الوسائل المعينة في التربية الناجحة

ما أشبه المربي بالطبيب يحتاج إلى معرفة أحوال من يعالجه؛ ليصف له الدواء، أو العلاج المناسب. والرسول صلى الله عليه وسلم وهو خير من وجه، وربى، وأرشد- كان يجيب كل سائل بما يراه، ناصحاً له، أو رادعاً وزاجراً. فهذا رجلٌ يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم فيه شدة الغضب يسأله: أوصني، يجيبه: ((لا تغضب)) يسأله: أوصني، يجيبه: ((لا تغضب)) فيردد مراراً: أوصني، ويبقى الجواب: ((لا تغضب))[1]. فالحلم دواؤه المناسب. وذاك آخر يعرف منه التأخر عن الصلاة الجماعة يستنصحه، فيجيبه: ((الصلاة على وقتها))[2] مبيناً له أنها من أحب الأعمال إلى الله تعالى. ولعل أفضل الوسائل التي استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته للمؤمنين، هي من أفضل الوسائل التي اعتمدت عليها التربية الحديثة، والتي سبق إليها، ولعل أهمها:

1- القدوة الصالحة في القول والعمل:

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الصالحة، والأسوة الحسنة في كل بر، ومكرمه، وطاعة، يفعل أكثر مما يقول، ويتمثل كل ما يدعو إليه، وكان على خلق عظي يقتدى به:

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب: ٢١)

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: ٤)

يقول لهم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))[3]

((خذوا عني مناسككم))[4]

فإذا حمي الوطيس كان أقرب الناس إلى العدو، يقارع الباطل، ويضحي بالنفس والنفيس.

أما في أمور الدنيا فيريد منهم أن يفيدوا من التجربة، والملاحظة وسنن الله الكونية، ويدرسوا قوانين العلم والحياة؛ ليسعدوا في دنياهم وأخراهم، فيقول لهم: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم))[5].

(2) الطريقة التقريرية:

وهي التعليم والتوجيه المباشر، وتصلح للصغار، مثل: ((يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك))[6].

((يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك. احفظ الله تجده تجاهك. تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة. وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، أو يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف))[7]

(3) الطريقة الاستنتاجية:

وهي البدء بسؤال يسترعي الاهتمام والانتباه؛ لترسيخ الحكم والمطلوب في ذهن السامع. من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً- رضي الله عنه- قاضياً إلى اليمن سأله: ((بم تحكم؟)).

قال: بكتاب الله.

قال: ((فإن لم تجد؟)).

قال: فبسنة رسول الله.

قال: ((فإن لم تجد؟))

قال: أجتهد رأيي، ولا آلو.

فقال صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله))[8]

وفي ذلك إقرار منه eلمعاذ على وجوب الاجتهاد حيث لا نص في القضية، لا في القرآن ولا في السنة؛ على ضوئهما في حدود الأصول العامة.

(4) الطريقة الاستقرائية:

وذلك بالانتقال من الجزئي إلى الكلي، ومن الخاص إلى العام، ومن المعلوم إلى المجهول.

وأمثلته كثيرة، منها:

أن شاباً دخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه بالفاحشة، فهم به الصحابة ليؤدبوه، فنهاهم e، وقال له: ((يا بني! أتريد الفاحشة لأمك؟))

قال: لا.

قال: ((لأختك؟))

قال: لا.

قال: ((وكذلك الناس يا بني! لا يريدونها لأمهاتهم ولا لأخواتهم)). ثم دعا له أن يشرح الله صدره للإسلام، وأن يطهر فرجه من الحرام، فخرج الشاب مقتنعاً بوجوب الالتزام بالفضيلة، والبعد عن كل حرام ورذيلة.

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟))

قالوا: ما منا إلا وماله أحب إليه من مال وارثه.

فقال: ((فإن مالك ما قدمت، وإن مال وارثك ما أخرت))[9]

ولله در الشاعر:

قدم لنفسك زاداً                وأنت مالك مالك من قبل أن تتفانى             ولون حالك حالك ولست تعلم يوماً              أيّ المسالك سالك إمّا لجنّة عدن                أو في المهالك هالك

ومنها حديث: ((أتدرون من المفلس؟))

قالوا: مَن لا درهم له ولا متاع.

