبار لا تسر يا شقيقتي ”
سقطت الدمعة الأولى من طرف عينها الواسعة وزمت شفتيها المرتجفتان
قبل أن تخرج منها الكلمات متقطعة ” وأيـ ن سيقف ”
شد بيده القوية على رسغها المتشبث بذراعه بقوة وقال ” لا أعلم ولا أحد غيره يملك الجواب , وعليا المغادرة للحدود يا غسق فيكفي
بكاء لأن هذا لن ينتهي ”
هزت رأسها بقوة تناثرت معها دموعها وقالت صارخة بعبرة
” لن ينتهي وذاك المجنون يفعل كل هذا , فأوقفوه جميعكم ” قال كاسر بشيء من الشدة ” كادوا له يا غسق , ولثاني مرة يفعلها الهازان
به ولم يحترموا الهدن يوما أبدا وكانوا يقتلون رجاله فرادا عند الحدود
باستمرار وغفلوا عن أنه كالبحر إن هاج أخذ كل شيء في طريقه ”
هزت ذراعه بقوة وكأنه المعني بكل هذا وقالت بغضب باكي ” لماذا تدافع عنه يا كاسر ؟ أليس دورنا بعدهم ؟
ألن تلقفنا أمواجه المجنونة أيضا ”
سحب ذراعه منها بقوة وقال بحدة ” غسق أنتي لم تعودي صغيرة وما
نحن فيه الآن كان سيحدث مهما طال الوقت , وإن قاتلنا سنقاتله لكننا لن نزحف عليه وكلام والدي وقراراه وكبار رجال قبائلنا كان واضحا ”
تمالكت رجفتها بشق الأنفس وقالت بشبه همس ” العمران أخذها ؟
هل يفكر في غرب البلاد أيضا ”
أمسك وجهها بيديه وقبّل جبينها وقال بهدوء ” لا يبدوا ذلك يا غسق فتوقفي عن تعذيب قلبك الصغير بأمور لن تحدث ”
ثم غادر تودعه دموعها التي لم تتوقف لحظة حتى خرجت سيارته
ثم نظرت للتي مسحت بيدها على ظهرها بحنان فقالت بعبرة
” وأين والدي ؟ ” تنهدت الواقفة بجانبها بحزن وقالت ” أين سيكون برأيك ؟ لن تتوقف
اجتماعاتهم الطارئة أبدا حتى تهدأ الحرب , وقد غادر المنزل من
قبل الفجر ما أن جاءته أخبار شرق البلاد ”
تركتها وتوجهت راكضة جهة الهاتف وجلست على الأريكة المجاورة له ووضعت سماعته على أذنها وضربت الأرقام فورا وكأنها مسجلة في
عقلها , وبعد محاولات عديدة كان الرقم فيها مشغولا كل مرة أجابها
صوت رجولي قائلا ” نعم من معي ”
قالت محاولة قدر الإمكان إخفاء الرجفة والعبرة في صوتها ” أعطني رمّاح شراع ”
سكت من في الطرف الآخر لوقت قبل أن ينادي والسماعة بعيدة عن
أذنه لكن صوته كان واضحا لها ” هيه أخبر ابن الزعيم شراع
أن المكالمة له ” ثم سمعت جلبة وأحدهم قال مناديا ” تعال يا جواد أخبار مهمة ”
فشعرت بقلبها توقف وهي تسمع صوت رميه للسماعة على شيء صلب
ومؤكد الطاولة التي يوجد عليها ولم تعد تسمع شيئا بعدها , وكان قلبها
يغلي كالبركان وهي تنتظر والدقيقة تتبعها الأخرى ولا أحد رفع السماعة مجددا ولا حل أمامها سوا الانتظار لأنها إن أغلقت الخط فلن تحصل عليه
مجددا وسماعتهم مفتوحة هكذا , بعد وقت بقيت فيه منتظرة على أعصابها
تحركت السماعة من صوت انسحابها على الطاولة في الطرف الآخر
وانسكبت دموعها مجددا وبغزارة وهي تسمع صوت رماح قائلا ” نعم أنا رماح شراع ”
قالت بعبرة ” رماح هل أنت بخير يا شقيقي ”
ابتسم من كان في الطرف الآخر وقال من فوره
” بخير يا طفلة لا تخافي ” مسحت دموعها بقوة وقالت بذات عبرتها “هل يفكر ابن شاهين
في الإغارة عليكم ؟ كونوا حذرين يا رماح أرجوك ”
قال بذات صوته المبتسم ” ونهرب إن جاء أليس هذا ما توصيننا به ؟ ”
قالت بتذمر رقيق ” رماح ليس هذا وقت مزاحك السخيف , أين رعد هل اتصلت به ؟ وجبران أيضا ؟ ”
قال بهدوء ” رعد في طريقه إلى هنا وجبران عند حدودنا مع الحالك
وجميعنا بخير لا تقلقي يا غسق وتُقلقي عمتي ووالدي معك ”
قالت من فورها ” ما أن يأتي رعد أخبره يتصل بي ” خرجت ضحكته وقال ” ألا يكفيك أني لم أوبخك لاتصالك بي
ونحن من حذر عن فعل ذلك وأننا نحن من نتصل بكم فقط ”
قالت بعناد وقد عادت للبكاء ” بل سأتصل بكم طوال الوقت ”
قال بنبرة مازحة ” من أجاب عليك كان أحد المقربين لي هنا واستلمني هوا ومن كان معنا وقال ( حبيبتك تريدك على الهاتف وتبكي ) ”
شعرت بكم مهول من الإحراج بسبب ما قال وخرجت منها
الكلمات هامسة ببحة ” وإن يكن … سأتصل بكما ”
ضحك من عناد صغيرتهم المحببة قبل أن تتحول نبرته للجدية قائلا ” غسق هذا المكان يعج بالرجال ولا أريد أن يجيب عليك أحد
أصحاب النفوس الملوثة شقيقتي , هل تفهمين قصدي ؟ ”
أنزلت نظرها وكأنه يقف أمامها الآن وقالت بصوتها الناعم
المنخفض ” اتصلوا بنا إذا ” قال من فوره ” بالتأكيد سأتصل بك ”
قالت بعد لحظة ” إن لم تفعلها طلبت من عمتي أن تتحدث
مع من سيجيب ”
قال بصوت مبتسم ” سنتصل بك أعدك بذلك شقيقتي ” وأغلقت السماعة بعدما ودعته هامسة بكلمات جلها دعوات بأن يحفظهما
الله , ولم تستطع بعدها الوقوف من مكانها إلا ويدها قد رفعت السماعة مجددا
وأجرت اتصالا آخر ولم تصدق نفسها حين أجاب عليها صوت الشخص
المعني ذاته وليس شخصاً آخر سيوصلها له كما خشيت فقالت تمسك عبرتها ما أن سمعت صوته المبحوح من تأثير المرض ” جبران هل أنت بخير ؟ ”
لم تسمع منه ردا لوقت حتى ظنته لم يسمعها ولم تكن تعلم ما فعل وقع
كلماتها وصوتها العذب الرقيق الذي لم يسمعه من أشهر على قلبه العاشق
وكانت ستعيد كلامها لولا أن خرج لها صوته قائلا ” غسق !! ” زمت شفتيها بقوة ولم تتحدث فقد خشيت أن يوبخها على اتصالها بمقر الجنود
خشيت أن يسخر منها كرماح لأنها تخاف عليهم من الموت لكنه قال بلهفة
ظهرت على صوته المتعب ” أنا بخير يا غسق توقفي عن البكاء أرجوك ”
قالت من فورها وقد عادت دموعها للتدحرج ” أنت عند حدود الحالك كن حذرا جبران , كونوا جميعكم حذرين فقد يخدعكم بانتظاره من جهة
الشرق ويأتيكم من هناك ”
قال مطمئنا ” كوني مطمئنة نحن نراقب كل شيء ومستعدين لأي شيء ”
قالت بشفاه مرتجفة ” كاسر سيصل عندك كونا بقرب بعض جبران أرجوك ” قال من فوره ” لا تقلقي حبيبتي وتوقفي عن البكاء وارحميني ”
قبضت على السماعة بقوة وقد شعرت بكل حرارة جسدها انتقلت ليدها تلك
التي تعرقت بشكل كبير كادت تنزلق السماعة منها بسببه وقالت بكلمات
خرجت بصعوبة ” اتصلا بنا دائما لنطمئن عليكما يـ ” وأمسكت لسانها بصعوبة حين كادت تناديه بشقيقي كما اعتادت وساد
الصمت للحظة قبل أن يقول ” سيتصل بكم كاسر ويطمئنكم
وسنكون بخير لا تخافي ”
بلعت غصتها وكأنها تبلع معها ضربات قلبها الذي توتر من مقصده و كلامه وأنه لن يتصل أبدا ولازال يصر على قراره وقالت بهمس
” ألن تتصل أنت ؟ ”
كانت تعلم أنها إن لم تعلق على جملته فستجرحه أكثر وسيضن أنها لا تهتم
إن اتصل بهم أم لا وإن سمعت حتى صوته وهوا يمنعها من رؤيته , جاءها صوته بنبرة حملت معاني كثيرة قائلا بهدوء ” حتى تقرري أن تفكي
أسري يا غسق من هذا المكان الكئيب ”
أغلقت فمها بيدها وانهمرت دموعها أكثر وأكثر وكأنه ينقصها الآن أن
يذكرها بأن كل شيء بيدها هي وبأنه تحول لسجين لتلك الحدود والمعاناة في كل شيء حتى النوم على الأسرّة القاسية بسببها وسينهيه كلمة واحدة
منها , تنفست بعبرة وخرج صوتها ضعيفا قائلة ” لن يتأخر الأمر
طويلا جبران أعدك ”
كانت تلك الكلمات كفيلة بأن تجعل قلب من في الطرف الآخر يقفز من مكانه فرحا وجعل الجالسة على ذاك الكرسي تمسح الدموع التي وصلت
لشفتيها تعتصر ألما وهي تخشى أن لا تسعده أن لا تهبه ما يستحق كل ما
يحمله لها من حب لكنها باتت مقتنعة بكلام عمتها بأن الأمر بعد زواجهما
سيتغير وأن مشاعرها نحوه لن تكون مشاعر شقيقة لشقيقها ولربما أحبته فيما بعد حبا مختلفا عن حبها له منذ كانت طفلة
*
*
خلال الساعات الأولى من ذلك النهار العاصف بالأحداث كانت جبهات القتال تحترق من قصف الدبابات وجميع أنواع الأسلحة الثقيلة ورغم أن
المناطق التي احتلها الحالك تحدها من جهة الشرق جبال أرياح التي تعرف
بؤرا للجماعات الإرهابية وهي خارجة حتى عن سيطرت الهازان فقد تقلص
هجوم جيوش الهازان على الجهة الشمالية فقط حيث ديجور وريهوة والالتفاف عليهم سيكون سهلا من قبل الحالك لكن الهازان حاولت الهجوم وإعادة ما سُلبَ
من أراضيها وإن كان هجوما غبيا وبخسائر فادحة لهم ضعف خسائر الحالك
وفي نقطة الدفاع الثانية وهي الحويصاء حيث تعد ممرا للإمداد بكل ما يلزم
للمدن في الخطوط الأمامية , كانت المدينة الخالية من ساكنيها تعج بسيارات الجنود والعتاد وسيارات الإسعاف لأن تلك المدينة تعد حلقة الوصل الأقرب
لكل ما يجري هناك على بعد كيلوا مترات قليلة فقط
دخل ذاك المبنى الواسع حيث تختلط الأصوات ما بين صراخ طالبي يد
العون وأنين الرجال المصابين وركض البعض خروجا ودخولا , عبَر الممرات وقد ثبت سلاحه الرشاش على ظهره بحيث احتضن حزامه الجلدي
عضلات صدره العريض يسير بخطوات سريعة ونظرة ثابتة لهدفه وقد
ابتعد عن طريقه كل من لمحه فاسحين له المجال للمرور , وصل لغرفة
معينة فتح بابها ودخل ليقف له الموجودان فيها من فورهما وقال ما أن وقف عندهما ” ما هذا الذي سمعته ؟ ”
لم يخفي الجالس خلف الطاولة توتره فلم يتوقع مجيئه بنفسه بل أن
يرسل أحدا غيره من آلاف الرجال حوله هناك فقال باحترام بالغ
” مطهرات الجروح بدأت تنفذ سيدي وبعض المضادات الحيوية ” قست تقاسيم وجهه وقال بنبرة تشوبها بعض الحدة ” هل هذا وقت
قولها ؟ لما حين قدّمتم لي طلباتكم لم تكتبوا ما تريدون بالتحديد ”
قال ذاك من فوره ” حدث يا سيدي وقدّرنا كل شيء ووصل ما
أردناه لكن بعض الممرضات هنا جدد وحدث استهلاك للكميات بشكل مفرط مع البعض خاصة مع أصحاب الإصابات البليغة ”
تنفس بقوة وقد برزت عظام فكيه دليل كتمه لعبارات قد تؤذيهم
إن خرجت منه وقال بجدية ” المطهرات هناك بدائل لها
أليس كذلك ؟ ” قال الآخر خارجا من صمته ” أجل سيدي وهذا ما بدأنا
الاعتماد عليه ”
قال مغادرا ” المضادات سأجد من يزودكم بها خلال ساعات
لنرجو أن تكون قليلة ” ثم خرج من عندهم وسلك ممرا آخر حتى دخل تلك الصالة الواسعة التي
عجت بأسرّة المصابين وحركة الممرضات بمعاطفهن البيضاء وبدأ يتجول
في ذاك المكان قبل خروجه مقيّما الحالات والعدد ومحاولا رفع معنويات
الجرحى بعبارات شكر وطمئنه هامسة لكل من وقف عنده وكان في وعيه التام والتقى بعض الأطباء ليلقي أوامره واتصالاته بشأن نقل بعض المصابين
للمدن الداخلية وجلب ما نقص هنا , وغادر بعدها سريعا حيث المكان الذي
لم يترك فيه جنوده فقط بل وعقله هناك معهم مخلفا ورائه همس الممرضات
عن الرجل الذي مر بهم قبل قليل كثورة قوية من الجاذبية وكتلة من الرجولة المتجسدة في كل تفصيل من تفاصيله حتى صوته المميز بتلك البحة وهو ينتشر
في صمت ذاك المكان حين يلقي أوامره , في تحركاته وخطواته الواثقة وحتى
أمواج الأنفاس القوية التي تتحكم في حركة أضلع ذاك الصدر العريض
كانت تذيب قلب أي أنثى يقف أو يمر قريبا منها وإن لم يراها *
*
جلست بجانبها على الأرض حيث البساط القديم في تلك الحجرة الطينية
الضيقة تحيط به أفرشة بسيطة , تُخرج ثيابها القليلة وتضعها في الحقيبة اليدوية القديمة متوسطة الحجم المصنوعة من الجلد , أمسكت بيدها النحيلة
المجعدة وقالت برجاء ” أمي بالله عليك فكري مجددا , أين ستذهبين في
حدود صنوان وكيف تتركيني وحدي لا وسيلة لدي حتى لأعلم كيف
أنتي وما يحدث معك ” مسحت بيدها المجعدة على يد ابنتها التي بدأت الدموع تغلبها وقالت
” حوراء بقائي لا خير فيه لك ولا لي , وأنتي هنا مع زوجك وسترزقان
بمولود بعد ثمان أشهر وحياتك لن تتوقف على عجوز مثلي ”
قالت ودموعها قد وجدت سبيلا للنزول ” لا غنى لي عنك يا أمي وإن كان لي عشرة أبناء , ثم من قال أن عمار قد يرجع حيا من
هذه الحرب التي الله وحده يعلم متى سينتهي ”
أغلقت سحاب حقيبتها الحديدي العريض بيدين قد وهنت قواهما مع
شدته قائلة ” هل ذهبت لابنة عم زوجك ورأيتها كما طلبت منك ؟ ” تنهدت حوراء بحزن وأخذت الحقيبة من والدتها تغلق باقي السحاب الذي كان
أقوى من عزيمة العجوز الواهنة وقالت ” تعلمين يا أمي أن شقيقه وزوجته لا
يتركون أحدا يزورها وقالوا أن الطبيب يمنع عنها كثرة الأنفاس حولها وتلوث
الهواء ولا يتركون معها إلا ابنها , وتيم كما تعرفيه إن أمسكتِ به عنوة لا تخرجين منه بشيء , كلماته وكأنه يشتريها بالمال ولا يجيب على
أسألتك مهما سألته ”
وقفت تستند بعصاها قائلة ” سيحملون ذنبها وعليهم أن لا يغفلوا أن الزمن
ممتد والطفل يكبر وأبناء قبيلة كنعان هازان لا يسكتون عن الضيم وانتقامهم أحر من لسع الجمر المتوهج ولن يلومه يومها أحد ”
نظرت حوراء باستغراب للتي خطت بخطوات وهنة جهة باب الغرفة تتحدث
عن أمر يحتاج لسنوات طويلة ليحدث والله وحده يعلم إن كانوا سيعيشون لها
قالت قبل أن تخرج ” لن أغادر قبل أن تخف الحرب القائمة فحاذري من أن يسمع بهذا أحد يا حوراء ”
*
*
غطت برفق جسد النائمة على طرف السرير متنهدة بحزن , فها قد غلبها النعاس أخيرا والهاتف ما يزال بجانبها تنتظر اتصال والدها شراع الوحيد
الذي لم تطمئن عليه اليوم ولم ترضى أن تنام حتى يتصل بهم لكن النوم كان البكاء المستمر , مسحت على شعرها وقبلت جبينها الصغير تراقب الوجنتين
المتوهجتان احمرارا والجفنان المرهقان بقلة حيلة فكلاهما لا تملكان سوى الدعاء والانتظار , أطفئت نور الغرفة الخفيف حيث أن الكهرباء لم تنقطع اليوم عنهم
وهذا هوا المعتاد في الأوقات التي تشتد فيها الأحوال داخليا لا يقطعون عنهم
الإمداد الكهربائي حتى تخرج البلاد من أزمتها الشديدة ولو جزئيا , أغلقت باب
الغرفة بهدوء وقد حملت الهاتف في حضنها لترجعه مكانه في الأسفل , وما أن خطت بضع خطوات نحو السلالم حتى ابتسمت للذي ظهر أمامها صاعدا منه
وقالت بصوت منخفض ” حمدا لله أنك أتيت يا شراع , غسق كادت تجن
من انشغالها عليك وقلبي كان يحترق معها في صمت ”
وصل عندها بملامح متعبة عابسة وقال بهدوء ” لم أستطع المجيء إلا الآن ولم أجد وقتا لأتصل بكم , فلما القلق ونحن لا شيء لدينا هنا ؟ ”
تنهدت بحزن وقالت ” وإن يكن فلن نطمئن عليك ونحن نعلم أن البلاد
تتحول لفوضى كلما مرت بظروف مشابهة ولسنا حديثي سنة بحرب
لتخفى عنا هذه الأمور ” تنفس بقوة وهز رأسه وكأنه يوافقها ما تقول ثم قال ” هل نامت ؟ ”
هزت رأسها بنعم وقالت ” ماذا حدث معكم ؟ وما أخبار الشرق ؟ ”
هز رأسه بأسى وقال ” كما هوا عليه , مرت ساعات هدأ فيها دوي
المدافع ثم عاد الهازان لمحاولة الهجوم وعادت الأمور كما كانت ” جالت بنظرها في ملامحه لوقت ثم قالت ” والحل يا شراع ؟ هل
سيستمر هذا حتى يكملوا بعضهم ؟ ”
نظر للأرض وقال بهدوء ” نحن نسعى جهدنا وهناك تحرك دولي بهذا
الشأن لنتوصل لتهدئة جزئية على الأقل حتى يتم حل النزاع سياسيا وهذا المتوقع في وقت قريب إن شاء الله ”
هزت رأسها بأسى وقالت ” ويجلسون على طاولة مفاوضات طبعا
والنتيجة لن يرضى أحد بما سيقول الطرف الآخر , لقد سئمنا
من هذا يا شراع ولم يكن حلا يوما ” تحركت خطواته مجتازا لها وقال بصوت ظهر عليه التعب بوضوح
” على الأقل يصلون لحل مع ابن شاهين وإن بالضغط عليه ”
التفتت مع حركته قائلة ” إن قلت شخص آخر لقلت يجوز ذلك لكن
ابن شاهين ذاك فاق جبال أرياح صلابة وعنادا ” وقف مكانه وقال ” لنأمل من الله خيرا ”
قالت من فورها ” ونحن يا شراع ؟ وغرب البلاد ما نظرة
ذاك البحر الهائج لنا ”
التفت لها نصف التفات وقال ” لن يفتح على نفسه جبهتين حاليا ومهادنة تبادل الأسرى بيننا لن تنتهي إلا بنهاية الصيف القادم
أي بعد أربعة أشهر ولا أراه يفكر في الزحف علينا حاليا ”
قالت المحتضنة الهاتف خلفه بقلق ” وهل سيأخذ شرق البلاد
ويقف هناك ؟ هل فكرتم في هذا ؟ ” تحرك مجددا قائلا ” ليس الشرق مدينة واحدة ولا يؤخذ بسهولة
ولكل حادث حديث حتى وقتها ”
ثم تابع وهوا يبتعد جهة غرفته ” سأستحم فاجلبي لي أي شيء
يؤكل سريعا لأنام فسأخرج مجددا بعد الفجر ” واختفى عنها خلف باب غرفته فتنهدت بأسى وتوجهت للسلالم نازلة منها
متمتمة بالدعاء الذي لم يتوقف لسانها عن ترديده طوال ساعات هذا اليوم
توجهت للمطبخ ولم تفكر في إيقاظ إحدى الخادمات في هذا الوقت المتأخر بل
نظرت ما يمكنها أخذه له سريعا بينما يكون أنهى استحمامه ثم صعدت للأعلى وفي يدها صينية تحوي بعض الأطباق مما وجدته سريع التحضير ودخلت
الغرفة بعد طرقات خفيفة على الباب وكان شقيقها جالسا يحرك كتفيه ورقبته
بتعب فوضعت الصينية أمامه ووقف ضامه يديها لبعضهما وقالت ناظرة له وقد
مد يده سريعا لما جلبته ” أرى أن تطلب من أحد أبنائك أن يكون هنا ولا تضعهم الأربعة حيث قد يتحول المكان لجبهة قتال في أي وقت ”
وضع اللقمة في فمه وقال وهوا يمضغها ” أبنائي ليسوا صغارا ولن يمسك
أحد عنهم الموت , ومن جاء أجله يموت حتى في فراشه وليسوا أفضل
ممن هناك ولست أفضل ممن يقدمون أبنائهم للقتال ” قالت مصرة على رأيها ” وإن يكن فوجودهم هناك في هذه الفوضى
أمر خاطئ , أترك واحدا لنا يا شراع فمن يعلم الزمن ما يحمل لنا
ونحن امرأتان وحيدتان ”
لم يعلق على ما قالت مستمرا في أكله فتابعت قائلة ” اطلب من جبران المجيء فهوا اتصل بنا اليوم مرتين على غير عادته مؤخرا وهوا
من بين أبنائك من يفكر في غسق كزوجة ”
نفض يديه حامدا الله بهمس ووقف وقال متوجها لسريره ” أجلي الحديث
وحتى التفكير في هذا الأمر حاليا فالعجوز عزيرة أرسلت لي سرا من أخبرني أنها تريد دخول أراضينا والعيش فيها ”
نظرت له بصدمة لم تستطع تجاوزها بسهولة ثم قالت ” عزيرة التي
ولّدت والدة غسق لا غيرها ؟ ”
دخل سريره وسحب الغطاء على جسده المرهق وقال ” نعم وقالت أنه ثمة من يبحث عنها ومن داخل عائلة ابن شاهين ”
المخرج ~
بقلم الغالية : نجـ”ـمـ”ـة المسـ☆ـاء
احكــي لنــــا عن آسـرٍ .. وعن بطــولـةِ جابــرٍ تحياتي الحارة 😘 ..نجـ”ـمـ”ـة المسـ☆ـاء
نهاية الفصل السادس
المدخل ~ قاتلتي بلا سلاح ابتعدت عنك لاهدئ خفقات قلبي النابض باسمك احبك .. جبران غسق
*******
في إحدى أراضي شرق البلاد وفي عمق قبائل الهازان , في تلك البلدة
الخضراء الصغيرة المرتفعة ( خُماصة ) التي تميزت أراضيها بزراعة نباتات الصفصاف حيث الخصوبة التامة والأمطار الموسمية التي تزورها
حتى أواسط الصيف , وقد اعتمد أهلها على بناء المنازل من الطوب لأن
المنازل الطينية لا تصمد فيها لذلك كانت مقرا لقبيلة خماصة تحديدا ومنها
استمدت اسمها منذ أمد بعيد وهي من القبائل المنضوية تحت الهازان , وهي قبيلة اشتهرت بتدرج اللون الأزرق في أحداق أعين أبنائها حتى باتت سمة
تميزهم عن الكثيرين فتجد الجد وأبنائه وأحفاده حوله جميعهم لهم نفس تلك
الزرقة المتفاوتة ولم يقضي عليها ولا اختلاط الأنساب بالقبائل الأخرى وإن
قل ذلك في عاداتهم , وتروي الحكايات أن جذور تلك القبيلة كما في العديد من القبائل منحدرة من بلدان ليست عربية وأغلبهم ما يسمون بالمستعربين
الذين نزلوا البلدان العربية من مئات السنين والبعض ينحدرون من السكان
الأصليين للبلاد قبل أن تمر بها الفتوحات الإسلامية فتجد فيهم كل هذه
السمات من لون العينين للحمرة في البشرة البيضاء وميلان لون الشعر لتدريجات البني كافة رغم أن الدم العربي واللهجة النظيفة موجودة فيهم
بوضوح فقد تداخلت الأنساب من أجدادهم الأوائل وتحولوا لعرب لا نقاش
لاثنين في أمرهم وجميع ما ذكر يعد تاريخ مضى لا أحد يذكره الآن .
