حكايات| سيدة الموت.. الأوكرانية لودميلا بافليشنكو قناصة هددت عرش هتلر

دائمًا ما يحجز التاريخ مساحات في أوراقه لكتابة قصص النجاح خاصة وإذا كان هذا النجاح هو لشخص اختار وقرر ونفذ ما لم يتمكن غيره من تنفيذه وخرج عن المألوف باقتحام مجال جديد او تغيير فكرة سائدة أو تحقيق انتصار غير متوقع أو تقديم فكرة غيرت مسار البشرية أو حتى أقدم على خطوة فكر كثيرون في اتخاذها ولكن لم يكن لديهم جرأة التنفيذ.
فكثيرا ما نقرأ في كتب التاريخ عن أشخاص تمكنوا من تحقيق انتصارات قد يكون منها ما هو متوقع نظرا لامتلاكه إمكانيات تؤهله لحسم المعركة مبكرا لكونه الطرف الأقوى ومنها ما يجب أن تقف أمامه متأملا كيف له أن يصمد أو أن يحقق انتصار بلغة الأرقام بعيد عنه ليكون السر في النهاية مع “لودميلا بافليشنكو”.
تلك السيدة التي تمكنت من تحقيق المعادلة المستحيلة باختيار صعب وقرار مرافق له عزيمة وتنفيذ ابهر الجميع لتفتح لها أبواب التاريخ على مصراعيها لتسجيل حياتها التي تمكنت من خلالها في تغيير فكرة سائدة محققة انتصار غير متوقع بجرأة لم تكن لدى اقوى الأشخاص مقتحمة بذلك حياة الحرب لتتفوق على الرجال لتكون أول قصص النجاح محجوزة باسم “سيدة الموت”.
فبايدي ليست بالرقيقة وأظافر بلا مانيكير وبملابس ليست حريرية بألوان زاهية وبوجه طبيعي بلا مكياج غيرت الأوكرانية “لودميلا بافليشنكو” الصورة الذهنية للمرأة في عصر كان دور كل سيدة فيه هو العناية بجمالها لتقتحم ” لودميلا” مجال دائما ما تخصص للرجال لترتدي البدلة العسكرية بألوانها الزيتية الغامقة معلنة عن أكثر القناصة فتكا في التاريخ لتثير الرعب في قلوب الجنود الألمان وتحقق انتصار الدعاية المكلفة به على الأراضي الأمريكية لتستحق وعن جدارة لقب ” سيدة الموت” بإجمالي 309 حالة قتل مؤكدة في غضون أشهر قليلة.
وشهدت مدينة “بيلايا تسيركوف” إحدى المدن الأوكرانية الكبرى التي تقع جنوب ” كييف” عام 1916 ولادة أنجح قناصة في التاريخ “لودميلا بافليشنكو” والتي عبرت طفولتها عن جزء من مستقبلها بتفضيلاها الشديد لممارسة كافة أنواع الرياضة وخاصة تلك التي يتقنها الرجال حتى أنها كانت دائما ما تنافسهم في مجالاتهم لإثبات نظريتها الخاصة أن السيدات يمكنهن اقتحام اي مجال والتفوق فيه على الرجال حتى تم وصفها بـ ” الفتاة المسترجلة” ولكن ذلك اللقب لم يوقفها يوما بل زادها إصرارا لاقتحام مجال غالبا ما تخصص للرجال.. الرماية وكان السبب هو تباهي أحد الأولاد بقدراته على الرماية ومهارته بحسب موقع “nationalww2museum”.
لتنتقل في عمر الـ 14 مع عائلتها إلى العيش في مدينة ” كييف” وتقرير الالتحاق بفصل الرماية لتحصل على شارة القناصة وشهادة الرماية لتحصل بعدها على وظيفة في مصنع أسلحة محلي ولكن ذلك لم يكن سوى خطوة لإثبات نظريتها أن الفتاة تتمكن من تقديم عمل مخصص للرجال وبجودة افضل لتلحق عام 1937 بجامعة كييف وتتخص في دراسة التاريخ لتكون خطوة هامة في سبيل تحقيق هدفها أن تصبح مدرسة.
وفي وسط انشغالها بدراستها لم تنسى يوما تطوير مهارات الرماية لديها فحصلت على دورات في مدرسة مخصصة للقناصة دون أن تعلم أنها ستحتاج إليها في مشوار دفاعها عن وطنها.