فقال صلى الله عليه وسلم: ((المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، (اتهمه بالفاحشة دون بينة)، وأكل مال هذا، فيعطي هذا من حسناته، ويعطي ذاك من حسناته، حتى إذا فرغت حسناته ألقيت عليه سيئاتهم، ثم طرح في النار))[10]

(5) التدرج، وتجنب الطفرات:

فقد جاء أعرابي إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يسأله عما يجب عليه في الإسلام، فأجابه بأركان الإسلام المعروفة، من صلاة للمكتوبة، وأداء الزكاة، وصيام لرمضان، وحج لبيت الله الحرام، فسأله: هل علي غيرها؟ قال: ((لا ، إلا أن تطوع))، فقال: لا أزيد على ذلك ولا أأنقص[11].

لقد اكتفى صلى الله عليه وسلم بذكر المفروض، وطوى ذكر النوافل لئلا ينفره، وهو حديث عهد بالإسلام.

وأغلب ظني أن الأعرابي لم يكتفي بعد ذلك بالفرائض، وإن سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: ((أفلح الأعرابي إن صدق))، بل استزاد منها أن ذاق حلاوتها، وقام بالنوافل مع الفرائض.

والله تعالى أمر الوالد أن يصبر صبراً طويلاً على أسرته، وهو يأمرها بالطاعة والخيرات، وينهاها عن السيئات.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (طه: ١٣٢)

إذ لا يعقل أن يصبح الطفل تقياً، نقياً، صفياً، ولياً في يوم، أو شهر، بل لا بد من زمن كافٍ لتربيته، واقتناعه، وتنفيذه لما يؤمر به، وتدربه عليه كي يجب ذلك، ويألفه، ويثابر عليه دون انقطاع.

أما تحمله فوق طاقته، وتكليفه بما يعجز عنه فهماً، وحفظاً، وتنفيذاً، فإن ذلك مما يؤذيه، وينفره، فينحرف.

(6) التربية غير المباشرة:

فقد رأى صلى الله عليه وسلم أبا أمامة في المسجد في غير وقت صلاة، فسأله: ((مالي أراك في المسجد؟)) فقال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله.

وكأني بالرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يقول له: وهل يذهب جلوسك في المسجد في غير وقت الصلاة همومك، أو يقضي دينك؟ ومن الكسل، والخمول، والجبن، والعجز، تسد به دينك فينفرج همك.

ولو قال له ذلك لنفره، وجرح شعوره، ولكنه قال له: ((يا أبا أمامة! ألا أدلك على شيء إذا قلته أذهب الله به همك، وقضى دينك؟)).

قال: بلى يا رسول الله!

قال: ((قل صباحَ مساء: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن، والبخل، وغلبة الدين، وقهر الرجال))[12]

ففهم أبو أمامة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى البحث عن عمل بطريقة غير مباشرة انطوت في دعاء جميل يدعو به ربه، فسارع أبو أمامة إلى أن كسب من عرق جبينه، وكد يمينه كما حدثنا، فرزقه الله تعالى من ذلك رزقاً قضى به ديونه، وعاش مكتفياً مسروراً، لا يحتاج أن يسأل أعطوه، أو منعوه.

(7) التربية العملية:

فقد جاء شابٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله مالاً، فرأى فيه فتوة، وشباباً، وقوة، فلم يعطه شيئاً، وإنما قال له: ((أعندك شيء تستغني عنه؟))

قال: نعم، كأس وبساط.

قال: ((ائتني بهما)).

فأحضرهما، فباعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة بدرهمين، وأعطى الدرهمين للشاب، وقال له: ((اذهب واشتر حبلاً وفأساً، وتعال إليَّ)).

ففعل الشاب، فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم الفأس بالعصا الخشبية، وقال: ((اذهب واحتطب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً))

ففعل الشاب، وعاد وقد وفر خمسة عشر درهماً، فقال له e- وقد لمس الشاب ثمرة العمل بيديه-: ((هذا خير لك من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك))[13].

كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أفضل الكسب كسب داود، كان يأكل من عمل يده))[14]

(8) حسن التصرف قولاً وعملاً:

من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما وصل المدينة المنورة مهاجراً، كان كلُّ من فيها من المسلمين يتمنى أن ينال شرف نزوله في داره، ولو اختار أحداً منهم لوجد البقية في نفوسهم، فقال مشيراً إلى ناقته: ((دعوها فإنها مأمورة))[15] فبركت الناقة أمام بيت أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه- فنزل ضيفاً عنده، ريثما يجد له بيتاً يسكنه، ورضي الجميع.

ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه مرة عن أناس يدخلون الجنة بغير حساب، وذكر صفاتهم التي تميزهم عن غيرهم، فقال له رجل- يقال له عكاشة-: ادع الله لي أن أكون منهم يا رسول الله!

فقال: ((أنت منهم يا عكاشة))

فقام آخر يطلب مثل ذلك، فقال له: ((سبقك بها عكاشة))[16]

وفي جوابه بالغة أرضت السائل، ومنعت غيره أن يسأل كما سأل عكاشة. ولو أجاب الثاني لسأل الجميع مثل سؤاله، وقد يكون فيهم من لا يستحق ذلك، فيقع الحرج، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم مقنعاً، ومانعاً للحرج.

ولما قدم أبو سفيان إلى المدينة يستطلع الخبر بعد غذر قريش وإساءتهم لصلح الحديبية وشروطه، لم تحسن ابنته أمُّ حبيبة وفادته، غيرةً منها على الإسلام ورسوله، فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تحسن إلى أبيها، وتكرم مجلسه ووفادته، فأدرك أبو سفيان أنه eلا يحقد، ولا يسيء، ولا ينتقم لنفسه. وهي من صفات النبوة.

وفي ذلك دعوة إلى الإحسان بالوالدين ولو كانا على كفر أو ضلال، مع نصحهما، وتذكيرهما بالحق بحلم، وأدبٍ، ورفق.

فكم من والد اهتدى على يد ولده البار الصالح المحسن! وكم من والدة اهتدت على يد ولدها أو ابنتها! حين تتوفر الحكمة عند الأولاد الصالحين في نصح آبائهم الضالين.

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة: ٢٦٩)

والله تعالى دعا إلى الإحسان بالوالدين ولو كانا مشركين، فقال:

(وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان: ١٥)


[1] رواه أحمد (5/34و372)

[2]  رواه أحمد (1/409-410) والبخاري في التوحيد (7534) مسلم في الإيمان (85)

[3] رواه أحمد (3/436) والبخاري والأذان (631) ومسلم في المساجد(674)

رواه أحمد (3/318) والنسائي في المناسك (5/270)[4]

[5] رواه مسلم في الفضائل (2363)

[6] رواه البخاري في الأطعمة (5376) ومسلم في الأشربة (2022)

[7] رواه الترمذي في صفة القيامة (2516)

[8] رواه أحمد (5/230) وأبو داود في الأقضية (3592) والترمذي في الأحكام (1327)

((لا آلو)): لا أقصر في الاجتهاد، ولا أترك بلوغ الوسع فيه.

[9] رواه أحمد (1/382) والبخاري في الرقاق (6442) والنسائي (6/237-238)

((ما قدمت)): أي في حياتك. ((ما أخرت)): أي بعد موتك.

[10] رواه أحمد (2/303و 334) ومسلم في البر والصلة (2581) والترمذي في صفة القيامة (2418)

[11] رواه أحمد (1/162) والبخاري في الإيمان (46) ومسلم الإيمان (11)

[12] رواه أبو داود في الصلاة (1555)

[13] رواه أبو داود في الزكاة (1641) وابن ماجه في التجارات (2198)

[14] رواه البخاري في البيوع (2072و 2073)

[15] ذكر ابن هشام في السيرة النبوية (2/140)والذهبي في تاريخ الإسلام، السيرة النبوية (ص:330)

[16] رواه أحمد (1/403و454)وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (9/304) وعزاه ابن القيم في حادي الأرواح (ص: 188) لأحمد بن منيع في مسنده، وقال: إسناده على شرط مسلم.