( بلدة خُماصة ) في هذا اليوم لا يفصلها عن خط الحرب الدائرة شرق البلاد سوى بلدة واحدة , أي تبعد مسافة قرابة الثلاثين كيلو مترا عن خط الحرب في
ريهوة وكان دوي المدافع يصل للمنازل الأقرب لتلك الجهة بوضوح , وحيث
أن بعض أهاليها غادروا من أيام ما أن دارت رحى الحرب هناك فالبعض منهم
اعتصموا في منازلهم ورفضوا المغادرة لأسباب عدة ومختلفة كما أضطر من لديهم أطفال للرحيل حاليا عن تلك الجهة للذعر الشديد الذي سببته لهم
تلك الأصوات , حتى تتوقف رحى الحرب أو تهدئ قليلا
وفي أحد منازل تلك البلدة بل وعلى أطرافها الأقرب لدوي الدبابات والمدافع
وفوق تلك الثلة الصغيرة التي أحيطت بسياج من الأسلاك الشائكة حيث كان يقع ذاك المنزل الصغير نسبيا المبني من الطوب الأبيض وقد غُطي سقفه
بالآجر الأحمر المتعرج ليتناسب مع أجوائها وأمطار شتاء تلك البلدان
الجبلية المرتفعة , كانت قد افترشت الأرض تجلس على بساط غليظ فوقه
فراش سميك مخصص لذلك وقد ضمت ساقيها وجلست متربعة ليتسنى لتلك الصغيرة ابنة الأربع سنين أن تتكئ على ركبة جدتها تنظر للفراغ وأصابع
تلك المرأة ذات الثماني والأربعين عاما تمسح على الشعر البني الحريري
برفق تستمع للمذياع بجانبها وقد تناغم الصوت الذي يصرخ خارجا منه مع
صوت دوي تلك الأسلحة الثقيلة التي تهتز نوافذ المنزل لدوي بعضها إن اقترب , رفعت تلك الصغيرة عينيها ونظرت بحدقتيها الزرقاء التي تشبه
بحرا في يوم صيفي قد صفت فيه السماء وعكست عليه زرقتها البهية محدقة
بجدتها المنتبهة مع ما يقول زعيم قبائلهم مهددا ومتوعدا من وصفهم بالخونة
الحثالة وهم قبائل الحالك ثم عادت بنظرها للفراغ مجددا تنظر للشيء الأسود الصغير الذي يقترب منها وكأنه لا وجود له حتى أبعدته تلك اليد طويلة
الأصابع رامية له بعيدا وقالت للتي لازالت تتوسد ركبتها ” زيزفون يا
صغيرتي هذه الحشرة خطرة لا تتركيها تقترب منك ”
نظرت لها تلك الطفلة وكأنها تترجم وتحلل ما تقول وقد كررته جدتها ثلاث مرات متتالية وقالت حينها تلك الصغيرة بهدوء ” خطرة ”
مسحت تلك على شعرها وقالت مبتسمة ” نعم صغيرتي خطرة
وعليك أبعادها عنك كلما اقتربت ”
لتعود تلك العينين الزرقاء لتهيم في الفراغ وهي تردد بهمس ” خطرة , أبعدها عني ”
لتخرج تلك التنهيدة الحزينة من بين أضلع التي كلما تقدمت في العمر يوما
فكرت أكثر في حفيدتها التي لا أحد لها غيرها , ابنة ابنها الوحيد الذي توفي
وهي لم تخرج للعالم بعد وتركتها والدتها من أجل أن تتزوج بآخر ولا تربط نفسها بابنة مريضة تحتاج لعناية ورعاية تتمثل في المراقبة طوال الوقت لإبعاد
أي شيء يكون عاديا بالنسبة للجميع يتحول لخطر بالنسبة لتلك الطفلة , كلما
فكرت في حفيدتها أكثر كلما لعنت ذاك اليوم الذي تزوجت فيه من ذاك الرجل
الغريب عن قبيلتهم وهي ابنة السبع عشرة سنة لتكون أم لإبن لم يعترف أنه من صلبه وأنكره مثلما أنكر زواجه السري بها وكانت النتيجة ابن نُسب لجده
والد أمه بدلا من أن ينسب لأبيه , والنتيجة الأخرى هي هذه الطفلة التي
مات والدها في تفجير إرهابي من أربعة أعوام وبقيت لا أحد لها سوا هذه
الجدة الوحيدة مثلها , وقفت مبعدة لها عنها ونظرت لها وقالت ممسكة كتفيها الصغيران ” زيزفون سأدخل للحمام فلا تفتحي الباب
وتخرجي بنيتي حسنا ”
بقيت تلك العينان الزرقاء الواسعة تتفحص عينا جدتها التي تشبهها في
كل شيء وككل مرة تحاول ترجمة كل كلمة على حدا حتى كررت لها ” زيزفون لا تفتحي الباب حسنا ”
هزت تلك الصغيرة رأسها بحسنا وقالت بصوتها الرقيق الهامس
” لا تفتحي الباب ”
فابتسمت لها ابتسامة لم تصل لعينيها وغادرت من عندها هامسة بأسى ” لا يقلقني شيء أكثر من سؤال جدك ضرار ذاك عنك مرة أخرى
لا بارك الله في اليوم الذي عرفناه فيه ”
*
* بذراعها على حافتها وقد نامت برأسها عليها تقف بفستانها الزهري الذي
حوّلها لشيء أشبه بأزهار الكاميليا الرائعة وهي هائمة بنظرها لما انشغلت
أصابعها الثلجية بفعله بوريقات أزهار شجرة السنديان , الشجرة التي فاق
طولها تلك الشرفة وقد تساقطت أزهارها حمراء اللون ذات الشكل الثلاثي الغريب الأقرب منه للأوراق من الأزهار وكما يعرف عنها فهي تتساقط
طوال الوقت وقد انتشرت في كل مكان حولها حتى على خصلات شعرها
الأسود الحريري المتطايرة مع رياح بداية الصيف العذبة , اقترب منها
بخطوات خافتة حتى كان خلفها وهمس مبتسما ” كيف هي شقيقة كاسر الجميلة ”
ليقفز ذاك الجسد النحيل مفزوعا وبعثرت يدها تلك الزهرات وقد أخذت
نفسا قويا ويدها على صدرها وقالت بهمس ” أفزعتني يا أحمق ”
ضحك بصوت مرتفع ناظرا للأعلى ثم نظر للتي تحولت نظراتها له للضيق وقال غامزا بعينه ” هل أفهم ما ذاك الشكل الغريب الذي
كنتِ ترسمينه بالأزهار جعلك سارحة هكذا ؟ ”
لينتشر ذاك اللون الزهري أعلى وجنتيها وقد هربت بأصابعها خلف
جسدها تقبضهم ببعض وفرت بنظرها للأرض ثم شعرت بإصبعه الكبير وهوا يلامس وجنتها وخرج صوته ضاحكا ” وما سر
هذه الأزهار البرية التي نبتت هنا فجأة ”
أبعدت يده وأولته ظهرها ناظرة للخارج حيث حديقة منزلهم الواسعة
وقالت ” لا شيء طبعا فلا تتوهم أمور ليست موجودة ” وكيف لها أن تعترف بما كانت تكتب بتلك الأزهار وهل كان سيصدقها
إن أخبرته أنها كانت تفكر فيما يحدث في شرق البلاد والقرار المصيري
الذي سيصدر اليوم وأنها كتبت اسم ذاك الرجل دون شعور منها رغم أن
تفكيرها كان منصبا على الحرب هناك لا عليه هوا ذاته , التفتت له بسرعة وقالت ” كيف هم جبران ورعد ورماح ؟ ألن يأتوا ؟ ”
هز رأسه بلا فقالت بحزن ” يعني أن أبن شاهين رفض ”
قرص خدها بقوة وقال مبتسما ” بل وافق وتمت التهدئة اليوم ”
قالت بصدمة ” حقا توقفوا !! ” قال باختصار ” جزئيا أو لنقل حاليا فقط ”
عبست ملامحها وقالت بأسى ” ثم ماذا ؟ ”
رفع يده ونظره للأعلى وقال وأصابعه تلعب بأوراق السنديان الكثيفة
المصفوفة ” سيتم إيقاف إطلاق النار من الجانبين ويجتمعون بابن شاهين خلال أيام للتفاهم معه ”
تأففت برنة رقيقة بالكاد خرج معها تنفسها وقالت
” وطبعا ما سيقوله سيحدث ”
نظر لها وحرك كتفيه وقال ” الهازان أرسلوا يطلبون أن نغزوا على الحالك ”
شهقت فيه بقوة فاغرة فمها الصغير قبل أن تزم شفتيها وقالت
” ما هذا الغباء الذي أصابهم ”
ضحك وقال ” لو كنتِ تقرئين التاريخ أيضا يا فأر الكتب لفهمتِ أنهم يريدون أن نحاصره بفتح جبهتين عليه ”
شعرت بشيء ما تغلغل في حلقها أخرج صوتها متقطعا
قائلة بصدمة ” تحـ ـاصرونه من الجانبين ”
هز رأسه بلا وقال ” رفض والدي وكبار قبائلنا ” رفعت خصلات غرتها خلف أذنها وقد قبضت يدها الأخرى على طرف
فستانها بقوة وقالت بتوجس ” ألم تكن طريقة مناسبة لردعه عما يفعل ؟ ”
قال بجدية ” بلى لكن الخيانة في دم زعمائهم يا غسق فقد خانوه مرارا
وغدروا بالمعاهدات معنا أيضا وما أن تتحقق مآربهم سيغدرون بنا ” عبست ملامحها قبل أن تردف بحزن ” دخلنا الأسبوع الثالث
فما الحل يا كاسر ؟ متى سينتهي كل هذا ”
ابتسم مراقبا ملامحها الجميلة وسط أوراق السنديان الخضراء البراقة
بأزهارها شديدة الحمرة وقد تمركز ذاك اللون الزهري فوق وجنتيها مجددا جاعلا من ذاك المشهد لوحة لا يشوبها سوا تحرك الأوراق
وخصلات شعرها مع الريح الخفيفة , لتعلوا ابتسامته تلك نظرة
مشاكسة وقال ” الحل لدي وسهل جدا ”
نظرت له باستغراب من قوله ذلك بكل بساطة مع تلك النظرة والنبرة اللتان لم تحملا الجدية أبدا وقد تابع وتلك التسلية في ملامحه تزداد مكرا
” نرميك في حديقة منزله وأقطع ذراعي إن غادره بعدها قبل عام
وستصدأ عظام رجاله من الانتظار ”
ليتفجر ذاك اللون الزهري متحولا لحمرة انقلبت سريعا من الخجل للغضب وقد توجهت نحوه تلكمه بقبضتيها على صدره قائلة بحنق
” سأقطع لسانك أن قلت هذا مجددا ”
ضمها لصدره مطوقا بذراعيه جسدها الصغير بالنسبة له وقال ضاحكا
” حسنا توبة يا من تكره أن يتغزل فيها الرجال ” ابتعدت عنه وقالت بحنق ” لو لم تكن شقيقي لعلمت من سأخبره
ليقطع أذنيك ”
وضع كفيه على أذنيه وقال مبتسما ” لا كله إلا جبران فإن سمع ما
قلت لدفنني جثة عند الحدود هناك ” عادت وجنتيها للتوهج مجددا وها قد فهم من قصدت بشكل خاطئ
فدفعته من أمامها وقالت وهي تدخل غرفتها ” أحمق ”
فضحك وقال لاحقا بها ” أقسم أني أتوق لأرى امرأة تسلب ذاك
الجبل لبه وتكسر عنفوانه هذا لتجعله ضحية حرب بدلا من المنتصر الدائم فيها ”
ثم سرعان ما عاد للشرفة مغلقا الباب ضاحكا ليتصدى للوسادة التي
رمته بها وقال صارخا بضحكة ” لم أتحدث عنك أنتي يا عدوة
ابن شاهين بل قصدت أي امرأة منا أو من الهازان ” *
*
خرج من المنزل ولف خلفه ووضع حقيبته هناك ثم توجه لمنزل معين
وهوا لأحد كبار القبيلة هناك وطرق الباب وما هي إلا لحظات وفتحه له بنفسه , ذاك الشيخ ذو الثمانين عاما بلحيته الطويلة البيضاء وقميصه
الأبيض الطويل نظر له مستغربا لبرهة ثم قال ” تيم ألم تذهب للمدرسة ؟ ”
فمن المعروف هنا وبما أنه مضى على الحرب أيام واستأنفت المدارس
عملها فجميع الأطفال هذا الوقت يكونون فيها , أجابه من فوره بصوته البارد المنخفض ” لم أذهب لها ”
مسح بيده على الشعر الأسود الكثيف تحته ودفعه من مؤخرة رأسه
قائلا ” ادخل يا تيم ”
ودخل به لمجلس منزله الصغير فهوا يعرف هذا الطفل جيدا فلن يأتيه إلا لأمر جلل ولن يتحدث مع أحد عبثا وهوا من اشتهر هنا بقلة كلامه
وبعباراته المقطوعة التي لا تخرج منها بما تريد مهما حاولت , جلس
وقال ” اجلس وأخبرني ما جاء بك وقت المدرسة ”
نظر للأسفل وقال ” لا أستطيع جلوس مجالس الرجال وأنا طفل شكرا لكرمك ”
ابتسم مراقبا ملامحه الجامدة فهذا التقليد اشتهرت به قبائل الهازان ورغم
أنه ولد هنا وعاش معهم إلا أن والده يبدوا أنه غرس فيه ما يحب من
طباع قبيلته وإن كان أنكرها سابقا وخرج منها , قال مبتسما ” حسنا ما جاء بك يا تيم ”
رفع نظراته الحادة وركزها على عينيه وقال ” أمي مريضة وعلينا
أخذها لحوران ”
قال الجالس أمامه مستغربا ” ألم يأخذوها للطبيب وهي تتلقى العلاج حاليا ! ” نظر جانبا ولاذ بالصمت فهوا يعلم أن البوح بما يحدث معهما هناك
سيكون مصيره عقابا قاسيا وأن تحرم والدته حتى من اللقمة الشحيحة
التي يعطوها لهم وقد يرموهما في البر بدم بارد ويقولان بأنهما ماتا
قال الجالس أمامه عندما طال صمته ” هل ساءت حالتها أكثر ؟ ” نظر له وقال ” أصبحت تأتيها نوبات سعال شديدة تفقدها القدرة
على التنفس لوقت وستموت ”
قال مجددا ” ألم يأخذوها للطبيب فماذا قال ؟ ”
أخفض رأسه وقال بشبه همس ” لا أعلم ” تنهد بأسى ووقف على ركبتيه وأمسك بكتفي الواقف أمامه وقال
” تيم قل شيئا واضحا ومفهوما لأساعدك ”
رفع نظره به وقال بجدية ” تساعدني إن أخذت والدتي للطبيب دون
أن تخبر أحدا أني من طلب منك ذلك ولا أن تسألني عن شيء ” تنهد بقوة ووقف وقد فهم صمت الصبي وأسبابه وتمتم هامسا
” لا حول ولا قوة إلا بالله ”
ثم قال بجدية ” حوران بعيدة والرحلة لها ستتعبها لكن يوجد طبيب
عند مبنى الجنود في الحدود فسأرى طريقة نجعله يعاينها ويعطيها علاجا دون أن يشك ابن عمها ”
نظر له فوقه وابتسم ابتسامة رضا لم يراها على وجهه سابقا وقال
” شكرا لك يا عم ”
مسح على شعره وقال ” ألحق بمدرستك بسرعة فما يزال هناك بعض الوقت كي لا تتلقى توبيخا من أحد معلميك ”
هز رأسه بحسنا وغادر من عنده مسرعا وهز ذاك رأسه متنهدا بأسى
فابن الهازان سيبقى هازانا مهما اختلفت الظروف لأن الناس لا ترحم * خرج من عنده متفائلا بأن ذاك الرجل سيسعى جهده من أجل أخد والدته
للطبيب , فسيتحمل الضرب والعقاب والجوع وأكل قشور الرمان من أجل
أن تتحسن صحتها , مر بالمنزل مجددا أخذ حقيبته وفتح الباب الذي لم يغلقه
واطمئن على والدته التي لم تنم إلا بعد الفجر بسبب السعال وضيق تنفسها ثم خرج راكضا ليدرك مدرسته فمازال هنالك بعض الوقت ويمكنه إدراكها
قبل أن يدخل الطلاب لحصصهم , ركض مسرعا تحت ضلال تلك الأشجار
الطويلة العالية ممسكا حقيبته على كتفه ليلوح لمسمعه صوت بكاء قادم من
بعيد يعرف جيدا هذه النبرة الرقيقة العالية لمن تكون , كان ذاك البكاء يقترب أكثر فأكثر ليكتشف أن صاحبته كانت تركض أيضا لكن في عكس اتجاهه
وما أن وصلت عنده حتى وقف وقال بانزعاج ” أغلقي فمك واصمتي ”
لكن فمها لم يغلق وعيناها لم تفتح فنظر لها نظرة شاملة من شعرها المبعثر
لوجهها الملطخ بالتراب لثيابها المغبرة ثم قال صارخا فوق صوتها لتسمعه ” ماريه أصمتي لنلحق مدرستنا ”
ولا حياة لمن تنادي فصرخ بعنف ” ماريااااا ”
فسكتت فجأة تنظر له بعيان دامعة تمسك فمها الصغير بصعوبة
عن البكاء فتأفف وقال ” توقفي أو ضربتك ” مسحت على خديها الصغيران وقالت بعبرة
” أين أنت لم أجدك ؟ ”
قال ببرود ” ألهذا تبكي يا جبانة ”
قالت وقد عادت للبكاء ” بلال ضربني وأوقعني على الأرض وضحك مني هوا ورفيقاه ”
سار مجتازا لها وقال ” إذا لا علاقة لي بك واذهبي لعمك وأخبريه ”
لكن تلك الخطوات الصغيرة تبعته راكضة تمسح عينيها
بكفيها الصغيران وهي تقول ” انتظر سأذهب معك ” فتابع ركضه أمامها حتى كانا عند باب المدرسة ووقف وقال
” ادخلي بسرعة كي لا يعاقبوك ”
نظرت له ودموعها لازالت تعانق رموشها وقالت بحيرة
” ألن تدخل ! ” دفعها للداخل قائلا ” بلى سألحق بك ادخلي ”
دخلت وتركته وفي كل خطوة تخطوها كانت تنظر للخلف حيث كان واقفا
خارج باب المدرسة ولم يدخل حتى اختفت وعاد حينها أدراجه وسار جهة
أحد الخرب القديمة التي لا يسكنها أحد بسبب انهيار أسقفها وهوا موقن من أنه سيجده هناك فهوا يهرب غالبا من المدرسة أيام الامتحانات , ما أن وصل
وكما توقع وجده يلعب الكرة مع الفاشلين الآخران وما أن رأوه حتى توقفوا
عما كانوا يفعلونه وتراجع الاثنان للخلف فهم يعلمون جيدا سبب مجيئه لهم
وقف ذاك فارج بين ساقيه ويداه وسط جسده وقال ” ماذا تريد يا ابن الخائن ” توجه نحوه بعدما رمى حقيبته جانبا بعنف وقال وهوا يدفعه للخلف بقوة
” اقسم إن ضربتها مجددا فسأقتلع عينك من مكانها ”
ترنح في وقفته قبل أن يستعيد توازنه مجددا ثم دفعه أيضا وقال محاولا
إيقاعه ” لا شأنك لك بها يا ابن الهازان ” دفعه بقوة أكبر بطحته أرضا وبرك فوقه ممسكا بثيابه بقوة وقال بحدة
” تترك الجميع وتضربها هي يا جبان لأنها وحدها من يقترب مني
واجهني أنا بدل أن تضرب طفلة ”
ودخلا في عراك لا يُرى منه سوا غبار الأرض حولهما ولم يتدخل أي أحد من الواقفين خلفهما اللذان لاذا بالفرار بعد قليل لأنهما يعلمان
نتيجة هذا العراك جيدا وقد يكون دورهما بعده
*
* مسحت على ظهر الطفل ذو العامين المستلقي نائما في حجرها وقد
دفن وجهه فيه وقالت ناظرة للتي بجانبها تربط للطفل ذو التسع
أعوام حذائه وقالت ” متى قال عمي أننا مسافرون من هنا ”
رفعت تلك كتفيها منشغلة بحذاء إبنها وقد تساقطت خصلات شعرها الأسود الناعم بسبب يده الصغيرة التي تستند برأسها رافعا قدمه لها
وقالت ” القرار قراره طبعا وقد يكون التنفيذ بعد عام من الآن ”
تأفف الجالس بعيدا على الكرسي ذو الظهر المرتفع وهوا يعلم جيدا
أنه المعني بنغزات كلامهن طوال الجلسة , نظر للثالثة التي تخيط شيئا منشغلة به وقال ” هل ذهب ابنك للمدرسة ؟ ”
رفعت رأسها له ثم سرعان ما عادت لشغل عينيها بما تفعل وقالت
” ابنك لا مدرسة لديه ألم تعلم أن والدك منع ذهابه ووقاص
لها حتى تنتهي الحرب ” تأففت الجالسة على الأرض مفترشة سجادا عجميا فاخرا سميكا
وقالت ويدها لازالت تعبث بشعر ابنها ” والحرب جنوبا ما أبعدنا
نحن شمال الهازان عنها أم يخاف أن ينقص من أحفاده واحدا ”
خرجت ضحكة ساخرة من التي غادر ابنها راكضا بعدما أحكمت ربط حدائه وقالت وهي ترتب خصلات شعرها التي تبعثرت بسببه ” لكان
جلب عليك الرابعة حينها يا أم لسانين لتعوضه عن الحفيد الذي فقده ”
قالت تلك ببرود ” لا شيء جديد وقتها فقد جربتِ أنتي قبلي ”
وقف حينها الذي ذاق ذرعا منهن ثلاثتهن وهوا يعلم جيدا أن صراخه وغضبه وحتى معاقبته لهن لن تجدي في شيء ككل مرة , فكيف سيكون حال
الذي لديه ثلاث نسوة لا يشغلهن شيء وليس لديهن سوا ابن واحد لكل واحدة
منهن سوا الشجار الدائم مع بعضهن وإن سئمن من ذلك استلمنه هوا كتسلية
وتغيير روتين , دخل غرفة مكتب واسعة صنع أثاثها من أجود أنواع الخشب وداس بحدائه على السجاد الذي غاص فيه مغطيا حوافه وجلس خلف الطاولة
وبدأ بالدوران بالكرسي الجلدي الأسود وفكرة واحدة تزعجه في المستقبل
وهي أن هؤلاء الثلاث نسوة سيتضاعفن إن فكر والده بجنون كالآن وزوج
كل واحد من أحفاده بثلاث نساء لتنجب له كل واحدة طفلا ليصبح في المنزل أثنى عشرة امرأة غير هؤلاء الثلاثة من أجل أن يزيد أثنى عشرة فردا في
عائلة ضرار سلطان وكله سيكون على رأسه هوا فالنساء زوجاته والأخريات