ففي عام 1941 أطلق هتلر عملية غزو الاتحاد السوفيتي والمعروفة باسم “بربروسا” لتكون اولى مراحل الحرب العالمية الثانية وفي فترات الحروب يتحول الشعب إلى جيش كامل يدافع عن وطنه لتكون “لودميلا” صاحبة الـ 24 عام والطالبة في السنة الدراسية الرابعة في الجامعة تخصص تاريخ واحدة من هذا الجيش فبمجرد علمها بالغزو مع سماع دوي صافرات الإنذار شقت طريقها إلى مكتب تجنيد “أوديسا” لتسجيل نفسها ضمن المحاربين.
ورغم رغبتها للاشتراك في الحرب كأحد الجنود إلا أن كاتب السجل ظل يقنعها بأن تنضم ممرضة فهذا هو ما يناسب الفتيات ولكن أمام إصرارها تم ضمها إلى فرقة المشاة السوفييتية بعد أن أثبتت مهاراتها القتالية من خلال إخراج اثنين من المتعاونين الرومانيين لتكون إحدى جنود الجيش الأحمر المدافعين عن الاتحاد السوفيتي.
وتلتحق بعدها إلى فرقة البندقية الـ 25 بالجيش الأحمر لتصبح واحدة من ضمن 2000 قناصة لم ينجو منهم سوى 500 فقط خلال فترة الحرب وظلت “لودميلا” لمدة شهرين ونصف ضمن الخطوط الأمامية للمحاربين خلال حصار “أوديسا” لتسجل 187 حالة قتل ومع كل قتيل يقع من صفوف الأعداء كان ينتابها الشعور الوحيد الذي طالما عشقته وهو لحظة الرضا الكبير الذي يشعر به الصياد الذي قتل وحش مفترس لتحصل على ترقية وتصل إلى رتبة رقيب أول.
وبعد أن سيطر الجيش الروماني على “أوديسا” انسحبت لودميلا ووحدتها إلى “سيفاستوبول” في شبه جزيرة القرم للدفاع عن المدينة ولمدة 8 شهور تمكنت القناصة الأكثر نجاحا من زيادة حصيلة القتلى من بندقيتها رغم القتال العنيف وسقوط الكثير من الضحايا السوفيت ليصل عدد القتلى الذين انتظرتهم بلا حراك في انتظار فرصة إطلاق النار الى 257 قتيل مما أدى إلى ترقيتها مرة أخرى إلى رتبة ملازم أول.
ومع كل تقدم تحققه لودميلا في حصد أرواح الأعداء تزداد مهامها خطورة حتى وصلت إلى مرحلة القنص المضاد في معارك خاصة ومبارزات خضتها مع قناصة العدو لتكون الفائز الأوحد في كل مبارزة بما في ذلك اصعب مبارزة استمرت 3 ايام تمكنت فيهم من ضبط نفسها وقوة إرادتها وتحملها ليقوم العدو بحركة واحدة تمكن من خلالها من القضاء عليه ليصبح واحد من 36 قناص أنهت حياتهم.
وخلال فترة القتال في “سيفاستوبول” أصيبت لودميلا 4 مرات في المعركة لتكون اخطرهم والتي بشرت بنهاية وقتها في القتال شظية في الوجه من قذيفة هاون في يونيو 1942 حسب موقع “sky history” ولأنها أصبحت أحد الأركان الرئيسية في الجيش وذات قيمة كبيرة بعد تسجيلها 309 عملية قتل مؤكدة سحبتها القيادة العليا السوفيتية من المعركة ومن الصفوف الأمامية للحرب حماية لها ولكن بعد أن بثت الرعب في نفوس الجنود الألمان الذين لقبوها بـ”سيدة الموت” فوقوعك أمامها يعني الموت بلا شك.
حتى وصلت سمعتها لكل أطراف الجيش الالماني لتهدد بذلك عرش هتلر القوي واحتمالية فوزه واسطورته ليكون الرد ليس بقتلها فالوصول إليها فشل فيه الجميع ولكن الرد كان بمحاولة رشوتها وصلت إلى حد إرسال رسائل لها عبر مكبرات الصوت الإذاعية تطالبها بالانضمام إلى جيش هتلر وجعلها ضابطا المانيا وبعد فشلهم في إقناعها تحولت الرشاوي إلى تهديدات علنية بتقطيعها إلى 309 قطعة بعدد ضحاياها وتشتيتهم.
