فيروس كورونا.. عولمة المشاكل والحلول

آثار انتشار فيروس كورونا عالمياً، وما يبدو لحد الآن عجزاً وطنياً ودولياً عن مواجهته، الكثير من التساؤل والقلق بخصوص كفاءة الدولة الوطنية وجدوى منظومة العولمة الدولية.
وقفت نظم صحية وطنية في دولة متماسكة وغنية ومتطورة علمياً عاجزة عن مواجهة هذا الفيروس إلى حد انهيار بعض هذه الأنظمة، فيما اختفى تقريباً دور منظومة التعاون الدولية الحديثة، عبر مؤسسات الأمم المتحدة ومنظماتها، بل أصبحت موضع تشكيك شديد كما هو حال منظمة الصحة الدولية.
ساهمت هذه الأزمة العالمية، التي ما تزال دون أفق واضح للحل، في صعود الشعبوية الوطنية وتمترس الكثير من دعاتها وراء جدران الانكفاء الوطني والتحجج بالعجز الدولي عن إنتاج حلول سريعة وفاعلة حد التشفي أحيانا بهذا العجز، خصوصا في جانبه الأميركي بوصف الولايات المتحدة القوة الأعظم والأغنى في العالم ورائدة العولمة واحد أكبر المستفيدين منها.
في حقيقة الأمر، كشفت أزمة كورونا عن فشل المنظومات الدولية والوطنية في التعاطي مع التحدي الصحي الذي عناه الانتشار السريع  للفيروس وفقر المعرفة العلمية الدقيقة بشأنه.
لكن في آخر المطاف، ستتعافى هذه المنظومات من شدة الصدمة وتجد الحلول المناسبة للمشكلة، الواضح هو أننا لسنا بإزاء عجز بنيوي مزمن، معرفي ومؤسساتي، بل بفشل مؤقت ومُكلف انسانياً واقتصادياً، يمكن تجاوزه بمرور الزمن وتنظيم بذل الجهد لهزيمة هذا الفيروس.
في خلال أشهر امتداد هذه الازمة وغياب الوضوح بشأن كيفية وتوقيت نهايتها، اتخذ التحدي الصحي الذي يمثله فيروس كورونا بعداً ايديولوجيا وسياسياً برز عبر التشكيك بالعولمة والهجوم عليها والدعوة إلى العودة الى الاعتماد الوطني على الذات الذي يُفترض إن صعود العولمة أطاح به، خصوصاً في ظل التراجع الاقتصادي الكبير الذي يشهده العالم بسبب تحول الفيروس الى وباء عالمي ابطّأ كثيرا عجلة الاقتصاد العالمي، خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكي.
في الحقيقة، أثبت تحدي كورونا ضرورة العولمة وأهمية تطويرها وأنسنتها اكثر من أجل تجنب الأخطاء التي قادت إلى الأزمة الحالية. فعندما قررت الصين في لحظة قلق سيادي على السمعة الوطنية الا تشارك العالم ومؤسساته الدولية المعنية كامل المعلومات المتوفرة لديها عن الفيروس، تحول الفيروس بسرعة من مشكلة وطنية صينية كان يمكن احتواءها هناك إلى مشكلة عالمية يعاني منها الجميع و بخسائر أعلى بكثير من الخسائر المحلية الصينية، انسانياً واقتصاديا.
على نحو ما، أظهرت أزمة الفيروس وسرعة انتقاله بين قارات العالم السبع الترابط الإنساني العالمي وتداخل مصائر البشر في كل دولهم الوطنية، سواء في النواحي الصحية أو التعليمية، الاجتماعية او السياسية او الاقتصادية.
لقد كشفت الأزمة عن تشابة عالمي في الهموم والمشاكل، من اختبار حكمة الزعامات السياسية في مواجهة الأزمة والاضطرار لتبني التعليم الإلكتروني، والعناء الاقتصادي المقلق للفئات الأشد فقرا في المجتمع، وإعادة تعريف الصلات الاجتماعية وانتشار العنف الاسري وغيرها، بل وحتى في أساليب السخرية من الفيروس.
من هنا  تبدو هذه الأزمة مثالا إضافيا على العولمة الحتمية للتجربة الإنسانية بكل تنوعاتها الوطنية والفردية التي ينبغي أن تساهم في اتساع مفهوم العولمة وجعله أكثر تعددية وديمقراطية وتعاوناً وإيماناً بالعدالة الاجتماعية.
العولمة كواقع اجتماعي واقتصادي وسياسي برزت تدريجيا من خلال ترتيبات سياسية مؤسساتية في أثناء الحرب العالمية الثانية بين الدول التي تولت محاربة دول المحور المتمثلة بألمانيا وإيطاليا واليابان.
بدأت هذه الترتيبات بما عرف بميثاق الأطلسي في عام 1941 بين الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل. دعا هذا الميثاق إلى إنشاء منظومة دولية مستقرة، بعد نهاية الحرب، تقوم على التعاون الاقتصادي والسياسي ومواجهة العسكريتاريا الوطنية الطامحة بالتوسع الإقليمي.