زوجات أبنائه , توقف عن دورانه فجأة ورفع رأسه للأعلى مغمضا عينيه
وقد عادت به الذاكرة لأربع أعوام مضت وفي هذا المكتب تحديدا حين كان والده جالسا على هذا الكرسي وابنه الأول من زوجته المتوفاة وقاص واقفا
بجانبه مقابلان له وقال بحزم ماسحا بيده على رأس حفيده الأكبر ذو
العشر سنوات الواقف بجانب كرسيه (( ” هل ولدت زوجتك ؟ ”
خفض الجالس أمامه نظره وقال ” ليس بعد , قد تحتاج لبضعة ساعات أخرى ”
قال بجدية وجمود ” والثالثة إن لم تحمل فطلقها وتزوج غيرها
فورا لن ننتظرها حتى تقرر ذلك ”
تنهد الجالس أمامه يخفي تذمره من كل هذا وقال ” أنجبت الأولى والثانية في الطريق , إن تأخرت الثالثة فلا ضير ”
أنزل يده من شعر الفتى لكتفه وقال قابضا عليه بقوة ” بل كل الضير
وعلى حفيدي الرابع أن يكون هنا قريبا ويكبر مع أخوته ”
رفع نظره له وقال ” أبي ها هوا حفيدك الأول واقف بجانبك يكبر أخوته بأربعة أعوام ”
ضرب بيده على الطاولة بقوة وقال بحدة ” هذا لن يكون كباقي
أخوته ولن تنجب امرأة ممن تزوجت مثله ”
قال بحنق ” وما الداعي لهن إذا ؟ ” تحولت ملامحه للقسوة وقال بغضب ” أراك اليوم لست ابني الذي
أعرفه وتعلم جيدا يا رافد جواب سؤالك , وعلى النحس الذي لازم
عائلتنا لعقود أن يزول الآن ”
كان سيتحدث لولا انفتح الباب ودخل منه رجل انحنى من فوره انحناءة طفيفة وقال باحترام ” تمت المهمة سيدي ”
أشار له بإشارة يفهمها جيدا فاقترب منه حتى وقف خلف كتفه وانحنى
لأذنه وقال بهمس وصل للجالس أمامهم بوضوح ” قالت أن زوجة ابنها
ولدت فتاة من ثلاث أشهر وأن الطفلة خرساء وتصرفاتها ليست طبيعية وتطلب من سيادتك تركها عندها لتربيها ولا يكون مصيرها
مركز الأطفال المتوحدين ” ))
عاد من زخم أفكاره ذاك وضرب بيديه على حافتي الكرسي
ووقف مغادرا وتمتم بحنق ” والحفيدة الخامسة يبدوا قادمة لتنضم للعائلة في أي وقت ”
وتابع خارجا وهامسا بسخرية ” لا وخرساء ومجنونة قد مات
والدها ورمتها والدتها على جدتها , هذه نتائج الزواج في
السر يا والدي يا ضرار سلطان ” *
* لا زالت تحمل عبق الربيع الذي غادر حديثا ورقة هوائه حيث كانت مطلة
على حديقة واسعة متراصة الأشجار فأكثر ما كان يهتم به الناس آن ذاك حدائقهم وأراضيهم وقد اجتهدوا في الزراعة كل جهد بسبب المناخ المعتدل
أغلب الموسم والتربة الخصبة ولأن شح الغذاء لا يغطيه إلا زراعة الأرض
فقد وجدوا في ذلك المنجى الوحيد من الموت جوعا , اعتنت برفع الستائر
القماشية خلفها جيدا ليدخل النور لكافة أرجاء الغرفة ثم سرعان ما التفتت للذي فتح الباب ودخل عليهما وتوجه للجالسة على سريرها من فوره وقبّل
رأسها وجلس على طرفه ممسكا يدها يسألها عن حالها ولا يترك تفصيلا
وكأنه طبيب يعاين مريضه وهي تجيبه بكل حب فعلاقته بشقيقته هذه كانت
كبيرة منذ صغره فهي من ربته وشقيقيه شاهين ودجى ومن ثم ربت أبناء شقيقهم شاهين ( مطر وجوزاء ) باستثناء العناية الخاصة التي استحوذ عليها
مطر من والده لتقتصر مهمتها على غسل ثيابه والاهتمام بطعامه فحتى دروسه
كان والده من تكفل بها وقد كان ملازما له طوال الوقت تقريبا ما أن بلغ السابعة
توجهت جوزاء نحوهما وجلست أمام السرير على الكرسي الذي تتركه مكانه لتكون قرب عمتها كلما اختارت أن تبقى ملازمة لسريرها وقالت ما أن
جلست ” ماذا حدث مع مطر ؟ ”
سبقته الجالسة أمامها قبل أن يتحدث وقالت مبتسمة ” قولي ما
حدث مع رجالنا عند جبهات القتال وليس مطر ” قالت ونظرها لازال على عمها ” هل عقد الهدنة المؤقتة وأوقفوا
إطلاق النار ؟ ”
هز رأسه بنعم دون كلام ثم قال ” أضنكم سمعتم هذا في المذياع
فلقد توقفوا من يومين ” نظرت جانبا وكأن الأمر لم يرق لها أو كانت تتوقع أن الواقع خلاف
ما قيل وقالت عمتها بهدوء ” مؤكد يريدون الضغط عليه ولن تسير
الأمور في صالحه بعدما خسر من أرواح وجرحى وعتاد ”
قال الجالس بجوارها وبكل ثقة ” هل تعتقدي أنه لم يفكر في أبعاد كل هذا من قبل أن يقدم عليه ؟ هوا يعلم أن كل هذا سيحدث ”
قالت جوزاء بحيرة ” ولم يخبرك بما يفكر طبعا فما استنتجت
أنت من أفعاله وقراراته ؟ ”
ابتسم لمغزى كلامها وقال ” مطر في الحرب ليس مطر في باقي حياته يا جوزاء ورغم قلة كلامه وكثرة تفكيره وتخطيطه إلا أنه
مفهوم جدا وقد أخد الأمر من منحى لا يدعوا للريبة ولا الخوف ”
نظرتا له بعدم فهم فتابع دون انتظار لتسألانه ” نزلت دباباتنا
وجنودنا قيعان جبال أرياح فجر اليوم ” لتشهقا الجالستان معه معا تنظران له بصدمة وقالت جوزاء سريعا
” أوكار الإرهابيين في الهازان ”
قال من فوره ” من لا يعرفه سيفكر أنه يستغل هذه النقطة
لصالحه لكنه بعيد كل البعد عن التفكير بذاك المنطق ” قالت شقيقته بشيء من التذمر ” صقر قل شيئا يفهمه عقل هذه
العجوز الجالسة بجوارك ”
قال مبتسما ” لا بأس ”
ثم تنهد ونظرت للفراغ بشرود وقال ” آخر حديث دار بيننا بالأمس قال لي فيه ( حتى آخر نفس في صدري وآخر رجل من رجالي سندفعه
لتنظيف هذه البلاد فعلى الغمامة السوداء التي تركها الاستعمار خلفه لعقود
أن تنقشع , ومهما دفعنا اليوم من أبناء الوطن في كلا الجانبين سيكون أقل
خسارة من أن تعيش بلادنا في الظلام والموت طوال حياتها ) ومن كلامه هذا فهمت ما يصبوا له مطر ولما رجاله مستعدون لدفع أرواحهم خلفه
دون تراجع ولا تفكير فلو سألنا أي شخص هل تموت مقابل أن تتخلص بلادك من حربها الأهلية لكان جوابه نعم ”
تنهدت الجالسة بجواره وقالت ” فهمت الآن مغزى كلام ذاك المجاهد
الذي حارب الاستعمار قديما وقاد الرجال وحين سؤل لما تفعل كل هذا أجاب ( من أجل الأجيال القادمة ) ”
هزت جوزاء رأسها بنعم وقالت ” أول ما سيفكر فيه أي شخص
أموت ويعيش أبنائي وأحفادي في سلام أفضل من أن يكون
المستقبل كالحاضر وكالماضي ” ثم قالت بتفكير ” لكن مطر لا ابن له فيها ولن يكون له حفيد فتحتِ
أي مبدأ يتحرك أم فكر كذاك المجاهد ”
قالت عمتها بابتسامة حب ” فكر فيك وابنيك البعيدان عن حضنك
فينا وفي جميع أبناء وطنه , ومن يدري قد يكون له فيها أبناء وأحفاد فالغيب لا يعلمه إلا الله ”
تنهدت جوزاء وقالت ” فليعش أولا وهوا يقود رجاله في
الخطوط الأمامية وصدره مفتوح للنار والبارود ”
وقف صقر وقال ” لا يموت أحد قبل يومه يا جوزاء , ولا تنسوا أن تبقوا عند المذياع فسيجتمع ببعض الرؤساء العرب والوزراء
منتصف اليوم ”
نظرت له للأعلى وقالت باستغراب ” الاجتماع اليوم ! ”
قال بابتسامة جانبية ” نعم واختاروا أن تبثه جميع القنوات وكأنهم يريدون أن يُسمعوا رأيه لمن في هذه البلاد وخارجها ويضعوه في
الصورة التي يريدون أن يصوروها هم للناس ( الطامع في كل شيء
الراكض خلف إراقة الدماء ) ”
وقفت جوزاء من فورها وقالت ” وكيف ذهب دون أن يأتي ويطلب مني أن أرتب له حقيبته وأن يغير ملابسه بتلك التي يسافر بها
خارج البلاد دائما ”
ربت على كتفها ثم قال مغادرا ” وهوا يفكر بنفس طبقة تفكيرهم
وغادر لهم بلباس الحرب ومن الجبهة فورا ” *
*
فتح باب تلك القاعة الواسعة التي توسطتها طاولة شبه دائرية قد صنعت
من أجود أنواع الخشب وزينت بأكاليل الزهور الصغيرة وانتشرت الكراسي الفاخرة حولها قد ملأ كل واحد منها رئيسا أو رئيس وزراء نائب عنه وخلفه
جلست مجموعة الوفد المرافقين له , تقدم ليكسر نقاشهم المحتد في الداخل قبل
حضوره وقبل أن يسمحوا لمراسلي القنوات بالدخول , والتفتت الرؤوس جميعها
للذي وقف على بعد خطوتين من ذاك الباب بلباسه العسكري وحضوره المهيمن الطاغي ونظرة الثقة التي لم تفارق عينيه ونظراته بل وملامحه الجامدة , وخلفه
مباشرة يقف خمسة من رجاله يرتدون ذات اللباس مع اختلاف لونه عنهم ويقفون
ذات الوقفة الثابتة وتحمل أعينهم ذات تلك النظرة القوية المسيطرة وكأنهم يوجهون
رسالة موحدة لكل من يجلس هناك بأنها الحرب ولا شيء غيرها , نقل نظره بينهم فردا فردا قبل أن يتقدم من الكرسي الذي تُرك له في رأس مجلس اجتماعهم
وكأنه مذنب ساقوه للمحكمة سوقا ليدلي بأقواله ويقدم أسبابه ومبرراته , وصل
لمكانه ووقف خلف الطاولة دون أن يجلس ولا مرافقيه أيضا وكأنه يبلغهم
رسالة واضحة بأنه لا وقت لديه لهم ولجلسات الأنس وشرب المشروبات والعصائر الفاخرة واستنشاق عبير الأزهار والكلام في أمور لا جدال فيها
ليخرجوا بنتائج لن تتعدى باب مجلسهم هذا , انتشر الصحفيون ومراسلي
القنوات بعد دخوله متوافدين من الأبواب الثلاثة لتلك القاعة وقد تمركز
أغلبهم على بعد خطوات من طاولته وهوا يجمع مكبرات الصوت الرقيقة المثبتة على الطاولة لتكون متقاربة جميعها ثم استند بيديه على الطاولة تحته
ينظر للجالسين في صمت , وقبل أن يتحدث أحدهم أو يبدأ من كلفوه بإلقاء
المقدمة وكأنه مدعي عام للمحكمة التي جلبوه لها تحت ستار ( نناقش مطر
شاهين ليتوقف عن أفعاله ) جال بنظره بينهم ولازال جسده منحنيا على الطاولة المرتفعة أممه ورأسه مرفوعا لهم ثم قال بثبات ” طبعا لا داعي
للمقدمات فجميعكم يعلم أني أكرهها , ولا داعي لأن ألقي أنا عليكم
خطابا وطنيا سخيفا كمقدمة مماثلة ”
ثم سكت لبرهة يبادلهم نظرات باردة موازية لنظراتهم قبل أن يردف وقد غزت نبرته العالية المبحوحة الواثقة صمت القاعة الواسعة التي تحولت
لمكان وكأنه لا يوجد به غيره ” جميعكم يعلم وأنا أولكم أننا هنا اليوم
من أجل ما تسمونه بإيقاف جنون ابن شاهين عند حده , اعترفتم بذلك
أم أنكرتموه أو سميتموه بغير مسمياته ” بدأت نظرات الاستهجان تطفوا على السطح وبعض التمتمة الساخطة قبل
أن يسكتهم صوته الذي ارتفع مجددا ” لم يكن الأمر جنونا حين مات رجالي
على الحدود مع الهازان من أربعة أعوام , ولم يكن الأمر جنونا وبلادي
تقسم لثلاث أقسام وهي وطن واحد , ولم يكن الأمر جنونا وخيراتها تنهب من خارجها ولا يصل لشعبها إلا القليل ”
ثم سكت لصوت أحد الرؤساء وهوا يقاطعه ” نحن هنا من أجل
الحاضر لا الماضي يا ابن شاهين ”
ضرب بيده على الطاولة ضربة دوت في المكان بأكمله وقال بحنق ” وما نحن فيه اليوم إلا نتاج ما كان في الماضي ”
ثم رفع يده ليسكت كل من حاول إبداء رأيه أيضا وقرب شفتيه من
الميكرفونات السوداء الرقيقة أكثر ونظره لازال عليهم وقد اشتدت نبرته
وملامحه وحدة صوته المبحوح قائلا ” هلاّ ذكرتم لي الآن وأمام مسامع أبناء شعب بلادي كم برميلا من النفط يخرج من الحقول التي أبارها
داخل البلاد وهي في البلدان الموجودة على الحدود خارجها ؟ ”
ضرب بيده الطاولة بقوة مجددا وقال بنبرة أشد ” هل تعطوني نسب لمصافي
تكرير النفط وبلادي تعاني شحا في الوقود والبنزين ؟ كم تستخرجون من الغاز الطبيعي من أراضيها ونحن نستخدم المدفئات والأفران البدائية طيلة
العام ؟ وكم ينتج هذا من كهرباء كفيلة بجعل حتى التراب في بلادي
يتحول لشحنات كهربائية ونحن نعاني انقطاعها طوال الوقت ”
بقت العيون محدقة به بصمت وهوا يمد يده لمن خلفه وقد ناوله مجموعة أوراق وضعها أمامه على الطاولة وضرب عليها بيده وقال ناظرا لهم
” هل أنتم مستعدون لأن تقضوا اليوم بطوله هنا وأنا أقرأ على مسامعكم
أرقام الحسابات هذه واخرج الأخطاء والسرقة فيها ؟ قد يجهل الصغير ولا
يفهم الكبير من شعبي لكنكم أعلم منهم بما أقول , من الذي سيكون من مصلحته أن تستقر البلاد وتأخذ خيراتها وحدها ليدفع لها المال مقابلها
وهوا يأخذها الآن بالمجان ”
تعالت صيحات الاعتراض ممن يرون أنه رماهم بالسرقة وهم يقولون
عن أنفسهم بأنهم من فتحوا أراضيهم لمنشآت كبيرة تعمل لصالحهم داخل البلاد دون أن يدفعوا تكاليفها , لتسكتهم يده التي ضربت الطاولة مجددا
وقال صارخا ” من كان له اعتراض فليقرأ التقارير السرية التي تغطي
عليها الدول العظمى في الغرب ويضنون أننا سنبقى غافلون عنها أبد الدهر
فها قد آن لشعبي أن يفيق للجميع وأن يرى أبعد من مكانه الذي يقف فيه ” نظر للأوراق وورقها بيد واحدة والأخرى لازال يسندها على الطاولة حتى
أخرج إحداها ورفعها لهم أمامه ليزداد صوت التقاط كاميرات الصحفيين
له وقال محركا لها مع حركة نظره عليهم ” ثلاثة ملايين برميل نفط يوميا
مقدرة بعشرة مليارات دولار في كل شمس تشرق على أراضينا التي تعاني هذا غير نصف مليون لتر من البنزين والمحروقات ولن نتحدث عن الغاز
فهلا حسبها لي أحدكم منذ أن بدأ المشروع الدولي لاستخراج هذه الخيرات
من بلادي لخارجها تحت حجة تقديم رواتب لأبناء شعبها ونحن لا يصلنا
منها سوا القليل سنويا في ميزانية مضحكة يتوجب على كل ثلث من البلاد تقسيمها على مواطنيه ”
كان لا شيء سوا الصمت والأعين المحدقة فيه وهوا يقلب الأوراق ويستخرجها
بالواحدة ويشرح على ما حوت قبل أن يرميها ناثرا لها أمامه لتلتقطها أيدي
الصحفيين بنهم يكادون يتشاجرون عليها وتابع قائلا بغضب ” ومشروعكم السخيف الجديد وهوا سلب أبناء وطني آخر ما تبقى لهم وهي خيرات الأرض
التي يحرثونها ويزرعونها بأيديهم وبعرقهم تحت مسمى الغذاء مقابل الغذاء ”
ثم صرخ ضاربا الطاولة مجددا ” سحقا لأفكاركم فنحن لسنا بحاجة لمعلباتكم
الصدئة تلك فلم يكفي أنكم أخذتم النفط والغاز مقابلا لها لسنوات طويلة تحت مسمى سخيف جديد النفط مقابل الغذاء مثلما كان النفط مقابل مال لا
يساوي عشر ثمنه ”
سوى بعدها وقفته شامخا ونظرهم عليه ومن خلفه لم يكونوا أقل منه ولوح
بإصبعه راميا له جانبا وقال صارخا ” بلادي ستتوحد وخيراتها سترجع لها إن بالسلم أو بالحرب , وإن مات ابن شاهين فسيترك لكم خلفه الآلاف
مثله وأشد عزما منه , وبما أننا نقتل بعضنا في كل الأحوال ونموت
بالمئات يوميا حتى وقت المهادنات فلنمت من أجل شيء يستحق
ومن أجل مستقبل أفضل لأبنائنا ” ثم أشار لهم بإصبعه حوله تباعا وقال ” ومثلما أصدرتم خرافاتكم
بالنفط والغاز مقابل المال ومقابل الغذاء فقد أصدرنا نحن قانونا أيضا ”
اشتد الانتباه له من الجميع وكأنهم يتلقون الصدمة تلو الأخرى قبل أن يقبض
أصابعه وقال صارخا ” الدم مقابل الحرية والدم مقابل الدم والدم مقابل بلاد واحدة , فليبصق التاريخ على ابن شاهين فيما بعد فلا يهم عندي ما ستذكره
الكتب عن ابن شاهين مريق الدماء لأني سأكون راضيا بعشرة يعيشون
عليها بحرية وكرامة وراحة وأمان ”
تعالت الأصوات وتداخلت وكأن كل واحد يريد أن يبدي رأيه قبل الآخر ليدوي صراخه عاليا ” من أرادها بالسلم ستكون بالسلم محفوظا دمه
وعرضه وماله ومن أرادها بالحرب فنحن لها ”
وكانت كلمات فهم الجميع أنها موجهة لقبائل بلاده وليس لهم , جال بنظره
فيهم مجددا وقال ” بعد ساعة من الآن سينزل رجالي جبال أرياح لعلنا نخلص البلاد من شر يدعمه الجميع ليتفشى فيها , وإن كنتم حقا تشعرون
بنا كما تزعمون فقدموا العون لانتشالهم رغم أني أشك بذلك ”
وغادر طاولته والقاعة بأكملها مخلفا ورائه زوبعة من الاعتراضات
والانتقاد لما قال وكيف خرج دون أن يستمع لأحد وكأنه جاء ليلقي ما لديه على مسامعهم ويغادر , وبدأ البقية بالمغادرة أيضا قبل أن تتلقفهم
أسئلة الصحفيين عن ادعاءات ابن شاهين والأرقام الموثقة عن السرقات
وعن الأعداد الحقيقية لإيرادات بلاده في فضيحة ستلتهمها الصحافة
لوقت يعلم الجميع أنه لن يكون قصيرا المخرج ~ عندما رايتك تكبرين امام عيوني كزهره فواحه ممكن نقول لجبران
أحببت أن أوضح نقطة صغيرة وهي قصة ضرار , ضرار
متوارث في عائلته ولادة الابن الواحد يعني أنه ابن وحيد
لأباه وأباه الابن الوحيد لجده وهكذا حتى جد جد الجد مما اعتبر لعنة لديهم وهوا تزوج من أم ابنه سلطان وطبعا
الخطأ كان مني في أسمه لأنه سلطان وليس رافد , ومن
ثم تزوج جدة زيزفون في السر وحين حملت بابنها إسحاق
والد زيزفون أنكر الابن بحكم أنه لا يولد له سوا ابن واحد وطلقها فعاشت وربت ابنها وحمل اسم جده والد أمه حتى
تزوج وأنجب زيزفون , لكن بعد وفاة زوجة سلطان ابن
ضرار وهي أم وقاص تزوج من زوجة ثانية كزوجة فقط
ولم يتوقع لا ضرار ولا ابنه أن تحمل هي أيضا ومن هنا دخل الشك لضرار من أنه يولد لهم ابن واحد من كل زوجة
فزوج سلطان رغما عنه من ثلاث نساء ليصبح لديه أربع
أحفاد بدلا من واحد وستتعرفون عليهم إن شاء الله , عندها
علم ضرار أن إسحاق إبنه فعلا وأن زيزفون حفيدته وحين أرسل من يسأل عن ابنه وعائلته أخبرتهم الجدة أنه مات
وولدت له ابنة وأنها خرساء وتصرفاتها غير طبيعية
ليبتعد الجد عن طريقهم لأن زيزفون كانت تعاني بطأً في
الإدراك والفهم وقصتهم ستفهمونها تباعا أحببت فقط أن أوضح لكم ولا تكون معقدة وشائكة , وطبعا زيزفون
ووقاص هم من أبطال الجزء الثاني لكنكم ستعيشون
قصتهم الآن مثل تيم وماريه
**** جنون المطر (( الجزء الأول ))
الفصل الثامن
المدخل ~
بقلم/ الغالية نجـ”ـمـ”ـة المسـ☆ـاء لا تبتأس يا تيـم .. فالحزنُ لن يُقـيمْ **********