ورغم بشاعة التهديد إلا أنه لم يزيدها سوى سعادة فالعدو يعرف بذلك سجلها بدقة لتكون شهرتها سببا كافيا لحصولها على مهمتها الجديدة بعد أن تعافت تماما من إصاباتها حيث منحت لها القيادة السوفيتية دور الدعاية لتكون لودميلا اول مواطن سوفيتي وضمن جيش ستالين الاحمر مرحب به على الأراضي الأمريكية حيث استقبلها الرئيس الأمريكي الأسبق “فرانكلين دي روزفلت” في البيت الأبيض لتكون صديقة بعد ذلك للسيدة الأولى “إليانور روزفلت”.
ففي أواخر عام 1942 وصلت لودميلا والتي أصبحت ملازم سوفيتي عالي الأوسمة إلى الأراضي الأمريكية لتكون ممثلة عن الاتحاد السوفيتي في محاولات الاتحاد لحشد الدعم في فتح جبهة قتال ثانية في أوروبا لتقسيم القوات الألمانية التي كانت تغزو أوروبا الشرقية بسرعة وتتوغل في عمق الأراضي السوفيتية ليتم استقبال القناص الأفضل تاريخيا في البيت الأبيض لتكون أول مواطن سوفيتي مرحب به حتى أنها انضمت الى سيدة أمريكا الأولى في جولتها بالولايات المتحدة بناء على طلب إليانور حتى تتمكن لودميلا من التحدث إلى الأمريكيين عن تجربتها كامرأة في القتال.
وبالفعل ألقت لودميلا العديد من الخطابات في جميع أنحاء امريكا دافعة عن دورها الدعائي في حشد الدعم لمواجهة جيش هتلر وفي وسط انبهار الامريكين الذين تجمعوا لرؤية امرأة صلبة في القتال ترتدي الزي العسكري لم تكن تتخيل لودميلا أن اهتمام الصحافة الأمريكية سيكون عن مظهرها وأسلوبها أو افتقارها إلى الماكياج في إشارة إلى إغفال قوتها وكونها امرأة تعمل في الجيش كقناصة وتخطت الرجال في هذا الأمر بل كانت سببا في رعبهم.
ليكون ردها في خطاب ألقته في ولاية “شيكاغو”لتقول”: أيها السادة أبلغ من العمر 25 عام وقد قتلت حتى الآن 309 من السكان الفاشيين ألا تعتقدون أنك كنت تختبئ وراء ظهري لفترة طويلة؟ ” في إشارة منها لكل رجل حاول التقليل من دورها ليزداد تأييدها الذي تم التعبير عنه بتصفيق حار من كل الحاضرين حتى أنها ألهمت المغنية الأمريكية “وودي جوثري” لكتابة أغنية عنها في عام 1942 بعنوان “الآنسة بافليشنكو” واتمت جولتها للدعاية وحشد الدعم بزيارة كندا وبريطانيا.
وعلى الرغم من كونها اضطرت الانتظار سنتين حتى فتح الحلفاء جبهة ثانية في أوروبا بعملية “أوفرلورد” والتي أعلن من خلالها الحلفاء الحرب على نورماندي كثمرة لجهودها في مجال الدعاية والحشد إلا أنها وفور عودتها إلى الاتحاد السوفيتي بعد انتهاء جولتها تمت ترقيتها إلى رتبة رائد وتم منحها لقب بطل الاتحاد السوفيتي والذي يعد أعلى وسام عسكري في البلاد كما حصلت على وسام لينين مرتين والذي يعتبر أعلى تصنيف مدني في البلاد.
وبانتهاء مهمتها لم تعود لودميلا مرة أخرى للقتال ولكنها اكتفت بتدريب القناصة السوفيت حتى نهاية الحرب في عام 1945 وبعدها واصلت إكمال دراستها في جامعة كييف وأصبحت مؤرخة.
وفي 10 أكتوبر من عام 1974 وعن عمر ناهز الـ 58 عاما ودعت لودميلا أمهر القناصة التاريخيين الحياة نتيجة إصابتها بسكتة دماغية وذلك بعد معاناتها الطويلة من اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب.
ولتظل ذكراها على قيد الحياة ويتذكرها الجميع تم طبع طابعان بريديان سوفيتيان تذكاريان على شرفها الأول في عام 1943 بعد مسيرتها القتالية والثاني في عام 1976 بعد وفاتها لتظل لودميلا سيرة يحفظها التاريخ ضمن قصص النجاح الاستثنائية كانجح قناصة في التاريخ.

source