تلت هذا الميثاق خطوات اخرى على امتداد سنوات الحرب الأهم بينها عقد “مؤتمر الأمم المتحدة حول التعاون الدولي” الذي شارك فيه ستون بلداً في عام 1945في الأشهر الأخيرة من الحرب ونوقشت فيه التفاصيل المرتبطة بتشكيل الأمم المتحدة التي كان افتتاحها الرسمي في أكتوبر ١٩٤٥ بعد نهاية الحرب بشهر.
كانت الافتراضات الفكرية التي قامت عليها هذه الترتيبات والمؤسسات التي تشكلت على أساسها تتمحور حول فكرة راسمالية اساسية تتعلق بمركزية الاقتصاد، واولويته على السياسة والأيديولوجيا، من خلال ترسيخ التجارة وتوسيعها وتبادل منافعها في أطر تعاونية وتنافسية تنظمها قواعد واتفاقات قانونية دولية من أجل صناعة شبكة مصالح مشتركة متنوعة ومتداخلة تربط  البشر ودولهم بخيارات السلام والاستقرار الضروريين للنمو والتبادل الاقتصادي. كان الهدف السياسي من وراء مثل هذه الترتيبات هو إبعاد الأفراد ودولهم عن الانزلاق في دهاليز التعصب القومي والانغلاق الوطني الذي ظهرت اشكاله المتطرفة والعنيفة في تجارب المانيا النازية وايطاليا الفاشية واليابان العسكرية وقادت الى اشعال نيران الحرب العالمية الثانية. رافقت هذه الافتراضات بخصوص الاقتصاد ودوره المفترض في ترسيخ السلم العالمي ترتيبات سياسية وقانونية دولية عبر مؤسسات الأمم المتحدة المختلفة تتولى فض النزاعات بين الدول، أو التخفيف من حدتها في اسوأ الاحوال، وفرض شرعة سلوك عالمية بخصوص الأفعال المقبولة من غير المقبولة في حالات النزاع.

برغم الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي على مدى خمسة عقود وحروب النيابة الكثيرة التي نتجت عنها، استطاعت هذه المنظومة أن تمنع نشوب صراعات مسلحة كبرى وطويلة وعابرة للبلدان على منوال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
سمح هذا الاستقرار النسبي والطويل الأمد باتساع التجارة وتنوع  الفعاليات الاقتصادية وتسارع خطى الاكتشاف التكنولوجي وبالتالي خلق مصالح عامة مشتركة عابرة للحدود الوطنية. كانت نهاية المنظومة الاشتراكية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية عقد التسعينات من القرن الماضي بسبب فشل نموذجها الاقتصادي الذي قام على هيمنة السياسة على الاقتصاد، إعلاناً بصحة افتراضات منظومة العولمة التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية. من هنا شهدت التسعينات فصعوداً، اتساعاً كبيراً ومضطرداً لهذه المنظومة في مساحات وطنية جديدة، لتصبح قيم هذه المنظومة معياراً عالمياً مقبولاًً للسلوك السياسي والاقتصادي الصائب، حتى برغم المظالم البنيوية التي تنطوي عليها هذه المنظومة بانحيازاتها المألوفة لصالح الأغنياء والأقوياء.
مع ذلك استطاعت بُنية العولمة منحَ فرص كثيرة للترقي الاجتماعي والاقتصادي للأفراد والمجاميع، ووفرت إطارا مؤسساتيا أفضل للتعامل مع التحديات العالمية المشتركة، كما في التغير المناخي والحفاظ على السلم الدولي والوقوف بوجه الخروقات المنهجية والواسعة لحقوق الإنسان ومحاربة المجاعة ومكافحة أمراض خطيرة كالإيدز و فيروس ايبولا. جاء فيروس كورونا ليمثل تحدياً جديداً للمؤسسات الصحية التي شيدتها هذه المنظومة، ليس فقط لأن هذه المؤسسات العالمية لم تعمل على نحو جيد، بل أيضاً بسبب هشاشة التعاون الدولي، الذي تشكلت العولمة اصلاً من أجل ترسيخه كواقع حال، في مواجهة هذا الفيروس، فضلاً عن تراخي الدول الوطنية، وعلى رأسها الولايات المتحدة في أخذ التحذيرات الصحية بخصوص احتمالات بروز الوباء الحالي على محمل الجد. كان ارتكاب هذه الأخطاء الفادحة تراجعاً عن قيم العولمة بخصوص التضامن الدولى أمام الأخطار المشتركة، وبالتالي فان فان القضاء على هذا الفيروس يتطلب اعادة التأكيد على قيم التضامن والتعاون العابرة للحدود الوطنية في مواجهة التهديدات الجدية التي لا تفرق بين البلدان ولا بين البشر.