ضمت ساقيها أكثر جالسة فوق سرير شقيقها كاسر وحدقتيها المليئة
بالدموع لازالت معلقة بالمذياع بجانب سريره رغم أنه لم يعد يخرج منه إلا صوت النقاشات المتداخلة في تلك القاعة وقد تحول اجتماعهم
لفوضى بعد رحيل من اجتاحه كالإعصار المدمر مخلفا خلفه دمارا في
كل مكان وعقول لم تعد لصوابها بعد لتنظم ذاك الاجتماع كما يفترض
أن يكون وقد اختلطت أصواتهم بمقاطعات الصحفيين لهم لتوجيه أي سؤال لأي شخص قد يجدون عنده إجابة عليه , أغمضت عينيها لبرهة وفتحتهما
مجددا ولازالت كلماته ترن في أذنيها وصوته الجهوري المبحوح يدوي
في دماغها بل ولازال ينتقل في جزيئات جسدها كالقشعريرة وكأنه لازال
يتحدث الآن فذاك الشعور لم يفارقها طوال حديثه الصارخ الغاضب الواثق في ذات الوقت وما سمعته منه لأول مرة , فلأول مرة تعلم عن كل هذا
حالها حال أي شخص من تلك البلاد وهي تتذكر الأرقام التي كان يقولها
ومقارنته بها لحالهم الذي بقدر ما ذكر عنه لازال أسوء وهم يملكون كل
تلك الثروات التي تمتص من مجاوراتها من البلدان بكل ضمير ميت وأكثر ما علق في دماغها جملته ( من سيرضى أن تستقر بلادنا وهوا
يرى عدم استقرارها كنزا يذر عليه بالأموال , من سيقول خذوا أباركم
وخزاناتكم ومصافيكم وحقول الغاز وهي تضخ له الملايين )
امتدت أصابع الكاسر أمام عينيها وضغطت ذاك الزر الذي أنهى به ذاك الضجيج في الغرفة التي حوت ثلاثتهم بوجود عمتهما
ليقطع ذاك أفكارها ويعيد نظرها الذي غاب تماما في فتحات مكبر
الصوت في ذاك المذياع الخشبي وكأنها كانت تراه معهم وحُجبت
عنها رؤيته الآن , رفعت نظرها بشقيقها الذي بدا شاحبا بشكل واضح لا تعلم بسبب ما علم مثلها أم بسبب تفكير ابن شاهين
ومقولته بأن الدم مقابل الدم والدم مقابل الحرية والكرامة
خرج صوتها ضعيفا وقالت هامسة ببحة
” ولما ليس بالسلم ؟ ” هز كاسر رأسه بأسى وقال ” من سيرضى يا شقيقتي ؟ حتى إن قرر
والدي ذلك فلن ترضى له القبائل وسندخل في جدال بين موافق ومعارض
ومحتج وندخل في حرب داخلية بيننا , وابن شاهين يعلم ذلك جيدا لهذا قال بحتا وستحتاج للحرب وستري بعينك ما سيحدث داخل الهازان من انقسامات وحروب داخلية وتمرد لأن بعض المناطق والقرى ستسلم له طوعا وبعضها
ستعارض , وما فكر بمحاربة الإرهابيين أولاً عند جبال أرياح إلا لأنه موقن
من أنهم سيستغلون البلبلة التي ستحدث في البلاد تباعا وسيخربونها فوق
خرابها وسينتشرون في الشرق أكثر كالوباء المسموم لذلك يريد محاصرتهم أولاً ليضمن أنهم لن يعثوا في الهازان فسادا
ما أن يتزعزع أمنها الداخلي أكثر من سابقه ”
جالت بحدقتيها السوداء الواسعة في ملامحه الشاردة بعيدا وقد ازدادت
شحوبا ورغم أنها لا تفهم كثيرا في أمور الحرب ولم تستطع تحليل أفكار وكلام مطر كما فعل شقيقها لكنها نطقت بما جال في تفكيرها قائلة بحيرة
” زعيم الهازان قال أن ابن شاهين سيستغل حرب جبال أرياح لصالحه
وها هوا حدث ما توقع فلما تحليلك للأمر مختلفا يا كاسر ؟ ”
غاب بنظره للأرض أكثر وضغط قبضته بقوة وقال بشرود ” الكثيرين فكروا كذلك يا غسق ويعلمون أن الغرب سيقفون معه وسيمدونه بالسلاح , والطيران
سيسانده مادام سيحاربهم على الأرض لكن تفكير ابن شاهين تفكير حربي
مدروس ويعلم كما الجميع أن الغرب يمسكون العصا من المنتصف دائما وبقدر
ما يحاربون الإرهاب يدعمونه وبقدر ما سيقفون معه في زحفه على الهازان سيقفون مع الهازان وإن بإيهامهم أنهم معهم وسيقفون أيضا مع الدول المجاورة
لنا في سرقتهم لخيرات بلادنا ليكونوا في صف المنتصر في النهاية كان من
يكون فهم يعنيهم فقط أن الرابح لن يكون ضدهم ويقطع معهم الاتفاقيات
والعقود المبرمة ” تشعر أنه ثمة شخص آخر هنا مثلها لم يفهم شيئا ويشعر أنه يدور في حلقة
مفرغة كلما شرحوا له أكثر كلما تعقدت الأمور لديه أكثر , ونظرت لها تلك
بنظرة أسى وحنان مراقبة دمعتها التي لازالت حبيسة حدقتيها السوداء الواسعة
وقد توهجت وجنتيها احمرارا وتنهدت باستسلام قائلة ” ما كتبه الله لنا سنراه يا غسق ومثلما لا يريد أحد الحرب لا يرضى أحد بالذل وأن يصغره ابن شاهين ”
ضمت ساقيها أكثر ودفنت وجهها فيهما وكأنها تريد الاختباء من كلماتها تلك
تريد أن تكون عيناها حبيسة الظلام لتعلم أنه ثمة سواد أكثر مما هم فيه الآن
وتمتمت بهمس لا يسمعه أحد غيرها ” إن كان أنتي المرأة تفكيرك هكذا فكيف بالرجال ؟ ”
*
*
ولم يكن حال أي فرد من تلك البلاد أفضل من ذلك وكأن الزمن توقف وصورهم ثبتت على ما هي عليه جالسين بقرب كل مذياع توسط منزلا أو
سيارة أو مقر جنود وكل واحد يفكر فيما سيكون القادم ؟ أين سنكون نحن
منه وما ستصنعه بنا أمواج جنون مطر المفاجئ , ذاك الجنون الذي أخرجه
الهازان للسطح وهو كان يسيطر عليه لأعوام متجاهلا قتلهم لرجاله عند الحدود كل وقت وكأنهم يسخرون منه وها قد داسهم بنعال دباباته في النهاية
ومثلما عمت الفوضى ذاك الاجتماع الذي انفض من وقت قصير فقد لعبت
دورها أيضا في كل قطر من تلك البلاد بين مندهش وغاضب ومعارض
ومؤيد وكلٌ يريد أن يبدي رأيه والتكهنات بالمستقبل من أفواههم كثيرة وهم موقنون من أن ما سيجري لن يعلمه إلا الله , ودخل شرق البلاد في موجة
من الاضطراب الذي سيصعب على زعيم قبائلهم احتوائه وبدأ البعض ممن
تيسر لديهم الحال بمغادرة البلاد بشكل نهائي وحزم الكثيرين ممن لا حيلة
لهم ولا ملجأ أمتعتهم لعلهم يهربون من الحرب التي باتت وشيكة وإن للجبال أو الحدود , ومهما حاول الهازان لم شتات الناس وإخماد ذعرها
فلن يستطيع , وكل تفكيرهم كان في منع أن تنموا بينهم مجموعات متمردة
ستعمل على جمع بعضها وتسليم المدن لابن شاهين طوعا وهم يرونه
بدأ في تنفيذ ما تحدث عنه والحرب طاحنة عند جبال أرياح وأصوات دوي دبابته والراجمات يسمع عند بعض المناطق بوضوح وهو يمارس
ثاني جزء من ثوران بركانه على الخلايا الإرهابية المتمركزة هناك تضم
تحت لوائها قرابة الخمس مدن التي استولت عليها من زمن بعيد ولا أحد
احتج لذلك سوى محاولات ضعيفة من قبل الهازان لرد وصد زحفها أكثر واستيلائها على باقي المناطق والمدن وأعتبروا أن ما أخذوه منهم غنيمة
ضاعت لا يفكرون في استردادها , ودخل غرب البلاد في حاله من التوتر
لا تخفى عن أي أحد وبينما سكت البعض لأنهم يرون أن ما يفكر فيه ابن
شاهين سيحتاج لزمن ليحدث ومن الاستعجال فعل أي شيء غير تقوية أنفسهم عسكريا وأخذ البعض منهم يتناقلون سؤالا واحدا ( ماذا إن وصل لنا
وبتنا محاصرين منه شرقا وجنوبا ؟ ) وبالفعل تداخلت الآراء بين معارض
للسلم ومؤيد له , أما جنوب البلاد فلم يحضا بما حضي به قطريها الآخران
وجل تفكير الناس وقتها في كيف يمدون ويساندون رجالهم في جبهات القتال ببيع كل ما لديهم وإخراج كل قرش يملكونه , ولم يتوانى الصغير قبل الكبير
في تقديم ما يستطيع عليه وكل عائلة قدمت من رجالها وإن واحدا ولم
تتباطأ العائلات في تقديم أبنائها قبل أموالها وطعامها وضع الورقة الأخيرة أمام الجالس على كرسي بجانب تلك الطاولة الخشبية يسند مرفقه عليها وتحتضن يده فكيه ينظر بتمعن وذهن صافي لما تحوي كل
تلك الأوراق والواقف فوقه يقول ” هذا آخر ما وصلنا والعدد الآن خمس دول
واجتماع مجلس الأمن سيبدأ بالإنعقاد قريبا فقد بدأت الأخبار تتناقل أياما متباينة
عن عقد أول جلساته والأمور فيه ستدور إما لصالحنا أو ضدنا وفي كل الأحوال قد يكون مجرد غطاء سياسي وهمي وتمرر للقرارات من تحت الطاولات ونكون
الكاسبين في كلا الحالتين , وكما أشرت سيدي نحن لن نتراجع في كل الأحوال
وعزيمة الرجال قوية وتقدمنا ملحوظ في جبال أرياح , وزعماء الهازان كمن
يحارب الريح أصواتهم لا تتعدى حناجرهم وهجومهم المشوه ضدك لم يلقى أي ترحيب في الحالك ”
أبعد يده عن فكيه وقال ونظره لازال على الأوراق ” وصنوان ؟ ”
سوى الواقف فوقه وقفته وقال ناظرا له ” لا شيء حتى الآن بعد رفضهم
مجددا عرض الهازان لشن الحرب من الطرفين علينا , ولم يصلنا أي خبر عن تفكيرهم في إرسال وفد لنا خاصة أن المهادنة بيننا تحتاج لأكثر من
شهرين لتنتهي مدتها ويبدوا أنهم يثقون في وعودك وأنك لن تغدر بهم ”
هز رأسه بحسنا وهمس بشرود ” الوقت طويل أمامهم ليتخذوا قرارا
يجنبهم ما يحدث مع الهازان ” انفتح الباب حينها ووجهت الأنظار للذي قال ما أن وقف أمامه ولازال
مقبضه في يده ” سيدي المبعوث الدولي والوفد وصلوا الحدود
وسيدخلون الآن ”
وقف حينها مطر وتحرك قائلا ” ها هوا الحوت طفا على السطح يا رجال ”
وخرج ورجاله خلفه وهم موقنون من أن اجتماعهم بهذا الوفد سيكون
نقلة محورية في الأحداث وأنه كالعادة ما ستنقله الأخبار عن نتائج
اجتماعه بهم لن يكون كل ما دار في ذاك الاجتماع الذي ستكون أهم محاوره سرية حتى وقت لن يكون بعيدا
*
*
طوت آخر قطعة من الثياب ورمتها فوق البقية وعادت لمحاولة رصهم لتحويهم تلك الحقيبة متوسطة الحجم ولسانها لا يتوقف عن التمتمة بالدعاء
وطلب عون الله ولطفه في الأيام القادمة , وحالها هذا ليس بأقل من حال كل
فرد في الهازان بعد سماعهم لخطاب ابن شاهين منذ أيام وهوا يؤكد زحفه أولئك سود الملابس والأعلام ميتين الضمائر المارقين من دين الله نظرت للقدمين الصغيرتين التي دفعت الباب الخشبي ودخلت ثم سرعان
ما رفعت بصرها للسقف حين دوى صوت طائرة تعبر الأجواء بسرعة
حيث أن هدير محركات الطائرات الحربية أمرا معتادا لديهم من حين
لآخر والطيران الحربي الغربي يضرب مواقع الإرهابيين في جبال أرياح ومناطقها لاقتناص قادتهم ومتى ما أرادوا هم طبعا
” جدتي ”
كان ذاك الصوت الطفولي الوجل القلق الذي خرج من حنجرة الطفلة
ذات الأربعة أعوام وهي تحضن دمية قماشية مصنوعة باليد وقد قالت قبل أن تجيبها الجالسة خلف تلك الحقيبة
” نموت ”
مدت يديها لها وقالت بحزن ” تعالي بنيتي لن نموت من هذا
الذي قال لك ذلك ؟ ” اقتربت منها بخطوات شبه راكضة وارتمت في حضن التي ضمتها
بقوة وقالت ” لا تستمعي لما يقول الجيران يا زيزفون أنتي لا
تفهمين معنى كل هذا كما يقولونه ”
أبعدت وجهها الصغير عن حضنها ونظرت لها بتلك العينان الزرقاء الواسعة وقالت ” جدتي طعام ”
ابتسمت لها بحب وقبلتها بين عينيها ووقفت وقالت موقفة لها معها
” أجل بنيتي كيف نسيت أنك لم تأكلي منذ الصباح وانشغلت بجمع
أغراضنا عنك ” وسارت بها جهة مطبخ المنزل الصغير البسيط وعقلها لازال مع حقيبتهم
تلك فأين سيهربون هم قبل أن يهربوا بها ولا مكان لهم غير هذه القرية ولا
أهل لهم غير سكانها الذين تفرقوا كلن ذهب في قطر من هذه البلاد , رفعتها
من ذراعيها وأجلستها على الكرسي قائلة ” سأعد لك بعض البيض هذا أسرع وأوفر ما لدينا حسنا حبيبتي ”
ثم توجهت للثلاجة الصغيرة القديمة في زاوية المطبخ وفتحتها على
وقع تلك الكلمات الصغيرة التي تتردد كنغم غنائي ” بيض بيض
بيضة واحدة ” تنهدت بأسى وهي تضع المقلاة على النار وشعور مُر حارق يذبح روحها
وهي موقنة بأنها تودع كل شيء في هذا المنزل وهذه القرية , المنزل الذي
عاشت فيه منذ طفولتها مع والديها وأنجبت فيه ابنها وربته وزوّجته وفيه
استقبلت حفيدتها الأولى وسيصبح قريبا كما كل منازل هذه المنطقة ملكا للحالك ما أن يقرر زعيمهم ذلك ولأنه لا أحد استطاع أن يؤمن نفسه ويبقى
ويسلم منطقته كما طلب في خطابه ذاك لجأ الجميع للهرب وإن كان مكان
وجهات أغلبهم لا جواب عليها سوى بـ ( نرحل والله يجد لنا سبيلا )
وضعت البيض في المقلاة وحركته لحظة ما بدأ يتماسك متمتمة بحزن وقهر ” لا وفقك الله يا ضرار غادرت البلاد بأموالك
وعائلتك ولم تفكر في التي تركتها خلفك وهي من صلبك ”
وبقدر ما كان الأمر صعبا وشديدا عليها فكرت فعلا في أن تسلمها له
ليأخذها معه فلن تستطيع حمايتها من الحرب والجوع والنوم في العراء , لكنّ ذاك لم يسأل عنها ولم تصل هي له قبل رحيلهم
*
*
استل ما في يدها بقوة وقال مزمجرا بغضب ” أسماء تعقلي أو قسما إن خرجتِ من هنا لا رجوع لك ”
لطمت خديها بقوة وقالت ببكاء ” أبني أعد لي ابني يا سمعان
أو قسما فعلتها الآن وذهبت ”
شدها من ذراعها بقوة وقال بصراخ ” ابنك ليس أفضل من غيره ولن تكتب عليا أن لا يكون مع غيره في خطوط الحرب والقتال
هل تريدين أن تضحك الناس علينا ”
أبعدت يده عنها بقوة وقالت بصراخ باكي ” لازال في الخامسة عشرة
إنه طفل ألا رحمة في قلبك ؟ كل ما يعنيك كلام الناس فقط ” لوح بيده قائلا بغضب ” أصغر منه قدموهم أهاليهم للتدريب والقتال
ولن يكونوا أفضل منه , حتى إن كان أصغر من سنه هذا لما توانيت
في أخذه هناك ولولا عرج ساقي لذهبت أيضا , وابن ابنة عمي الجالس
في تلك الغرفة لو لم يكن ابن شاهين منع من ينتسب للهازان من خوض القتال لرميته هناك أيضا ”
قالت بحدة ” وما يفعلوه بطفل في العاشرة ”
لوح بيده مزمجرا ” في العاشرة لكن نظراته تكفي لقتل رجل ولا يوجد
طفل في هذه الظروف فجميعهم رجال , فإن مات ابنك مات بطلا وإن عاد عاد بطلا ولسنا أفضل من غيرنا وهم يدفعون أبنائهم بالثلاثة
والأربعة للقتال مع ابن شاهين فتوقفي عن الجنون يا امرأة ”
نزلت على الأرض ولازالت في نديبها تضرب فخديها ثارة وتلطم خديها
ثارة أخرى ولم تعي ولا للطفلة ذات الثمانية أشهر التي تحبوا حتى وصلت لها وتعلقت بثيابها ولا بالأخرى ذات الخمس سنين وهي تتسلل للمطبخ
مستغلة انشغالهما في الشجار وفي يدها كيس بلاستيكي صغير به رغيفي
خبز أحدهما مرت عليه ساعات النهار والآخر من البارحة نائم في ذاك
الكيس الصغير , فتحت الخزانة السفلية برفق كي لا يشعروا بها وأخذت رغيفا آخر ووضعته معهم ثم خبأته في ثيابها وبعد زيارة قصيرة للثلاجة
كانت واقفة عند باب المطبخ تنظر خلسة لما وصلا له وقد خرج عمها
ضاربا الباب بقوة وغضب ووقفت زوجته وحملت ابنتها ودخلت بها إحدى
الغرف وضربت بابها خلفها أيضا وصوت نحيبها لازال يخرج من خلف ذاك الباب , تحركت حينها بخطوات راكضة حافية القدمين حتى وصلت
باب المنزل وفتحته برفق وهدوء لن تسمعه التي مؤكد لا تسمع إلا صوت
نحيبها العالي وخرجت راكضة بخطواتها الصغيرة تقذف قدميها في الهواء
مرحا لتمكنها من الخروج أخيرا والوصول للغرفة الموجودة في سور ذاك المنزل , وما أن دخلت لها حتى قابلتها الجالسة على السرير بوهن وملامح
متعبة وإن كانت أفضل من السابق بكثير بعد زيارة الطبيب وصرف الدواء
لها , توجهت نحوها مسرعة وأخرجت الكيس من ثيابها ومدته لها قائلة
بابتسامة طفولية وصوت رقيق ” خذي عمتي لتأكلي ” ابتسمت لها تلك بتعب وقالت ” ماريه يا صغيرتي لما تخاطرين
وقد تتلقي عقابا قاسيا من أجل خبز جاف ”
أدخلت يدها الصغيرة في فستانها وقالت ” ليس خبزا فقط ”
ثم أخرجتها وقالت ” وطماطم أيضا ” هزت رأسها مبتسمة بتعب وقالت ” لو شاهدك أحدهم لن يرحمونك ”
تحدث حينها الجالس على السرير الآخر كتابه في يده ونظره عليه
وقال ببرود ” ليمسكوها لعلها تتوب ”
نظرت له وقالت بكلمات رقيقة غاضبة ملوحة بيدها الصغيرة ” أنت لا تأكل أنا أحضرتهم لعمتي وليس لك ”
تجاهلها ولم يزح نظره عن كتابه على نظرات والدته التي قالت
مبتسمة ” أعانها الله عليك مستقبلا ”
نظر لها باستهجان وإن كان لم يفهم لما ترمي ومسحت هي على شعر التي صعدت السرير وجلست بجوارها وقالت
” هل فعلا أحضرتهم لي وحدي ”
مدت شفتيها بعبوس وقالت بحزن ” بل وله أيضا ”
خرجت منها ضحكة صغيرة متعبة وقالت ناظرة للعينين العسليتان الواسعة ” إذا تمني أن لا يحوجك الزمن له كي لا يتعبك ”
نظرت لها بعدم استيعاب لوقت فمسحت على طرف وجهها وقالت
بهمس لا يسمعه الجالس بعيدا ” حين تكبرين ستحتاجين لصبر أكثر
وقلب أكبر فالرجل إن كبر ازداد صلابة وبرودا والمرأة تزداد رقة وحنانا واحتياجا ”
رمشت بعينيها لوقت وبعد محاولة جديدة فاشلة لفهم ما تقصد الجالسة
أمامها قالت ” عمتي أسماء تبكي وعمي خرج من المنزل غاضبا
ألن يرجع ظافر ! هل سيموت ؟ ” تنهدت بحزن وقالت بشرود ” من يعلم يا ابنتي ؟ ستنتهي الحرب ونرى ”
نزلت حينها من السرير قائلة ” كليهم عمتي وسأحضر لك غيرهم غدا ”
قالت بهدوء ” لا داعي يا ماريه هم أصبحوا يعطوننا وجبة كل يوم
هذا غير الرمانتين بعدما خافوا من التهديد الغير مباشر من شيخ القبيلة فتجنبي غضبهما عليك يا ابنتي ”
نظرت لها باستغراب قبل أن تلمس خدها بإصبعها الصغير
وقالت بحيرة ” يعطونكم رمانا !! ”
قفز حينها الجالس على السرير الآخر وأمسك بيدها وسحبها منها للخارج قائلا ” تعالي ماريه هناك شيء سأريه لك وجدته في الأعشاب ”
وخرج بها على صوتها الطفولي المرح قائلة ” حقا !! هل هي
سلحفاة صغيرة أخرى ”
وما أن وصل بها للخارج حتى أدارها جهة الجدار وقال بحزم ونظرات حادة موجهة لعينيها المتسعة باستغراب ” لا تذكري الرمان لأحد ولا
تسألي والدتي عنه وإن سألتك أخبريها أنك تأكلينه كل يوم
في منزل عمك مفهوم ”
هزت رأسها بحسنا تنظر له بخوف فرفع أصبعه أمام وجهه وقال بتهديد ” إياك يا ماريه ثم إياك وأقسم لن أكلمك مجددا ولن أرافقك
للمدرسة إن أخبرتي أي أحد بشيء تفهمي ”
هزت رأسها مجددا وخرجت الحروف منها بعبرة مخنوقة وعينان
وجلة دامعة ” لما تخيفني يا تيم ؟ لن أخبر أحدا أعدك ” سحبها من يدها لجانب غرفتهم قائلا ” إذا تعالي لتري السلحفاة
الأخرى إنها أصغر من السابقة ”
قفزت ويدها لازالت في قبضة يده راكضة لتلحق خطواته السريعة
وقالت بمرح ” رائع هل هي صغيرة جدا ” *
*
جال بنظره بين أبنائه الأربعة الواقف منهم والجالس مجتمعين في غرفة
مكتبه في منزله وتابع بصوته الجهوري الجاد ” ليبدأالجميع بالتحرك في المناطق وقيادة من سيعملون معكم بجد لضمان استقرار مدننا فما نمر
به قد يكون وبالا علينا إن تراخينا ولن أعتمد على أحد مثلكم ولا أبناء
زعماء القبائل فها قد حان الوقت لأجني ثمار تربيتي لكم رجالا ”
ثم استقر نظره على رعد الذي قال بهدوء ” أفهم من كلامك أننا سنترك الحدود حاليا ”
قال بذات جديته ” نعم فالحدود مؤمنة حاليا وابن شاهين لا يفكر
في خرق هدنته معنا ولا الغدر بنا , ورجالنا هناك يفون بالغرض
ومستعدين لأي طارئ لكن الشأن الداخلي يحتاج منا لتضافر أكثر وأنتم ترون حال البلاد ”
قال كاسر الجالس مقابلا له بجوار رعد ” وما الذي أثمر
عنه الاجتماع الأخير ؟ ”
تنهد شراع بعمق وقال ” الضغط على ابن شاهين كي لا يستمر في زحفه على الهازان ولسنا نعلم سيتحقق هذا البند أم أنه لا وجود
له كالمعني به وهو يتجاهل حضور كل تلك الاجتماعات
المقررة ويقاتل مع رجاله في مدن أرياح ”
قال رماح الواقف خلفهما مكتفا يديه لصدره ” وها هو بالفعل أخذ منهم منطقة ووصل لمنتصف أراضي الثانية من قبل
تكثيف الدعم الجوي فكيف بالآن ”
علق كاسر قائلا ” حتى إن سلبهم المناطق الخمس فسيفرون للجبال
ويحاربونه من هناك كعادة الإرهابيين في كل مكان فكيف بحدود مفتوحة ستجلب باقي أشباههم من الدول الأخرى تحت حجة
مساندة أخوانهم في الدين ”
قال جبران الواقف بجانب كرسي والده مقابلا لأخوته ” وإن يكن ؟
فسيكون خطرهم أقل ولا تنسوا أنها ورقة قوية سيلوح بها ابن شاهين في وجوه الجميع ويضمن أيضا أنهم لن يشكلوا
خطرا عليه مستقبلا ”
هز رعد رأسه بأسى وقال ” ويزج الآلاف من رجاله لقتلهم من
أجل حماية شيء لم يمتلكه بعد ” قال شراع بسخرية ظهرت كالمرارة في صوته ” بل هم من يزجون أنفسهم
خلفه دون أدنى تراجع ولا تراخي , وآخر ما وصلنا أنه حتى من هم دون
الثمانية عشر عاما يخضعون للتدريبات المكثفة حاليا والأهالي في الحالك
يقدمون له أبنائهم وكأنهم يعطونه ثوبا من ملابسهم دون أن يرف لهم جفن ولا أن يعترض أبناءهم مما يعني أنهم مستعدون للموت حتى آخر طفل
فيهم ولا يخذلوه فيما بدأ فيه ”
قال رماح بضيق ” جنون !! جن هذا الرجل وقبائله مثله وكأنه غسل
أدمغتهم يسيرون خلفه كالمنومين , إن كنا نحن مكانه لتوسلنا على الأبواب لكي يصدقوا فقط أننا نفعل ما نخطط له لصالحهم
فكيف أقنعهم هم ! ”
قطع حديثهم الطرقات الخفيفة على باب غرفة المكتب وانفتح بعدها ببطء
وقد توجهت الأنظار له حتى دخلت منه التي ألقت السلام بصوت منخفض تحمل في يديها صينية تحوي خمس أكواب شاي كبيرة تخرج منها
الأبخرة متصاعدة لوجهها الذي حضنه الحجاب الأبيض الجاهز
مبتسمة لهم من بعيد فقال رعد مبتسما ” تعالي لقد فاتك من
التشويق الكثير ” اقتربت منهم وقالت مبتسمة ” أتركوا تشويقكم لأنفسكم وإلا
سأضع الشاي وأهرب ”
ضحك رعد وشراع وكاسر واكتفى رماح بالنظر لها مبتسما أما الخامس
فيهم فقد هرب بنظره للأرض ما أن دخلت , بعدما كسر قراراه بالفرار بأوامر من والده وما كان سيرفض في وضع البلاد الراهن , وتحمل مغبة
النظر لها من بعيد وهوا يرى قلبه يحترق شوقا ولا شيء لديه سوا التمني
والانتظار , وضعت الصينية على الطاولة بينهم وجلست بجوار كاسر الذي
احتضن كتفيها من فوره وقبل رأسها ثم همس لها بشيء مبتسما جعل وجنتيها تتوهجان خجلا وهي تنظر ليديها في حجرها ووكزته بمرفقها بقوة فضحك
في صمت فخطفت نظرها سريعا لجبران وكل ما خشيته أن يكون رآهما
لكنه كان ما يزال محتفظا برداء التجاهل بعيدا عن كل شيء في وجودها
هاربا بنظره للأرض وإن كان قلبه يصرخ ويصرح بأشياء تعاكس حاله تماما , أرخت نظرها بحزن وهي تعلم سبب تجاهله حتى في النظر لها
وهي موقنة مثله أن القرار ما يزال في يدها وتعاتب نفسها على ذلك دائما
وقبل كل هذا على فشلها بالشعور ناحيته بأي شيء مختلف عن باقي
أشقائه , حتى شوقها له وشعورها وقت رؤيته كان موازيا لشعورها ناحيتهم جميعا , لكنها لازالت تصر على قرارها وأنها ستحاول أن
تكون له الزوجة التي يريد , وهي تجهل تماما أنه مستعد أن يكون
لها فوق الزوج الذي تتمناه أي امرأة حتى إن كان شعورا من طرفه
وحده بعدما عاش لسنوات يتعذب من رؤيتها أمامه وهي تضنه شقيقها قال رماح متابعا ما كانوا فيه ” بعض الدول المجاورة قرروا وضع
عقوبات على ابن شاهين ومنع الإمداد المادي عنه لكن البنك الدولي
رفض لأن ما يقدم من حق الأهالي في الحالك , والآراء الدولية في
الغرب لازالت في تماطلها وتذبذبها ولا يرددون سوا بأنه على ابن شاهين أن يتريث وأن يكون الحل سياسيا ”
نظر له رعد فوقه وقال ” وطبعا يعطونه الفرصة ليفعل ما يريد ”
عقب كاسر من فوره ” خطابه ذاك في الاجتماع العربي كان مدمرا
وهوا يتحدث عن عشرات المليارات كحد أدنى تنتجها البلاد شهريا فكيف بالسنة الكاملة ونحن لا نرى منها إلا القليل ونعاني من
النقص في كل شيء بينما نحن من ننتجه ”
قال شراع بهدوء وقد تخللت نبرته الكثير من العمق المفعم بالتوجس
” لم يعد هذا هوا المحور الأساسي الآن خاصة بالنسبة لنا نحن كالعائلة التي تحكم صنوان فتفكيرنا يجب أن يكون فيما سيخفيه المستقبل ورأس
ذاك الرجل وتفكيره , خاصة إن خرج من حربهم في جبال أرياح حيا ”
ضغطت على أصبع كاسر بين أصابعها القابضة عليه دون شعور منها
وقد غزاها شيء يشبه خفقانا في جسدها علا معه توتر نبض كل عرق يوصل الدم لقلبها ونظرت له وقالت بهمس خافت ” وإن مات على يد
الإرهابيين هل ستتفرق جيوشه ولن يحدث شيء مما يخطط له ؟ ”
ابتسم لها وأبعد يده وأمسك أنفها وقال مبتسما ” هل ستجتهدين في
الدعاء عليه ليموت إن كان الجواب نعم ؟ ” تنهدت بأسى تنهيدة رقيقة وأبعدت نظرها عن عينيه هامسة ” ليته يوجد
حل لكل هذا يا كاسر وليته بيدي لفعلت أي شيء وما تركته يقتلكم يوما
وتموتون أمام نظري بسببه لأنه لا يوجد أي دعاء سيبرد نار قلبي
حينها ويشفي غليلي منه ” ثم وقفت وغادرت معتذرة فقد سمعت ما يكفيها لأسبوع من النكد الدموي
كما تسميه , توجهت للمطبخ حيث كانت عمتها مع الخادمتان وجلست على
الطاولة واتكأت عليها بساعديها وأرخت ذقنها عليهما تراقبهم في صمت
حتى نظرت لها عمتها وقالت مبتسمة ” كم هوا رائع المنزل بوجودهم لقد دبت فيه الحياة مجددا فبغيابهم بات كئيبا وهادئا ”
تنهدت بأسى ونظرت للطاولة تحتها وقالت بحزن ” أسأل الله أن
لا يغيبوا عنا عمتي لا أتصور الحياة وأحدهم ليس فيها ”
شاركتها التنهد الحزين الآسي وجلست على الطاولة أمامها ووضعت صينية الخضار عليها وقالت بحزن أعمق ” أبعد الله عنا جنون
ابن شاهين , هوا القوي القادر على كل شيء ”
غابت بنظرها بعيدا مسدلة رموشها الطويلة للأسفل وقد ترددت كلماته
تلك في دهنها مجددا وهي التي لم تغب عنه لحظة وقالت بكلمات خرجت ناعمة كالحرير وحزينة كليلة هجرها القمر ” أليس ما قاله من العقل ؟
ليته يحدث دون دماء وقتل عمتي يا ليت ”
هزت تلك رأسها بيأس وقالت ” لن يرضى أحد يا غسق , لا
هوا ولا أي طرف في البلاد ” اتكأت برأسها جانبا على ذراعها وقالت بهمس حزين ” علها تحدث
معجزة , لعله يشعر بقلبي حين سيمزقه على أخوتي ووالدي ”
نظرت لها الجالسة أمامها رافعة رأسها بسرعة وقد وضعت السكين
من يدها وقالت بصدمة ” غسق ما معنى ما قلته للتو ؟ ” سوت جلستها وقالت تجاهد دموعها ” لعله يشعر بنا عمتي , بكل
امرأة سيفقدها رجلا تحبه كما يفعل مع نساء قبائله الآن ”
قالت تلك بيأس وقد عادت لرفع السكين وإنهاء عملها ” أنتي قلتها
بنفسك لم يشعر ولا بنساء قبائله ولا بأهله اللذين قد يخسروه في أي وقت فهل سيفكر بك أنتي أو بأي امرأة من صنوان أو الهازان ”
تمتمت بعبوس وصوت رقيق ” عل رؤيا قطاط يصدق بقيتها
ويخرج من سيهزمه على أبواب نصره ”
نظرت لها عمتها بضيق فقالت بعبوس قبل أن تتحدث ” أعلم عمتي عليا أن أنسى كل ما حكيته لي سابقا ”
قالت بضيق ظهر في صوتها أعمق من ملامحها ” بل عليك أن تعلمي
أنها إن كانت تكهنات من ذاك الدجال فهي لا صحة لها وإن صدق
بعضها , وإن كانت رؤيا حقا فليس بمقدور إنسان بعد نبي الله أن يفسر الرؤيا دون خلل ”
هزت رأسها بحسنا فلا تريد الدخول مع عمتها في جدال محوره ابن شاهين
ذاك ثم نظرت سريعا للذي مر من باب المطبخ ويبدوا غادر مجلسهم الطويل
ذاك قبل الجميع فوقفت من فورها وغادرت المطبخ فلا أحد غيره سيلبي لها ما تريد الآن تحديدا وفي هذا الوقت والوضع غيره , لحقته
بخطوات سريعة حتى اقتربت منه منادية
” جبران ”
فوقف والتفت لها فورا ودون شعور منه ولا أن يتلقى تنبيها من عقله أو طلب أذن وقد سقطت آخر حصونه وهوا يراها مقبلة نحوه بخطوات
سريعة حتى وصلت عنده وقالت ونظرها معلق بعينيه ” لما غادرت
مبكرا وقبل البقية ؟ هل تشاجرت وأحد أخوتي ”
شع وجهه بابتسامة لم تخفى معانيها عن الواقفة أمامه وقال من فوره ” هل يعنيك الأمر فعلا يا غسق ؟ ”
هربت بنظرها من عينيه وقالت ناظرة للأسفل لحركة أصابعها وهي
تشبكها ببعض ” جبران لا تشعرني أن أي شيء صادر مني كان
سيكون مستحيلا , علاقتي بك كانت رائعة طوال عمري ” اتسعت ابتسامته وهوا يراقب الحياء الذي طفح على وجهها وهي تهرب
بعينيها منه , منظر لم يكن يراه مسبقا وهي تعتقد أنهم أخوتها وحتى بعدما
علمت بالأمر , رفع يده وبشعور منه هذه المرة وباختياره وبمراسلة واضحة
بين عقله وقلبه وهوا يبرر له أنهما يعدان مخطوبان الآن فهي موافقة ووالده أيضا وبمباركة جميع أفراد عائلته ولولا رفض والده إشهار الأمر لعلم القاصي
قبل الداني أن زواجهما سيكون في أي وقت , وصلت يده لوجهها وأمسك بذقنها
الناعم الصغير ورفعه لتلتقي عيناهما مجددا وقال بنظرة تفضح كل ما يحمله
لها ” كان بالنسبة لك يا غسق كل شيء عاديا ورائعا أما أنا فكنت أموت فقط وأراه لا يسير في مساره الذي أريده ”
ارتفعت الدماء في جسدها في شيء لا يشبه السعادة ولا التوتر ولا أي شيء
مما قد تختبره المرأة لأول مرة مع رجل فلازال شعور أنه شقيقها يسيطر عليها
بل وتشعر بأنها كمن ترتكب فاحشة عظمى مع أحد محارمها , أغمضت عينيها محاولة أن تهرب من كل تلك الأفكار , أن تقنع نفسها أنها ليست سوا كذبة عاشت
فيها كل حياتها ويمكنها كما صدقتها سابقا أن تصدق خلافها مستقبلا , بعد برهة
فتحت عينيها ونظرت للذي لازال يتأملها في صمت وأصابعه لم تترك ذقنها بعد
وقال مبتسما ” إن كان ما أخرجك خلفي خوفك من السبب فلم نتشاجر يا غسق ولم يكن ذاك طبعنا يوما ”
قالت من فورها ” أعلم لكن الأوضاع والأمور الآن متوترة وأعصاب
الجميع مشدودة ولم يكن ذاك ما أخرجني خلفك ”
شعرت على الفور أنها عادت لتعلقه بأمل جديد وهي تقرأ بوضوح في ملامحه أنه فهم أنها ستخبره بموافقتها التامة على تحديد زفافهما فسارعت
لتقول قبل أن يتحدث ” أريد أن أطلب منك أمرا هوا طلب وأمنية أنت
من سيساعدني لتتحقق ”
نظر لها باستغراب وأصابعه تترك ذقنها لكنها لم ترجع لجيب سترته كما ضنت بل سارت ملامسة لفكها حتى طرف حجابها وشعرت بتوترها تحرك
هذه المرة فعلا من لمسته التي لم يفعلها سابقا فلم يكن إلا متحفظا معها سواء
قبل علمها بأمر عائلتها أو بعده , تلمس خدها بظهر سبابته وقال بهمس مبتسما
” أمنية تتمناها غسق ولا تتحقق ؟ من هذا الذي يقف في وجهها وكل رجال العائلة يلبون كل ما تنبس به شفتاك وتقولي فقط بأنه في خاطرك ”
أنزلت رأسها ليبتعد عن لمساته التي أثرت حتى على أنفاسها وقالت
بشبه همس ” هذه قد يعترض عليها الجميع رغم موافقة بعضهم
مسبقا لكني أريدها فعلا جبران ” دس يديه في جيوبه وقلبه لازال يردد توبيخه لوالده الذي أرغمه على
المجيء والعذاب هنا رغم شوقه العارم لرويتها ولو من بعيد , قال
بنبرة حانية دافئة ” قولي ما في خاطرك يا غسق وأعدك أن أعمل
جهدي لأحققه لك ” قالت بتردد ولازال نظرها على أصبعها التي تلعب بخيط فستانها المتدلي
من أعلى خصره ” أردت الذهاب مع جليلة لقرية عائلة والدها في توز
وقد وافقت عمتي وحاولت إقناع والدي لكنه اعترض لأنكم رجعتم من
الحدود ولأن توز على حدودنا مع الحالك وستحتاج عائلة خالتي لسنة كاملة لتذهب هناك مجددا ”
ثم ضغطت على خيط الفستان بقوة وقالت بمرارة صعدت لحلقها
” هذا إن بقيت لنا بعد عام ”
قال بجدية ” والآن هل عليا أن أخبره أني سأكون في الحدود أم ماذا ؟ ” رفعت نظرها له وقالت بتوجس ” تبدوا لست مقتنعا أساسا ؟ ”
تنفس بقوة واستسلام وقال ” عقلي يرفض الفكرة يا غسق لكن قلبي
لا يريد أن يرد لك طلبا ”
قالت من فورها ” إذا تحدث معه لتأخذني أنت وقت زيارتك للحدود وترجعني وقت رجوعك فهم سيقضون شهرا هناك ولا أريد الذهاب
معهم في سيارة وثاب ولا البقاء هناك كل ذاك الوقت ”
*
* ما أن وصل لسور المدرسة ودخلت التي أشبعته بأحاديثها التي لا تتوقف
طوال الطريق لف خلف السور الواسع لها ووقع نظره فورا على مركز
الجنود الموجود تحت المرتفع يظهر واضحا من الأعلى وكله عزم على ما
يريد فعله , رمى حقيبته بقوة لتطير وتستقر خلف السور لتصبح هي داخل المدرسة ونزل من المنحدر بخطوات سريعة حذرة قاصدا ذاك المبنى وهو
على يقين من أن مدرسه لن يكلف نفسه بإخبار عائلته أنه لم يعد يأتي للمدرسة
كما يفعل مع بقية الطلاب حسب أوامر وتشديد ابن شاهين على تعليم الأطفال
وعدم تغيبهم , فهوا من بين الجميع لن يفتقده أحد ولن يصر أحد على ذهابه لها عدى والدته التي لا تغادر غرفتهما ولا يراها أحد وماريه التي عليه أخذها
صباحا حتى باب المدرسة والمجيء لإرجاعها نهاية الدوام الدراسي أو أصبح
غيابه معلوما عند الجميع من بكائها المرتفع حتى تصل المنزل , وصل المقر بعد
صعوبة بالغة لم تؤثر بعزمه وهو موقن أنه سيواجه هذا الطريق يوميا نزولا ثم صعودا , دخل من الباب فورا ونظره يتنقل بين من يتدربون لتنشيط أجسادهم مع
بداية الصباح ومن يتحركون بعشوائية فهذا أحد مقراتهم الحدودية وهوا ما يربط
الحالك بصنوان في واحدة من عشرة مناطق حدودية ليكون هذا المقر واحدا من
عشرة منها , ولأنه داخل حدودهم فأوامر ابن شاهين كانت تقضي بأن لا يُمنع أحد من دخول مقراتهم ولا تغلق أبوابه في وجه أي شخص يحتاج من الجنود
هناك شيئا لذلك لم يستهجن أحد دخوله ولم يمنعه أحد , وصل للمبنى الذي يريده
والذي أصبح مكانا يزوره أغلب السكان في تلك المنطقة ومجاوراتها لأن أحد
الأطباء موجودا فيه فببداية زحفهم على الشرق تقلص عدد الأطباء بشكل كبير لانتقالهم لمناطق المواجهات وأصبحوا يقتصرون على مقرات الجنود ليكونوا
قريبين منهم وليكونوا مرجعا للأهالي ويستفادون من تقليص ذاك العدد ولا
يهملوا المرضى من جنودهم الباقين في الداخل وأهالي قبائلهم في آن واحد
دخل الممر الضيق الطويل قليلا وهوا يسمع صوتا يخرج من إحدى الغرف الشبه مغلقة لرجل يتحدث في الهاتف عن مشاكل نقص الأدوية وعن بعض
المساعدات الدولية القادمة فتجاهل ذاك الباب وسار للذي في نهاية الممر
وكان مغلقا فطرق عليه طرقات خفيفة حتى قال من في الداخل
” تفضل ” ففتحه حينها ليقابله الطبيب الذي غزى الشيب رأسه رغم أنه بالكاد تجاوز
الخمسين عاما , متناسقا مع بشرته شديدة البياض جالسا خلف الطاولة البسيطة
القديمة ودفتره الكبير أمامه في الغرفة متوسطة الحجم تحوي سريرا وبعضا
من المعدات الطبية الضرورية والأجهزة القليلة البسيطة , أغلق الباب ودخل على ابتسامة الجالس خلف الطاولة قائلا ” مرحبا يا تيم , ظننتك لن تأتي ”
اقترب منه وقال بهدوء ” لم أستطع المجيء قبل اليوم , هل
لازلت عند كلامك لي ؟ ”
ابتسم ووقف وخرج من خلف طاولته قائلا ” نعم , ولعلمك فقط أنا لست مسئولا عن تركك للمدرسة لأني أعلم أن هذا وقتها وأنك ستعاقب إن علموا
أهلك وسيُعاقبون من الزعيم ابن شاهين وقد يشملني معهم في عقابه ”
نظر له فوقه وقال بجدية صرفة ” لا تقلق أخبرتك أني سأدرس
وسأذهب للامتحانات ولن يعلم أحد أني لا أذهب للمدرسة ” ربت على شعر الواقف تحته وقال ” يبدوا أن هذا الرأس يحمل
الكثير فأخبرني لما لن يخبرهم أحد ولن يعلموا ”
نظر للأسفل حيث حدائه القديم المتهرئ وقال بجمود
” لا أحب فعلا الحديث عن الأمر ” ضحك الواقف فوقه ومسح على شعره الأسود الكثيف وقال
” حسنا أخبرني كيف هي والدتك ”
نظر له للأعلى وقال ” أفضل من السابق ولم تعد تأتيها تلك النوبات ”
تنهد وأبعد يده عن شعره وقال بأسى ” لو كانت أحوال البلاد أفضل ما وصلت لحالتها هذه فعلاجها كان سيكون سهلا وبسيطا في بداية
مرضها والحمد لله على كل حال ”
نظر جنبا وابتسم بسخرية فلم يكن تردي حال البلاد السبب بل إهمال
من لم يشعروا بها , عاد الطبيب خلف طاولته قائلا ” إذا كما اتفقنا ستتولى تنظيف الحجرات والممر ورمي القمامة وجمعها من هنا
وسيكون أجرك على ساعات عملك ”
هز رأسه بحسنا فقال الذي استقر على مقعده متنهدا بضجر ” لن يكون
راتبا كبيرا يا تيم فأنت ستعمل هنا لنصف يوم على حسب تقديري وإذا ما حسبنا تنظيفك للمكان يوميا فسيكون نصف راتب عامل النظافة
الثابت وكله سيكون حسب مجهودك طبعا فأنا تعبت من تولي مهنتي
التمريض وتنظيف هذا المكان ”
هز رأسه بحسنا وقال بثقة وإصرار ” سأعجبك سيدي أنت جربني فقط وأهم ما لدي أن أحصل على علاج والدتي باستمرار وإن كان هذا
فقط أجري فأنا راض به ”
هز رأسه بحسنا متنقلا بنظراته المعجبة في وجه الطفل الواقف أمامه فلا
شيء يربطه بتلك الطفولة سوا طوله أما حديثه وملامحه ونظراته وعزيمته تنتمي لعالم مختلف جدا عن عالم من هم في سنه وكأنه رجل في ثوب طفل
ولو لم يعده بأنه لن يترك دراسته نهائيا ما وافق أن يضيع مستقبل طفل مثله
اتكأ بساعديه على الطاولة وقال ناظرا له ” علاج والدتك سيصرف لها
باستمرار أو تقهقرت صحتها مجددا وأخشى أن ما سأعطيه لك من راتبي لن يكفي , لذلك سأوفر لك العلاج مقابل عملك هنا هل أنت موافق هكذا ”
هز رأسه بنعم فورا وقال الذي لم يزح نظراته عن ملامحه
” المهم أن تجتهد في دراستك في المنزل وإن احتجت شيئا اسألني
عنه وادخل للامتحانات مع زملائك حسنا ” نظر للأسفل وقال مثبتا نبرته كي لا تظهر المرارة في صوته
” بالتأكيد ”
وهوا أعلم من غيره أن ذاك الأستاذ لن يسمح له بدخول الامتحانات والحجة
أصبحت جاهزة لديه الآن وهي تغيبه المتكرر , لكن مقابل علاج والدته مستعد لفعل أي شيء فما نفع أن يدرس ويتركها تعاني حتى تموت وهوا موقن من أنه
حين سيكبر سيلوم نفسه مثل غيره لكن دراسته لن يلومه أحد على ضياعها منه
ولا حتى نفسه بما أن المقابل هوا توفير علاجها الذي قال لهم الطبيب حين زاره
معها المرة الماضية وأصر أن يدخل أيضا أنه عليهم توفيره لها باستمرار كي على الأقل لا تتقهقر صحتها أكثر , وحين دخلوا عليه استغربوا أنهم
وجدوه ينظف الأرضية بالمطهرات بنفسه وتذمر أمامهم واعتذر عن تأخره
عنهم قليلا لأنه لا عمال هنا يقومون بهذا عنه فحتى مبنى مقر الجنود هم من
ينظفونه بالتناوب , لذلك بعد خروج والدته وقبل مغادرتهم عرض عليه أن يساعده مقابل أي أجر يعطيه له وهوا موقن من أنهم سيشترون لها الدواء
هذه المرة ولن يكرروها مستقبلا ولن يستطيع طلب ذلك من شيخ القبيلة مجددا
لأنهم عاقبوهما سابقا بحرمانهما من الأكل لأربعة أيام بسبب أنهم خمنوا بأنه
من أخبره عن والدته ولولا الرمانتين والأرغفة التي تسرقها لهم ماريه ما وجد ما يطعم والدته واكتفى هوا بقشور الرمان الشديدة المرارة التي أصبحت قوت
معدته الخاوية حتى انتهت محكوميته وأصبحوا يتصدقون عليهما بوجبة واحدة
يوميا مهما كانت صغيرة وقليلة فهي أفضل من لا شيء , واضطر معها لأخذ
الرمان أيضا لأن والدته كانت تتعمد أن تجعله يأكل أكثر منها متحججة في كل مرة أنها لم تعد تستطيع الأكل بسبب أحماض المعدة المرتفعة
حمل سلة المهملات محتضنا لها بذراعه الصغير وبدأ أولا بجمع الأوراق
الممزقة الخاصة بالحقن وشاش الجروح ليبدأ ساعات عمله هنا بجد كي
لا يخسره ويخسر بالتالي علاج والدته المخرج~
بقلم / الغاليةهمس الريح
دعوه فاسمه مطر و سيكون المبتدأ و الخبر
المدخل ~
بقلم/ الغالية همس الريح انا مطر …. انا غسق .. انا مطر .. انا غسق .. انا مطر .. انا غسق .. انا مطر *** فتحت باب الخزانة وبدأت بترتيب ملابس الذي لم يزر هذه الغرفة من أكثر
من شهر والتي أحيانا تخرجها وتغسلها وهي نظيفة ليس لشيء سوى لشعور
المسئولية والأمومة الذي تفرغه بحبها الكبير لعمتها واهتمامها بها ولعنايتها
بكل ما يخص شقيقها الغائب دائما حتى وإن كان موجودا , فهي تبقى أم ثكلى مذبوحة فقدت زوجها وابنيها وهم أحياء تحاول أن تسلي نفسها بأي شيء
وأن تفرغ أمومتها المكبوتة بكل من هم حولها حتى بعمها صقر الذي يعتمد
على الخادمات أكثر منها , تنهدت بقوة وحمدت الله أن شقيقها مطر يمنع تدخل
الخادمات في أي شيء يخصه وتذكُر جيدا تلك الحادثة التي طرد بسببها خادمة كانت لديهم وكيف خرجت تعرج من كدمات جسدها بعدما جرها على السلالم
جرا يسحبها كأنها قطعة أثاث حتى رماها في الأسفل ومنع بعدها جلب خادمات
يقل عمرهن عن الأربعين عاما بعد اعتراض كبير منها تلا قراره بأن لا تدخل
خادمة المنزل وقد عاندته وأصرت لأنها ستعجز وحدها عن الاهتمام بهذا المنزل الواسع , ولم يفكر أحد طبعا أن يسأله عن السبب فهوا واضح لديهم فالخادمات
هنا يكنّ من نفس بلادهم لأنه لا عمالة تدخل لهم , ومن هذا الذي سيضحي
بنفسه ليدخل بلادا تعاني ويلات الحرب الأهلية والنقص في كل شيء .
وقفت على طولها قاطعة حبل أفكارها تلك لتدخل لدوامة جديدة منها وهي تنظر لصورة والدهما الموجودة داخل الخزانة , صورة قديمة باللون الأبيض
والأسود زجاج إطارها مشقوق مقسوما لنصفين التقطت من أعوام خارج هذه
البلاد لرجل ينظر بشموخ وذقن مرفوع لكل من يقف أمام صورته وكأنه
يقول له أنا هنا وموجود , أنا كنت رجلا استحق أن يكون ما كان تنهدت بأسى وهي تتذكر كم كان رجلا جلدا قويا قاس القلب بنا لنفسه مجدا
بسبب جنون ذاك الدجال وقصة تناقلتها الناس وهوا يتزوج النساء ويجهض
حملهن منتظرا الابن المنشود وبالفعل صنع منه ما يريد وما صوره له عقله
من كلام ذاك الرجل , لامست بأطراف أصابعها ملامحه من خلف الزجاج مخرجة الحروف من شفتيها كالصقيع ” حطمت قلبي يا أبي ولم تكترث
كعادتك حتى حولتني لنسخة جديدة عنك أيضا ”
انفتح باب الغرفة حينها فنظرت سريعا للداخل منه من تذكّر أخيرا أن له
عائلة هنا كما تُردد هي دائما , ألقى عليها السلام بكلمات بالكاد خرجت بهمس واثق حازم دون أن ينظر جهتها وقد انحنى فورا يفك خيوط حدائه
العسكري المرتفع فأغلقت باب الخزانة ونظرها لازال على المنحني عند
الباب ببذلته العسكرية وقال وهوا ينزع حدائه وبكلمات ثقيلة جادة
ونبرة مبحوحة ” كيف حالك يا جوزاء ” قالت وهي تراقبه متوجها لسريره الواسع بأغطيته البيضاء
” بخير ”
ارتمى على السرير متنهدا بتعب تنهيدة طوية وكأن عظامه كانت
تنتظر من وقت طويل أن ترتمي على هذا الشيء وأغمض عينيه قائلا بصوت قد ثقلت بحته بوضوح ” عمتي كيف حالها ؟ ”
قالت ونظرها لازال على الجسد المليء بالعضلات الملقى على
السرير ” نحن بخير ولا ينقصنا إلا أن نطمئن عليك ”
لم يعلق وهي تعلم جيدا أن ما قاله هوا كل ما ستسمعه منه فكيف إن كان متعبا هكذا , تنقلت بنظراتها في ملامحه النصف مسترخية , في عينيه
السوداء الواسعة المغمضة وحاجبيها الرقيقان الحادان المستقيمان وشعر
رأسه ولحيته المشذبة الأسود الناعم الذي لا تغادره تلك اللمعة السوداء
حتى في غبار الحروب وبهذا اشتهرت كبرى قبائلهم ولهذا سميت بالحالك , تنهدت بصمت ثم قالت بهدوء ” هل ستنام هكذا ؟ غيّر
ملابسك على الأقل لترتاح في نومك ”
قال بدون أن يفتح عينيه ” بل سأستحم فجهزي لي الحمام أريدها
مياها باردة جدا , صرفي كل المياه الدافئة في الأنابيب ” هزت رأسها بحسنا وكأنه يراها ثم انتقلت للحمام من فورها وفتحت
جميع صنابير المياه ليخرج الماء الساخن بسرعة ثم خرجت للغرفة
مجددا وتوجهت للخزانة تخرج له ثيابا مريحة ينام فيها ومناشف
توجهت بهم للحمام فورا ووضعهم هناك وتركت الثياب عند طرف سريره وما أن خرجت للغرفة مجددا حتى نظرت له وهوا على
حاله وقالت ” مطر هل نمت ؟ ”
غادر السرير واثبا من فوره ودخل الحمام مغلقا له بعده فخرجت من هناك
ونزلت للمطبخ لتأخذ له بعض الطعام وإن لم يطلبه فقد يخرج من الحمام ويراه أمامه فيفكر بأن يأخذ منه ولو قليلا فهكذا اعتادت أن تفعل عندما
يتغيب لفترة طويلة عن المنزل , صعدت لغرفته مجددا بما قد وجدته
جاهزا وتبقى من طعام الغداء وسخنته جيدا لأنها تعلم أنه يفضل الطعام
ساخنا جيدا , دخلت الغرفة بصينية الطعام التي وضعتها على الطاولة ونظرها على ملابسه المرمية على السرير بفوضوية فتوجهت نحوها من
فورها ورفعت السترة العسكرية أولا وأفرغت ما في جيوبها , مفاتيحه
وبعض الأوراق وثلاث رصاصات سلاح رشاش لم يتم استخدامها بعد
ومسدس شخصي صغير وثقيل قد دمج اللون الأسود مع لون الحديد الفضي اللامع في الجيب الداخلي لها , ونزعت أيضا الهاتف الخلوي
الموجود في الحزام ووضعت أغراضه على الطاولة لحظة ما انفتح
باب الحمام وخرج منه لافا منشفة على خصره والأخرى متدلية
على كتفيه وصدره رافعا إحدى طرفيها يجفف به شعره مميلا رأسه جانبا وقال وهوا يجلس أمام الطاولة حيث صينية الطعام
” لا يوقظني أحد مهما حدث , قبل المغرب بساعة إن لم أستيقظ
فأيقظيني سأصلي العصر وبعد المغرب سأغادر ”
تنهدت دون أي تعليق ونزلت للأسفل لتغسل بذلته سريعا فبما أنه لم يحظر غيرها معه مؤكد سيلبسها مجددا ويعود هناك أو أي
كان مخططه القادم فيجب أن تكون جاهزة ونظيفة
*
* كان يلوذ بالصمت أغلب باقي جلستهم وهم متحلقين حول والدهم بعدما الحرب والفوضى أكثر في البلاد بل في غسق وعمته فأكثر ما يثقل كاهل
الرجال في الحروب هوا مصير النساء فيها وبعدها وحال أن اختاره الموت
وتركهم , وكان موقنا أن هذه الأفكار لم تكن هاجسه لوحده بل كل من كان في تلك الغرفة قد فكر أو يفكر في الأمر ومع ذلك هوا يرى أنهم مهما فكروا
وانشغلت قلوبهم لن تكون مثله ورغم حبهم الشديد لها الذي لا يدخله الشك أبدا
في أنه لم يتعدى الحب الأخوي إلا أنه يراه لا يساوي شيئا أمام ما يحمله لها
ومهما قلقوا عليها في غيابهم أو حال موتهم لن يكون ذرة أمام ما ينخر في قلبه ويصدح في كل زوايا عقله ( ما مصير غسق إن أصبحت وحيدة وهي لا أحد
لها ولا أهل سوا من جهة والدتها , وفتاة والأسوأ أنها أرق من النسيم العليل
تجرحها الكلمة البسيطة دون أن يظهر عليها فكيف قد تواجه الحياة
وصعابها وتلك الذئاب البشرية إن أصبحت وحيدة ) مرر أصابعه في شعره الكثيف ونظر جانبا لحظة ما وقف رماح وكاسر
مغادران لحيث سيغيبان لفترة لن تكون قليلة بالتأكيد لينفذا أوامر والدهم
وما هي إلا لحظات ووقف رعد أيضا قائلا ” كن مطمئنا ”
ليعقب شراع قائلا ونظره للأعلى حيث الواقف بينهما ” وما أن تنتهي مما أوصيتك به تلحق وجهتك الأساسية في الدجلاء , لا وقت كافٍ
أمامنا وعلينا أن لا نضيع مزيدا منه ”
هز رأسه بحسنا وغادر أيضا ليحذوا حذو أشقائه ولم يبقى غيرهما
فنظر له جبران وقال ” يبدوا أنك نسيت أن ترسلني مثل البقية وأنا أكبر أبنائك ؟ ”
تنفس نفسا قويا وكأنه يجهز نفسه لما سيقوله ثم قال بهدوء ونبرة ثابتة
” أنت ستبقى هنا , أمامك مشوار صغير فقط ثم ترجع لتكون مع
عمتك وغسق ” نظر له مستغربا بل مصدوما وقد قال شراع قبل أن يتكلم ” يجب أن يبقى
أحدنا معهما وأن يهرب من الموت بأي شكل يا جبران ولا يخوض حربا
مع أحد إلا دفاعا عنهما أو عن نفسه طال الزمن أو قصر ”
قال ونظرة الصدمة لم تفارق عينيه بعد ” ولما أنا ؟ لماذا تحرمني من الدفاع عن أراضينا وأهلنا ؟ ”
نظر للأسفل وقال بنبرة لم تخلوا من الكدر والحزن ” الخيار كان أنت
أو الكاسر بما أنه شقيقها وسيبقى محرما له للأبد لكن الزوج سيكون
سندا وعونا أكبر , ولا أحد يعلم الغد ما فيه ” قبض على يده بقوة وقد كره هذا الحديث الذي مهما أنكروه فهوا واقع ومهما
طال الوقت والسلم بينهم وبين الحالك فسيكون مصيرهم مصير الهازان ولو
بعد أعوام خاصة بعد تصريح ابن شاهين وإقراره بأن البلاد ستوحد إن بالسلم
أو بالحرب , وها هي كل قبيلة تستنكر أن تكون أخرى فوقها وتحكمها ولا سلم يلوح في الأفق كما لا حلول سياسية كتلك التي ينادي بها الغرب وليست
سوا ذر للرماد في العيون , أنزل رأسه أيضا وقد سافر في همومه وأفكاره
التي لا تنحسر كلما خلا بعقله وقلبه كحال كل فرد من ذاك الجزء من البلاد
وماجاوره , ليخرجه مما هوا فيه صوت والده قائلا ” ستزور مقرات الحدود وإن في فترات متباعدة وسأوكلك ببعض المهام هناك ثم تبقى هنا ولا تغادر
فمن الغباء أن نجر أنفسنا جميعا للموت ولا نفكر فيهما خاصة بعد التوتر
الحالي وعمليات التصفية الممنهجة والسرية فقد تطالني وعائلتي في
أي وقت يا جبران هل تفهم ما أعني ؟ ” هز رأسه بنعم وتكاد عيناه التي لم تعرف الدموع يوما أن تتفجرا أمامه
لتفكيره فقط في أن تطال الاغتيالات عائلته فهذه نقطة لن يغفل عنها والده
بالتأكيد وستحدث إن اليوم أو في الغد , وقف شراع فرفع نظره به وقال
” إذاً سأزور مقر توز أولا وأريد أخذ غسق فهي تلح على الذهاب مع ابنة خالتها وسأرجعها معي ما أن تنتهي مهمتي في مقراتنا الحدودية
العشرة جهة الحالك فلن يأخذ الأمر مني أكثر من أسبوع ”
ثم سكت منتظرا الواقف أمامه أن يبدي اعتراضه الذي بدا واضحا في
نظرته وملامحه لكنه تنفس متنهدا باستسلام ثم قال ” تلك العنيدة تعرف جيدا من أين تؤكل الكتف ”
ظهرت ابتسامة طفيفة على شفتي الجالس ناظرا له فوقه وقال
” كان أهون عليا أن أُغضبك على أن لا أحقق لها رغبتها فوافق
كلها أيام وأرجعها معي فقد لا تكون البلاد هادئة كما هي الآن في أي وقت قريب ”
هز رأسه بحسنا ولا خيار آخر أمامه فطالما أنها ستذهب وترجع مع
ابنه الذي يثق به ويستأمنه عليها كنفسه فالأمر أيسر على قلبه , نظر له
ولازال نظره معلقا به وقال ” ما أن تنتهي مهمتك سنعقد لكما وسأقنعها بنفسي , وإتمام الزواج أمر نؤجله قليلا حتى نرى ما ستستقر عليه الأمور ”
وقف من فوره ولم تخفي ملامحه أبدا فرحته التي قد قفزت من نظراته
وشفتيه المبتسمة من دون أن يتحدث , وخرج شراع دون أن يضيف شيئا
ولا أن ينتظر تعليقا منه تاركا خلفه قلبا حلق بأحلامه التي بات يراها ستتحقق قريبا
*
*
سارتا جهة الطريق الرئيسي للمدينة في آخر أمل لهما للمغادرة كالبقية يد صغيرة تمسك بقوة وتشبث بثياب الكبيرة التي لا شيء لديها تتمسك به
سوى الأمل في خالقهم وهي موقنة أنه لن ينساهم , بعد رحلة طويلة لفتا فيها
تطرق أبواب من لم يغادروا البلدة بعد تطلب مكانا يكونان فيه في سياراتهم
ليخرجا من المدينة كغيرهم وكان الرد واحدا أنه لا مكان لديهم لأحد وبالكاد يجدون لبعضهم أمكنة جالسين فوق بعض فكل واحد يريد أن يأخذ معه ما
يمكن إخراجه حتى أصبحت السيارات أشبه بكومة أغراض متحركة من
كثرة ما كانت الناس تملأها من الداخل والخارج ولا مكان حتى صغير لهذه
المرأة وحفيدتها الصغيرة النحيلة وحقيبتهم الوحيدة , وصلتا حيث وقف العديد ممن حالهم لا يقل عنهم يقفون عند قارعة الطريق بعائلاتهم على أمل أن يقف
لهم أحد المارة ممن قرروا ترك المدينة متأخرا ويقلهم معه لحيث لا يعلم
أحد أين ولا حتى لمتى , أمسكت يدها الصغيرة التي لازالت متشبثة بثوبها
ووقفت بها تحت ضل شجرة خروب بالكاد ظلل طولها على جسدها الطويل ورمت الحقيبة بجانبها بتعب من لف الشوارع بها بدون فائدة , ليمر الوقت
عليهما وهما على حالهما ذاك وأي سيارة تسلك ذاك الطريق تكون محملة
بما لا يمكنها حتى استيعابه ومسرعة لا أحد يكترث لصراخ الواقفين طالبين
الوقوف لهم , نظرت تحتها حيث التي لا زالت متشبثة بثوبها بقوة تحرك قدميها بالتناوب فقالت بصوت واضح وكلمات متفرقة بطيئة كعادتها دائما
في الحديث معها ” زيزفون هل أنتي متعبة صغيرتي ”
فرفعت تلك رأسها لتبعد الريح الخفيفة المغبرة خصلات غرتها عن جبينها
الصغير ونظرت لها بحدقتيها ذات اللون السمائي الصافي الواسعة ثم هزت رأسها بنعم دون كلام , نظرت خلفها تفكر كيف يمكنهما الجلوس ولا شيء
معهما تجلسان عليه وقد فكرت حتى في إخراج بعض ثيابهما لتضعها على
الأرض وتجلسان فوقها ثم نظرت حولها حيث العائلات المتفرقة بعضهم قد
افترش الأرض وحتى بدأ بإعداد الشاي وكأنه في منزله وتنهدت بأسى فهذه العائلات من حالهم هذا يبدوا مر عليهم أيام هنا حتى أن الأطفال اعتادوا النوم
في أصوات السيارات المنطلقة بسرعة وحاملات الجنود ولم يحرك مشهدهم
المزري ذاك أحد وهم مفترشين الأرض لا شيء تحتهم سوا حصائر قديمة
ولا شيء فوقهم سوا بطانيات رقيقة تحركها الريح في كل وقت , فعلمت أن بقائهما هنا لا فائدة منه حتى إن عادت للمنزل وجلبت ما يجلسان وينامان
عليه فستحتاجان للأكل والشرب , انحنت للحقيبة ورفعتها مجددا وأمسكت
بيد حفيدتها وقالت متحركة بها من هناك ” دعينا نرجع لمنزلنا يا ابنتي
فالأجل واحد والموت لا شيء يمسكه ولم يبقى لنا خيارات أخرى ” *
*
وقف مستندا بإطار الباب يده في وسط جسده والأخرى المتكئ بكتفها
عليه يحمل بها مجموعة كتب مدرسية مضمومة بعناية بواسطة حزام جلدي مخصص , ينتظر الذي لازال يختصم ووالدته كعادتهم قبل
ذهابهما للمدرسة قبل أن تقف تلك على طولها ونظرت له عند
الباب وقالت ” وأنت يا وقاص هل أخذت معك طعامك ”
ابتسم ابتسامة جانبية وقال ” خالتي الطعام هنا يقدم في المدارس نحن لم نعد في بلدنا هناك , ثم أنا في الرابعة عشرة هل سآخذ
معي حقيبة طعام ! ”
نظر له الوقف أمامها وقال بسخط ” أخبرها بالله عليك يا وقاص
أني أصبحت في السادس الابتدائي وستضحك مني الشقراوات الصغيرات وأنا آخذ طعامي معي في كيس ”
أمسك ضحكته بصعوبة على نظراتها الساخطة لابنها الذي ركض
نحوه قائلا ” بسرعة يا وقاص سنتأخر عن المدرسة ”
وخرجا معا ضاحكين على نظراتها الحنونة المودعة فقد اعتادت أن تعامل وقاص كابنها فوحده من بين أشقائه من لا والدة له وقد فقدها صغيرا فحين
تزوجت والده كان في الثالثة من عمره وقد عنت جيدا بتوطيد العلاقة بينه
وبين ابنها ( رواح ) كي لا تزرع في قلبه التحسس من شقيقه لأنه المفضل
لدى جدهم والأقرب لوالدهم , ( بريستول ) هي أحد ضواحي لندن الشهيرة حيث انتقلت عائلتهم بعدما تركوا موطنهم الأصلي , وكانوا من الأوفر حظا
لأنه كان بإمكانهم السفر خارج البلاد لأنهم كانوا ممن قد عاشوا في الخارج
وبنو أنفسهم وثروتهم قبل أن يرجعوا لبلادهم في محاولة ممن مثلهم جنوا
ثروات في الخارج وعادوا لعلهم يساعدون البلاد وأبناء دولتهم وها هم يعودون هنا بعد خمس سنوات من استقرارهم هناك ضمن حدود قبائلهم في
الهازان , ما أن غادرا نازلين من عتبات المنزل الفخم الخشبية الطويلة ومرا
بممرات الحديقة المقسمة لأحواض بيضاوية كبيرة سالكان الممرات المغطاة
بالحجارة حتى صارا خارج المنزل على الرصيف الواسع مرورا بالسياج الخشبي الأبيض الذي يفصلهم عن الطبيعة الخلابة والأشجار العالية الخضراء
بأزهارها الملونة وسارا حيث مدرستهما التي لا تبعد كثيرا واختارا السير
لها على الأقدام رافضين السائق الخاص , نظر لوقاص سائران معا
وقال ” نجيب أخبرني أنه اكتشف مكانا قرب النهر لا يريد أن نخبرك عنه ”
نظر جانبا ومرر يده على وريقات الشجر الخضراء المارين بها
وقال ببرود ” وهل يعتقد أني أكترث لذلك ؟ أنا لم أعد طفلا مثلكما ”
نظر له السائر بجانبه مضيقا عينيه وقال بضيق ” أنا لست صغيرا , عمري إحدى عشر عاما ”
نظر جهته وقال دافعا جبينه بأصبعه ” وأنا أكبر منك بثلاث سنين ”
نظر رواح للأسفل حيث أقدامهم وخطواتهم السائرة بحركة واحدة مسرعة
وقال ” سمعت والدتي وخالتاي يتحدثن عن أن جدي سيشتري لك سيارة العام القادم ما أن تدخل الثانوية ”
حرك يده المحتضنة لكتبه ملوحا بها جانبا وقال ” أجل لقد
وعدني جدي بذلك ”
قال رواح ولازال نظره للأسفل وبنبرة منخفضة ” خالتي أم نجيب كانت متضايقة جدا من الأمر وحتى أم ضرار ”
حرك وقاص كتفيه ببرود ولم يعلق فنظر له رواح وقال
” ألا يضايقك الأمر ؟ ”
قال بلامبالاة ونظره على الطريق أمامهم ” زوجات والدي لم يحببني يوما فلم يتغير شيء لأنزعج ”
قال رواح من فوره ” لكن والدتي تحبك ”
نظر له وقال ” أنا أتحدث عن الاثنتين الأخريين وليس عنها ”
قال السائر بجانبه بابتسامة ساخرة ” نجيب أخبرني أن والدته قالت بأن جدي لا يحبنا وبأنه يحبك أنت فقط ”
ثم عاد بنظراته لخطواته وقال بشرود ” لكن والدتي لم تقل ذلك
كانت صيغة كلامها مختلفة ”
نظر له وقاص من فوره وكأنه يخشى أن يخسر الزوجة الوحيدة الجيدة لوالده فنظر له رواح وقال قبل أن يتحدث ” حين أخبرت أمي بما قال لي
نجيب أخبرتني أن جدي يحبنا جميعنا وأنه يعاملك بشكل مختلف فقط لأنه
لنا أمهات وأنت لا ولأنك كنت أول طفل يولد لابنه وأننا لديه سواء ”
أبعد نظره عنه وقال ببرود ” لما لا نغير الموضوع لقد أصبح مملا جدا ” رفع رواح يده وقفز ليصل لطول السائر بجانبه وضربه على رأسه
قائلا ” أنت ممل جدا هل تعلم ؟ ”
وتابعا سيرهما يتبادلان الضربات والضحك حتى ظهرت أمامهما فتاة
صغيرة شقراء الشعر مجموعا في ضفيرة قد وصلت لنصف ظهرها تضع حقيبتها المدرسية على كتف واحد وتسير بخطوات بطيئة كسولة
فقال رواح ما أن اقتربا منها قليلا وبالعربية ” أنظر لشعرها
كأنه عود قش مضفور ”
وضحكا معا فالتفتت السائرة أمامهما , فالشخص وإن لم يفهم كلامك فهوا يميز جيدا السخرية منه , كانت نظرات الشك تملأ عينيها قبل أن تعود
لسيرها الكسول البطيء وفي صمت فقال رواح بالانجليزية هذه المرة
فهما عاشا هنا ودرسا منذ صغرهم حتى قبل خمس سنوات ” أتعلم ؟
حين أكبر سأتزوج من واحدة شقراء وعينيها زرقاء ” فرفع وقاص رأسه للأعلى ضاحكا بصمت بينما التفتت له الفتاة وابتسمت
هذه المرة قبل أن ترجع برأسها للأمام فقال رواح بضيق ” وقحة أنا من
قلت ذلك وليس هوا ولا يغرك طول قامته فهوا ما يزال يدرس في السادس
الابتدائي بينما أنا سأدخل الثانوية العام المقبل وسيشتري لي جدي سيارة ” رمته هذه المرة بنظرة حارقة كاللهب وتابعت سيرها بخطوات سريعة
مبتعدة عنهما حيث أصبحت المدرسة قريبة جدا فضحك وقاص وقال
” لقد أزعجت الفتاة وقد تشتكيك للمدير ”
قال بلامبالاة ” لو كانت ليست شقراء ما أكترث لها فالذنب ذنبها ” ثم ركض جهة باب المدرسة البعيد قليلا قائلا ” من يسبق هوا
الأسرع والأقوى ”
فضحك وقاص راكضا خلفه ولازال لم يفهم بعد قصة شقيقه مع
الشقراوات وتفضيله لهن تحديدا *
*
فتحت باب المنزل على اتساعه ودفعت الكرسي بعمتها خارجة بها منه
فبما أنه قد حل الصيف ودخلت أولى أسابيعه الرطبة الحارة قليلا فقد بدأتا بممارسة عادتهما الدائمة فيه وهي قضاء ساعات من آخر النهار وأول الليل
ما أن تبدأ الشمس بالزوال جالستان في الخارج حيث الحديقة ذات الأشجار
التي لا تفقد خضرتها طوال العام , جلستا فورا على الطاولة قرب أحواض
الريحان الصغيرة التي ملأت الأجواء برائحتها الزكية لأنه ثم ريها قبل قليل ولازالت وريقاتها مبللة بالماء , قالت وهي تأخذ فنجان القهوة من يد
جوزاء التي مدته لها ” هل غادر مطر؟ ”
وضعت الإبريق بعدما ملأت واحدا لها وقالت ” قال أنه سيستيقظ
قبل المغرب بساعة وسيغادر بعد المغرب فتجديه مستيقظا الآن ” هزت رأسها بحسنا وفي صمت فتابعت جوزاء ببعض الضيق ” حين أرى
حاله وإهماله لنفسه أتمنى فقط لو يتزوج لكن ما أن أرى إهماله لغيره
أيضا أحمد الله أنه لم يفعلها ولا يفكر في فعلها مطلقا ”
ضحكت الجالسة مقابلة لها وقالت ” وإن يكن فزواجه أفضل من بقائه هكذا فبالرغم من كل ما تقومين به من أجله لازال هناك
أمور لن توفرها إلا الزوجة ”
هزت رأسها بيأس وقالت ” لا أراه يحتاج شيئا من ذلك لكان تزوج
فلا شيء يمنعه ” تنهدت عمتها بقوة وقالت بجدية ” لا يوجد رجل يا جوزاء لا يحتاج
لاهتمام امرأة للمستها الحنونة لدفء صوتها وقربها , الله خلقنا هكذا
كل نصف يحتاج لنصفه الآخر ليكمله وشقيقك ليس مخلوقا فضائيا ”
قالت بمرارة ظهرت بوضوح في صوتها دون أن تجاهد لتخفيها ” لم يكن مطر يوما كغيره من الرجال , أراه نسخة عن والدي رحمه الله الاختلاف
الوحيد في أن طبعه ليس قاسيا سريع الغضب مثله وباقي الصفات زرعها
فيه جميعها وزاد عليها أن أبعده ونفره من النساء بينما والدي حطم الرقم
القياسي في الزواج والطلاق ” انطلقت ضحكة الجالسة أمامها دون شعور منها وقالت ” لو كان على قيد
الحياة ما تجرأتِ على قول كلمة مما قلته الآن , ثم لا تنسي أن شقيقك
في النهاية بشر مهما تصلب ومهما غرس فيه والدك من صفاته ”
تنفست بضيق مبعدة نظرها جانبا حيث الأشجار التي بدأ لون الغروب يعطيها بريقا رائعا ومختلفا وقالت بكدر ” يبدوا أنك نسيتِ يوم جاء ونقل لي خبر
زوجي أو حين أخذوا أولادي مني وحين جاء بخبر عمي دجى ويوم أخبرنا
بموت والدي , قال كل فاجعة منها وكأنه يقول لنا صباح الخير ولم يفكر حتى
أن يضمني لحضنه ويحوي صراخي المفجوع في أبنائي ووالدهم , فما الذي ستجده فيه امرأة ؟ ولا توجد زوجة في الحياة لا تريد رجلا يحتويها ويحبها
ويغمرها برقته وحنانه , فلما يظلم معه امرأة مسكينة فليتركها لعلها
تجد كل ذلك عند غيره ”
ضحكت الجالسة معها مجددا وقالت وهي تضع فنجانها في الصينية بعدما أنهت رشف ما فيه ” يبدوا أن مطر هو من لو سمعك الآن
لعلقك في إحدى الأشجار ”
حركت يدها بلامبالاة وقالت مغيرة مجرى الحديث ” الناس بدأت
تشتكي من نفاذ المؤنة وكل ما أخشاه أن نمر بمجاعة عما قريب ” قالت بهدوء ” عمك صقر قال أن لمطر مخططا ينقذ به كل هذا وقد
فكر فيه من قبل وقوعه فثقي به كما يثق به الناس هنا ”
هزت رأسها بحسنا وقالت مبتعدة عن الموضوع مجددا ” ربيعة غاني
وصلهم خبر ابنهم أمس توفي عل تخوم ثروان ليلحق بعمه وابن خالته كم من فواجع ستتلقاها الناس قبل أن تنتهي كل هذه الحرب ”
لتقطع حديثهما الخطوات الثقيلة التي ظهرت بوضوح مقتربة منهما لأنهما
تجلسان في طريق الخارج والداخل للمنزل فنظرتا فورا جهة القادم نحوهما
وقد لبس لباسه العسكري مجددا وما أن وصل عندهما قبّل رأس عمته وهمس مسلما عليها ثم قال ” ألم تصليا جالستان هنا ؟ ”
فرفعت رأسها ونظرت له فوقها وقالت مبتسمة ” بلى بني أنا
سأصلي هنا وجوزاء ستدخل لتصلي وترجع لي , اجلس
واشرب فنجان قهوة معنا ” رفع فنجان جوزاء الذي سكبته لنفسها مجددا ورشف ما فيه دفعة واحدة
وقال وهوا يعيده مكانه ” عليا المغادرة سريعا فأمامي زيارة لمقرات
الحدود الشمالية ستأخذ مني أسبوعا أو يزيد ثم العودة لجبهات القتال
فذكريني مجددا بإسم العجوز التي أخبرتني عنها في قرية حجور ” قالت من فورها ” عُزيرة .. أسمها عُزيرة وكانت تولد النساء ومعروفة
هناك عند الجميع والمرأة التي ولدتها أسمها أميمه غزير ”
قالت جوزاء باستغراب ” أليست من قبائل صنوان ؟ ما علاقتها
تولدها امرأة عندنا نحن ” غادر حينها من يرى أن الحديث لم يعد يعنيه ولا يستهويه وقالت
عمتها ” لنعلم منها أولا ثم ستعرفين لما ولّدتها وهي ليست من هنا ”
*
* نظر للجسد النحيل المنحني ينظف الأرضية بالمنشفة وفي صمت تام
كعادته , لكم يحار في أمر هذا الفتى في صمته الدائم الغريب الذي لا
يدفعه ولا فضوله للسؤال عن أي شيء ولا حتى في حديثه وبعض مرضاه
عن الحروب وأخبار الجبهات ! وحتى عن نفسه لم يتحدث قط ولا تخرج منه الكلمات إلا مجيبا عن أسئلته رغم أنه من أيام وهوا يعمل هنا طوال
فترة الصباح وكل ما طلبه منه أن لا يكون موجودا إن كان أحد مرضاه من
مدينته هنا وتساءل لما لا يريد أن يعرف أحد بأنه يعمل عنده ؟ هل يخشى
عقابا من أهله أم أن يعاقبهم ابن شاهين لتركهم له بلا دراسة ؟ وضع القلم من يده في دفتره الكبير وأغلقه عليه وقال ناظرا له وهوا يعصر المنشفة
بيديه الصغيرتان طويلتا الأصابع ” تيم أريد أن أسألك ؟
هل لك أشقاء غيرك ؟ ”
نفض المنشفة بعدما غسلها وعصرها جيدا ثم رماها على الطاولة الجانبية وقال وهوا يمسحها بعناية ” لا ليس لي أشقاء ”
قال ونظره لازال عليه ” ما الذي يضطرك للعمل ؟ أليس من
جاء معك يومها قريبك ؟ ”
اشتدت حركته وكأنه يفرغ انفعاله في مسح الطاولة وقال ” لا أقارب لي ذاك ابن عم والدتي فقط ”
قال باستغراب ” وماذا عن أقارب والدك ؟ ”
لاذ بالصمت ولم يجب حتى خيل له أنه تجاهل سؤاله ونظره لازال
يراقبه وقد نزل مستندا على ركبتيه يمسح أرجل الطاولة الحديدية وقال ” لا أعرف أحدا منهم ولم أراهم حياتي ”
بقي نظره معلقا به مستغربا , ما هذا ؟ فلا أحد يكون مقطوعا هكذا لا
أقارب له مستحيل !! تابعه بنظره حتى انتهى من تنظيف أرجلها الأربعة
ثم وقف على طوله يعطيه جانبه ورمى المنشفة في الإناء البلاستيكي المليء بالماء والمطهر وقال وهوا ينظف يديه ببعضهما ونظره
عليهما ” أبي من الهازان ”
لتنفتح عينا الجالس خلف طاولته على وسعهما وهمس بصدمة
” من الهازان !! ” نظر له من فوق كتفه وقال ببروده الدائم ” هل ستطردني لأجل هذا ؟ ”
هز رأسه بلا ونظراته لم تتجاوز الصدمة بعد ولا ملامحه أيضا وقال
” وكيف والدك من الهازان وأنت تعيش هنا ؟ وأحد من جاءا معك
يومها كان من كبار القبيلة !! ” حمل الإناء من يده الحديدية وقال وهوا ينتقل به جهة السرير الذي
يستعمل للكشف على المرضى ” هوا من هناك لكنه تركهم بعدما
قتلوا والده وأخوته ودخل الحالك وتزوج والدتي ثم قُتل هنا ولا
أحد يعلم من قتله ” بقي نظره المصدوم يتبعه في كل حركاته وهوا ينظف السرير بالمنشفة
المبللة ولازال عقله لم يستوعب الأمر بعد ( كيف لفتى أن يعيش وسط
قبيلة ليست قبيلته وخاصة في هذه الأوضاع ونحن نزحف على مدن قبائله
وإن استنكرها والده وخرج منها ؟ كيف يعامل الناس هذا الفتى وما درجة تقبلهم له ؟ ألم يفكر والده أنه إن حدث له شيء سيترك خلفه عائلة ستعاني
لأن أبنائه سيعيشون بغير أرضهم وأهلهم ؟ ألهذا السبب يريد أن يعمل ليوفر
علاج والدته ؟ ألهذا السبب أيضا لا يتدخل فيما يجري ولا بكلمة واحدة ؟
بل فهمت الآن لما كان متأكدا أنه لن يفتقده أحد في المدرسة ولن يخبروا أهله أنه لا يذهب لها )
وقف على طوله وتوجهه نحوه وأخذ المنشفة من يده ورماها في الإناء
البلاستيكي فرفع تيم نظره به وقال بجمود ” علمت أن هذا سيكون رد
فعلك , لكني لم أرد أن أكذب عليك ولا أن أتجاهل سؤالك ” وضع يده على كتفه وشد عليه بقوة وقال ” سنغادر الآن معا
لمدرستك يا تيم ”
نظر له مستغربا فتابع ذاك بجدية ” أعلم أنهم لن يقبلوا بعودتك بعد تغيبك
لأيام وموقن من أنهم لن يقبلوا بك في الامتحانات كما أخبرتني سابقا فهيا لأذهب معك واخبرهم أني من طلب أن تأخذ إجازة من المدرسة ”
جمد مكانه ولم يتحرك وقال ناظرا بتركيز لعينيه ” لكني لا أريد
الدراسة , أريد أن أجلب الدواء لوالدتي ”
أمسكه من يده وسحبه معه قائلا ” وعلاج والدتك ستأتي لأخذه من هنا كلما احتاجت وبنفسي سأزورها في منزلكم رغم
أني لا أفعلها مع أحد ”
قال وهوا يتبعه بخطوات راكضة بسبب سحبه له ” لكني لا
أريده دون مقابل , سأعمل وآخذه بمجهودي ” وقف به حيث وصلا للساحة والتفت له وقال بحزم ” حين تكبر كن
هكذا رجلا لا يريد شفقة ولا مساعدة أحد أما الآن فعليك أن تتابع
دراستك يا تيم ولا تدمر مستقبلك , ولن أرضى أن أكون أنا جزءا
من ذلك فهمت ” كان سيتحدث معترضا لكنه صرخ به مزمجرا بصوت جعل الجميع
ينتبه لهما ” لن تعمل هنا يا تيم وفي كل الأحوال قبلت بالعلاج أم لا
ولن أعطيك الدواء مالم ترجع لمدرستك حتى إن أحضرت لي ثمنه ”
أخرسه ذلك تماما ونظراته لازالت معلقة بالواقف فوقه يحجب عنه نور الشمس الساطعة , فهوا على استعداد لفعل أي شيء ولا يتوقف
علاج والدته , ما كان سيقبل بذلك لولا أنه من أجلها ومن أجل صحتها
فهوا تحمل حتى السرقة التي لم يفعلها حياته ولم يتربى عليها وتسلل
لحقول الرمان وأخذ منها من أجلها وكذب على الطبيب بشأن المدرسة والامتحانات وهوا من ربته والدته ومن قبله والده على أن لا يكذب وكل
ذلك من أجلها هي فقط , أنزل نظره أخيرا ليعانق التراب الناعم تحت
قدميه وقال بهمس حزين مكسور ” ليس والدتي , كله إلا هي ”
تنهد الواقف فوقه مغمضا عينيه بقوة قبل أن يفتحهما مجددا وربت على ظهره وقال سائرا به جهة مدخل المقر الواسع المفتوح
” لا تقلق بهذا الشأن يا تيم .. لا تقلق ”
وخرجا معا ولم تنبس شفتا الذي استسلم لما قرره ونظره للأرض صاعدان
من المنحدر الذي نزل منه , ولا السائر بجانبه تحدث أيضا فلازالت نبرة الأسى والحزن التي سمعها منه وهوا يضع والدته فوق كل شيء ترن في
أذنيه فهوا لم يسمع هذه النبرة في صوته أبدا ولم يراه حزينا مثل تلك اللحظة
مستغربا كيف لفتى في الحادية عشرة أن يكون بذاك الصبر والصمت والكتمان
حتى في انفعالاته , هو ليس على استعداد أن يكون ممن يدمرون مستقبله أبدا لن يكون جزءا من تلك العقول الغبية خاصة بعدما علم بقصته وهو موقن من
أنه لو لم يسأله ولم يحرص هو على الصدق معه ما كان تحدث من نفسه أبدا
*
* نظرت لحقيبتها الصغيرة في حجرها وضغطت قبضتها على يدها
الجلدية بقوة ثم رفعت نظرها ونظرت جانبا عبر نافذة السيارة لحقول
الشعير الممتدة التي بدأت الشمس تحول لونها للأصفر الذهبي فبحلول
فصل الصيف تحولت هذه الحقول الخضراء البراقة لصفراء يابسة تعكس لونا ذهبيا تحت الشمس في حركتها المتموجة بسبب نفحات بعض الرياح
القوية , تنفست بتوتر شعرت به بدأ يجتاحها من الآن ونظرت لقفا الجالس
أمامها خلف مقود السيارة يتبادل والجالس بجانبه حديثا لم ينتهي من ساعتين
ونصفه عن تطورات الأمور في البلاد , حديثا سياسيا مزعجا حد الإزعاج بالنسبة لها لكنها تحمد الله فعلا أنهما صادفا هذا الرجل الكبير في السن الذي
يعرفه جبران معرفة تبدوا وطيدة وكانت وجهته كوجهتهم واقترح عليه أن
يوصله في طريقهم وأصر عليه إصرارا كبيرا رغم رفض العجوز المحرج
وهي تعي جيدا أن جبران يبادلها الشعور ذاته وأراد مثلها أن يكون ثمة طرف ثالث في رحلتهما الطويلة , وفي كل الأحوال وحتى إن كانا بمفردهما وجالسة
في الأمام بجانبه هوا أهون عليها من الذهاب مع ابن خالتها وثاب فبالرغم
من أن جبران لم يخفي مشاعره نحوها عن أحد وأنهما يعدان مخطوبين الآن
لم ترى في عينيه النظرات الوقحة الجريئة ولا الكلمات المبهمة السخيفة كما يفعل وثاب خاصة قبل أن يتحدث مع والده عن رغبته بالزواج بها فهي لازالت
ترى في عينيه نظرات ودودة لطيفة وأحيانا متلهفة لكنها ليست كنظرات وثاب
قط فهوا في أفضل حالاته ينظر لها نظرة تكرهها وتشمئز منها وحين يكون
متضايقا من صدها له تصبح نظرته عدائية حارقة تخيفها منه فهوا نوعا ما حاد الطباع كما صرحت شقيقته جليلة مرارا تشتكي منه , بعد ساعة أخرى
من السير الثابت بالسيارة والمستمر دون توقف كانوا عند مدخل بلدة توز
بخضرتها التي لم تغيرها شمس الصيف , فمناطق الجنوب معروفة لديهم
بخضرتها الشبه دائمة فكلما تغلغلت جنوبا كلما تغير مناخ البلاد وطبيعتها فمدنهم الجنوبية تمتاز أكثر بالخضرة وبشدة البرد شتاءا واعتدال مناخها
صيفا ولازالت تذكر حتى الآن زيارتها الوحيدة للعمران قبل أن تأخذها
الهازان منهم حين كانت في العاشرة فتلك البلدة كانت من أجمل مدنهم
غارت عليها الهازان وأخذتها ولم يستطع أحد من صنوان الاعتراض لأن الدول الأخرى وقفت معهم في أنها تشكل تهديدا على الهازان وبالفعل ها قد
أثبت ابن شاهين ذلك حين أخذها منهم لتتساقط المدن بعدها لتحكم عدالة الله
في السماء فكما أخذوها منهم جورا من تسع سنين سلبها ابن شاهين منهم في
ليلة وغيرها معها أيضا , بدأت السيارة بالتغلغل في حقول الأشجار المثمرة المصفوفة وكأنها صفوف جنود يستعدون للحرب , ثم مرورا بأراضي البطيخ
والشمام وعيناها تراقبان كل شبر مما مروا به بعدما نزل الراكب الثالث معهما
عند مدخل البلدة , كان واضحا لها حركة الجنود وكثرة نقاط التفتيش فالجميع
في حالة تأهب وتوجس وهذا ما زاد توتراها أكثر فيما تريد الإقدام عليه لكنها فرصتها الوحيدة وقد تكون الأخيرة فمن يضمن لها ما سيحدث حتى هذا الوقت
من العام المقبل , وهل سينتظرها جبران عاما آخر لتقرر وقت الزواج منه
الذي أبدت موافقتها التامة عليه ولم يبقى سوا تحديد موعد زفافهما وإشاعة الخبر
فإن أضاعت هذه الفرصة لن تجد غيرها ولن ترضى أبدا أن تبني عائلة وتنجب أبناء وهي تجهل نسبها وتجهل عائلتها , وتعلم جيدا ما سيواجهه أبنائها بعدها
وما ستواجهه هي قبلهم في حال انتهى حكم والدها شراع لصنوان فنصف من
يمسكون ألسنهم عنها الآن خوفا من والدها وأبنائه , عليها أن تعلم كيف لامرأة
من الحالك أن تولد والدتها التي كانت تعيش على حدودهم في صنوان ! فلا أحد سيعلم إن لم يصلوا لتلك العجوز ولا أحد يستطيع الوصول لها وهي خلف حدود
الحالك إلا بالطريقة البدائية وهي التسلل خفية في جنح الظلام , مخالفات لم
يستطع أحد معالجتها رغم كل التراكمات والأحقاد والحروب فلازال ثمة من
يتسللون عبر الحدود وزيجات تتم سرا وأبناء يواجهون الصعاب جراء تلك الزيجات الخاطئة , وجل ما تخشاه الشاردة بنظرها في الحقول أن تكون هي
أيضا نتيجة لزواج مماثل وأن يكون والدها من قرية حجور تلك وتزوج سرا
من والدتها ابنة قبيلة غزير في توز وكانت هي نتيجة ذاك الزواج الذي تركها
بأم من غير أب مجهولة النسب والهوية , ليبدأ ذاك السؤال بدوران في رأسها مجددا ( لماذا تزوج والدي شراع من والدتي وحماني لديه إن كانت
والدتي تزوجت سرا بأحد الرجال في الحالك ؟؟ )
عادت بنظرها ليديها الممسكة حقيبتها بقوة , الحقيبة التي حوت ملابس تكفيها
مدة بقائها هنا لأسبوع أو يزيد قليلا حسب مدة زيارة جبران لمقراتهم الجنوبية وهذا أمر استحسنته كثيرا فإن حدث شيء وقت تسللها المتهور ذاك ستضمن أن
تصل له سريعا حال أمسكها أحد جنودهم , أما جانب الحالك فهي تعي جيدا أن
الحرب جهة الشرق تشغلهم أكثر عن حدودهم هنا خاصة وأنهم هنا في صنوان
في هدنة معهم لازالت تمتد لشهر ونيف قبل أن تنتهي ويبحثون معهم السبل لتمديدها أكثر فهي لاحظت أن والدها يسعى بكل جهده هوا وزعماء قبائلهم
لسحب مهادنة جديدة مع ابن شاهين ليقينهم بأنه لا يخرق الهدن أبدا ما لم
يغدر به الطرف الآخر كما حدث مع الهازان , شعرت بتوقف السيارة فجأة
فرفعت رأسها فإذا هم أمام سور عالي بباب كبير علمت فورا أنهما وصلا لوجهتهما الأساسية وهوا منزل جدة جليلة ابنة خالتها وهي جدتها أم والدها
حيث أن والديها من قبيلة غزير كليهما , فتحت الباب حينها في صمت تام
ونزلت تحمل حقيبتها الجلدية متوسطة الحجم وقد وضعتها على كتفها فانفتح
الباب الأمامي أيضا ونزل منه جبران ووقف مقابلا لها وقال في أول حديث يتبادلانه منذ بداية رحلتهما ” ما أن أنتهي من مهمتي سآتي لأخذك
وسأحرص على أن لا أتأخر ”
هزت رأسها بحسنا دون أي تعبير ظاهر على ملامحها وعينيها فلا تريد أن
يرى القلق فيهما وخوفها من أن يحدث شيء ويغضبوا منها جميعا خاصة والدها شراع , قال وهوا يدخل يده في الجيب الداخلي لسترة بذلته
العسكرية ” هل معك نقود ؟ فقد تحتاجين شيئا هنا ”
هزت رأسها بلا وقالت فورا ” معي ما يكفي ويزيد وقد أعطاني
والدي أيضا فاترك مالك لديك يا جبران فأنت أحق به ” أخرج يده فارغة وقال ناظرا لعينيها شديدة السواد والاتساع ” سلمي
لي على خالتك إذا وأخبريها أن ما أوصتني به سيكون لديهم ما أن
أرجع من مهمتي في الحدود فقد تضن أني تأخرت ولن أحضره لها ”
توترت ملامحها بشكل واضح وهربت بنظراتها منه للأرض فلم تتوقع أنه لا يعلم , تمسكت بحقيبتها أكثر وقالت بتردد ” لكن
خالتي ليست هنا ولا يمكنني إيصال رسالتك ”
نظر لها بصدمة مطولا قبل أن يقول ” ومن مع جليلة هنا إذا ؟ ”
قالت بهمس ونظرها لازال في الأرض تحتها ” هي وحدها وجدتها ”
لاذ بصمت مبهم جعلها ترفع رأسها وتنظر لوجهه فورا وقد كان
واضحا لها الضيق وعدم الرضا في ملامحه ونظراته وشكت للحظة
أنه سيرجع بها لمنزلهم فورا فقالت في محاولة لإقناعه ” كما تعلم فخالتي لا أحد لديها سوا جليلة بعد زواج ابنتيها الأكبر منها ولن تستطيعا المجيء
هنا للبقاء شهرا كاملا وتترك زوجها وأبنائها الذكور , وجليلة وبنات أعمامها
يتناوبون على البقاء مع جدتهم وكل شهر تبقى معها واحدة في شهر واحد
في السنة لكل منهن والبلدة هنا آمنة والمنازل محاطة بأسوار عالية والجميع يعرفون بعضهم لما كان والد جليلة وأشقائها تركوها هنا لوحدها مع جدتها ”
كان كل ما قالته حقيقة لم تكذب فيها أبدا لكنها لم ترى اللين في ملامحه ولم
تتغير نظرة عدم الرضا تلك التي ترسلها نظراته لها وقد بدأ أملها في البقاء
يقل تدريجيا فغضنت جبينها مقربة حاجبيها الرقيقان الطويلان من بعضهما في نظرة رجاء بريئة وقالت برقة ” قل شيئا يا جبران ”
تنهد حينها باستسلام محركا رأسه بقوة ثم أمسك وجهها بيديه وقال ناظرا
لعينيها ” لست مقتنعا يا قلب جبران لكن لا يمكنني رفض رغباتك ورؤية
الحزن في عينيك الجميلتين وأنا أعيدك معي للمنزل لما نمتِ الليلة إلا في سريرك هناك ”
ظهرت ابتسامة طفيفة نقية صادقة على شفتيها الزهرية الجميلة
وقالت بهمس ” شكرا لك ”
ركز نظره على عينيها أكثر ولازال ممسكا وجهها الصغير أمام يديه الكبيرتان وقال بجدية ” اعتني بنفسك جيدا يا غسق سأحاول أن آتي في
أقرب وقت فلن يهنئ لي بال وأنتي وابنة خالتك وحدكما هنا مع عجوز
كبيرة لا تتذكر حتى عشائها , فاستمتعي بوقتك فلن أزيدك يوما واحد
وقت عودتي من الحدود الأخرى حسنا ” هزت رأسها بحسنا هزة خفيفة فقبل جبينها وهمس برقة وصوت
رجولي عميق ” كوني بخير حبيبتي أو لن أسامح نفسي أبدا ”
تلقت كلماته تلك كرذاذ مطر قوي على نافذة زجاجية مغلفة وهي تتمنى حقا
أن لا تجعله يندم على إحضارها هنا بنفسه ومعاندته لوالده حتى وافق , ما أن ابتعد عنها وهم بفتح باب السيارة حتى وقف مكانه حين وصله صوتها
قائلة ” ما أن نرجع للمنزل سنتزوج في الأسبوع الذي يليه ”
التفت لها من فوره ورغم أنه سبق وسمع هذا من والده لكن لم يتوقع
الأمر بهذه السرعة , قال مستغربا ” والدي أخبرك ؟ ” هزت رأسها بلا وقالت باستغراب مماثل ” وما دخل والدي بالأمر !! ”
جال بنظره في ملامحها مفكرا قبل أن يقول ” هوا أخبرني من أيام
أنه سيقنعك لنعقد قراننا ما أن أرجع من مهمتي في الحدود ”
بالكاد خرجت منها الكلمات وقالت هامسة بحيرة ” لم يخبرني ؟ ” ابتسم حينها وقال ” إذا لن يكلف نفسه عناء إقناعك وأنا المستفيد
في كل الأحوال ”
نظرت للأسفل من فورها هربا من عينيه وقد اعتلت وجنتيها حمرة شديدة
كم أصبح يعشق رؤيتها , فكبح جماح كل رغباته وجنون قلبه بها وقال وهوا يفتح باب السيارة ويركبها ” هيا لن أغادر قبل أن تدخلي للداخل ”
تحركت حينها بخطوات سريعة وما أن وصلته حتى انفتح الباب من تلقاء
نفسه وخرج منه رأس ابنة خالتها التي قالت مبتسمة ” كلما سمعت
هدير سيارة في الخارج خرجت أضنها أنتي , لقد تأخرتما ” المخرج~
بقلم / الغالية همس الريح
الف باء تاء ثاء مطر يرعد في الارجاء
جيم حاء خاء دال قسم لن نبقي الانذال ذال راء زين سين حرب فرضت منذ سنين
شين صاد ضاد طاء ساصحح كل الاخطاء
ظاء عين غين فاء خير بلادي للشرفاء
قاف كاف لام ميم نصر عزم و تصميم نون هاء واو ياء وطني يمضي للعلياء
علي لسان مطر ..بعد الاجتماع الذي واجه فيه سارقي بلاده و ناهبي ثرواتها
رواية جنون المطر(الجزء الأول ) للكاتبة برد المشاعر
الفصل الرابع
بقلم الغالية : نجـ”ـمـ”ـة المسـ☆ـاء
رَحيقُ الزهورِ ومسـكُ الخواطر .. وروحُ القصيـــدِ بها ألفُ شاعرْ
حنــانٌ ودفءٌ وهمــسٌ وخفقٌ .. وصدقٌ شــــذاهُ مع الدّم سـائرْ
سجايـاً تنامتْ وفيـــكِ أقـــامتْ .. كصرحٍ مجيدٍ تليــــدِ المـــآثــرْ
فخُطّي الحروفَ سلمتي ودمتي .. سناً في دُجانا وقَطراً تنــــاثرْ
فأنتـي الرُقـيُّ وكــلُ رُقِــــيٍّ .. سموتي وكنتي..”برد المشاعرْ”
*****
اليوم أعلنت غضبها من الجميع بعيدة عن الجميع ومستاءة حتى
حينها أن تنظر له كنظرتها لأي رجل آخر غير أشقائها أو
بقلم الغالية : lulu moon
ولم يزينها سوى اهلي ..
فابيx قمري وأخواتي نجومي ..
وزادها بهاء معنى اسمي ..
رحماك رحماك ربي….
لمن شرف في الحياة اعطوني ..
رحماك لأمي….
رحماك لوطني…
رحماك لكل شهداء بلدي …
مع تحياتي الحارة
لولو😘رواية جنون المطر(الجزء الأول ) للكاتبة برد المشاعر
الفصل الخامس
أشكر الأخوات الغاليات الهرة . بنت ليبيا . أم فهد الفهد . دفء المشاعر . همس الأمومة . ابتسامة بغداد . one million. خربشات بقلم واحد . دودي المزيونة . mee4 . شكرا على تشجيعكم لي وأعتذر عن تأخري ,,, والشكر كل الشكر لحبيبتي الغالية لمارا على مجهودها معايا ومعاكم الله لا يحرمنا منها
بقلم الغالية : lulu moon
قال:أحبك يا نور القلب والعيون…
وحياتي دونك أبدا لن تكون…
وله قالت أبدا ستكون..
ليس حبا ولا رغبتها به تكون…
لكن جميل لقلبه العاشق المجنون ..
في مسح الدمع وإعادة إشراقة تلك العيون …
ولألم قلبه يدرك …
وكونها مجبرة؟!أيضا يدرك..
لكن تخيل البعد أمر مقرف …
وبالقرب من ليلها .. الذي عشق منذ كان …
وحرم من رؤياه بأمر المنان…
ها هو يقف هنا الآن …
متجاوزا كل الأعراف والأديان..
ولوجنتاها يحتضن بأمان .. بقربها دوما لقلبه أمان..
وزاد من الجنون أميال…
وأنحنى ع الجبين مودعا كل الآمال ..
وأمله بقلبها الصغير الذي كان ولا يزال … مغرم بهم كأل…
ورسالته على الجبين وصلت .. وأن لقلبه من الراحة أن ينال ..
نظرة الوداع تكفيه ألما .. إذا استدار دونها مودعا كل الآمال…
لحقت به الخطى…
ويا ليتها كالذي بالبعد بقى …
نادته بقلبها المحب:كن لي عونا يا رفيق الدرب …فأنت أخي وهذا ما أحب …
استدار وعتاب عيناه يهفو:أحبك….وغير هذا في قلبي أبدا ما كان …محترم لقلبك وما يحمل من إمتنان ..لكن قلبي عنيد يأبى الإبتعاد بأمان…إذا بأمل في الغد أنا طمعان..
إبتسم بأمل وحنان …
إبتسمت بألم وإمتنان…
وشتان بين موقع الحرف في الكلام ..
فما نصيبك غسق الليل من حرف منان؟!!!!
نقطاع الكهرباء
معناه سحـرٌ حالكٌ ..ولهُ الـقْ..
معناه لونٌ اسودٌ سـدَ الافـقْ..
مامعنى الغسـقْ؟
معناه في قاموسنا ان يتسـقْ..!
كل الجمال معانقاً وهج الشـفقْ..
ما معنى الغسـقْ؟
معناه بوحُ العاشقين بما يجدُ ويُختـلقْ..
وقد يشوبُ عيـونهم بعض الارقْ..
ما معنى الغسـقْ؟
معناهُ شـوقٌ وحنينٌ وقلـقْ..
يغزو فؤاد متيـّم وله اخترقْ..
ما معنى الغسـقْ؟
معناه ان الليل ارخى سترهُ..سادَ الافـقْ..
وان سيرحلُ لا مفـرّ حين ينبلجُ الفلـقْ..
ذاكَ في قاموسـنا معنى الغسـقْ..
رواية جنون المطر(الجزء الأول ) للكاتبة برد المشاعر
الفصل السادس
مدخل~
بقلم الغالية : lulu moon
وبحلة جديدة كالبدرx إنارة
فبعد العاصفة والحصون
ومن قبلها أشباه ضلال و منازل القمر التي سبق أن هلت ..
تأتينا اليوم بالمطر المجنون …
وكم يوجد من تشابه بين جابر العاصفة و مطر المجنون ..
وأحببت غسقها كما أحببت من قبلها قمر المصون ..
ومتشوقه لها كما سبق أن عشقتx كتاباتها بجنون ..
فيا اهلا بالحامل والمحمول …
ولكن برد المشاعر سؤال عن الاسم يبقى سر مكنون.
على الرغم مما تعطي من دفء في الحرف الحنون …
في أسرع وقت كي لا تسوء صحتها أكثر من كل هذا , ضم ساقيه وخبئ وجهه
أقوى من عنادها خاصة في مواجهة عينان لم تناما منذ الفجر وقد أجهدهما
عن بؤسهم عن عشقهم .. واسهبي في وصفهمْ
ف رائدٌ عشق القمــــرْ .. وجميــلةٌ انتـي دررْ
لا تخبريــنا عن اديـــمْ .. ف ليانه عشقت وسيمْ
و سما نزار حبيــبتـي .. والترجـمــانُ أميــرتي
عجزت حروفي يا اياسْ .. احببتكَ حقـاً..أواس!!
حب الطفولةِ يا انيـــنْ .. وقصينا سرق السديـنْ
يكفي غموضا يا مطر .. من انت؟من اي البشر؟رواية جنون المطر(الجزء الأول ) للكاتبة برد المشاعر
الفصل السابع
الفصل السابع
بقلم/ الغالية همس الريح
معذبتي بلا ذنب
حبيبتي بلا امل
فزادني الشوق شوقا
اتراني احلم بك ليلة ؟؟
او اصل اليك حقيقة ؟؟
يا شقيقة شقيقي
******
حلم بقلبي لم يزدني الا صمود
ان تنتهي كل الحروب و تلتغي كل الحدود
ان اعيش في وطن لا تقيده القيود
دفع باب الشرفة ببطء شديد مخرجا رأسه أولا ونظر مبتسما للمتكئة
*
أدارت مقبض النافذة وفتحتها على وسعها لتدخل نسائم بداية الصيف التي
بقلم/ الغالية انجوانا
تتفتح مع نسيم الصباح وتنشر عطرها ….كل يوم
بل كل ساعه لا كل دقيقه ادعوو الله ان تنظري لعيوني
لتري العشق يتلألأ بها لرؤيتك يا ياسمينه قلبي …
انظري لومره واحده فقط انعشي قلبي بابتسامتك
كل ليله اسافر بخيالي لعالم اخر لا حرب ولا دماء ولا احد
انا وانتي فقط نعييش ونتقاسم السعاده …ساعطيك قلبي وروحي
وكلي لك لأرى نظره الطفوله تشع منك …لا اريد ان اعيش بلا قلب فانتي قلبي ولا بلا روح فانت الروح ..اريد ان امسك بك ونحلق ونطيير الى الانهايه الى الاوجود ….انا وانتي فقط …بهماساتك ولمساتك …..بابتسامتك احيا انا فلا حياه بدونك ياياسمينه قلبي ….احبك حيث لا حب بعد وارغبك حيث لا عشق بعد …واعشقك حيث لا حدود لعشقي …كوني لي…….
رواية جنون المطر(الجزء الأول ) للكاتبة برد المشاعر
الفصل الثامن
يسعد مساءكم بكل حب أحبتي
والظلمُ لن يدوم .. وستنجلي الهمومْ
***
ماريّـة الصغيرة .. لا تبكي يا أميرة
واكملي المسيرة .. يا دُرتي المنيرة
***
وانتَ يا جُبرانْ ..لا تبرح المكـانْ
لن تكـون لك .. فاشتري النسيانْ
***
ستنجلي الاسرار .. وتهطلُ الامطارْ
ف بُـح ايا شِراع .. وفجـّر الأخبـارْ
من أرادها سلما حفظنا دمه وماله وعرضه لأنه يعلم أنها لن تكون سلما
هزت رأسها بحيرة ونظرت لعمتها الصامتة طوال الجلسة وكأنها تريد أن
*
*
المستمر عليهم وإن كانوا قد توقفوا حاليا وانشغلوا بجبال أرياح وساكنيها
و سيكون غصة في الحلوق لدي المعتدين بشتي الصور
دعوه و لا تمسكوا ساعده و لا تعدوه بوعد هذر
سئمنا الدعاوي لسلم ذليل و نصف الحلول لدي مؤتمر
رواية جنون المطر(الجزء الأول ) للكاتبة برد المشاعر
الفصل التاسع
الفصل التاسع
عقلي لوطني .. و كل تضحية تهون لاجله
قلبي لوطني ..و كل قطرة دم تنزف عليه
عيني لهب ، فمي شرار
قولي رصاص و فعلي دمار
قلبي خفق ..عقلي وعي
روحي تئن ..كلي وجع
رايي سهام ..غضبي زؤام
قلبي ركام ..حزني حطام
المي سقام .. حبي حسام
رغم الظلام ..اري نور السلام
و انا غسق
حلمي الوحيد .. وطن سعيد
بعد الحروب ..يعلو النشيد
عاش الوطن ..عاش الوطن
عاد الشريد ..
عاد من المشوار القريب الذي وكله به فتفكيره لم يكن في نفسه إن اشتدت