حرب روسيا على أوكرانيا وانعكاساتها على تركيا والعالم العربي (2/1)

by نهال عنبر
8 minutes read

0
(0)

تعد حرب روسيا على أوكرانيا إحدى أكبر الأزمات التي تعيشها القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، والتي ستكون لها حتما انعكاسات متعددة الأوجه على النظام العالمي برمته نتيجة المسار الذي اتخذته أبعاد الحرب والتوترات التي أعقبتها وطبيعة القوى الفاعلة في صياغة ملامحها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ذلك أن شظايا الحرب ومخلفاتها والعقوبات التي طالت روسيا بما يشبه “قنبلة نووية” اقتصادية ستنعكس آثارها وتتطاير شظاياها لتمس بشكل أو بآخر المنطقة العربية التي تتقاطع مصالح دولها مع الجانبين الروسي والأوكراني.
والأمر نفسه مع تركيا التي تربطها شراكات متعددة ومصالح متشابكة مع طرفي النزاع، أي روسيا وأوكرانيا من جهة، ثم باعتبارها عضوة في حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO)، مما يجعل الحرب الراهنة محملة بعدة انعكاسات مباشرة على تركيا والعالم العربي، وأخرى بعيدة المدى نظرا لمخلفاتها على النظام الدولي.
إن تركيا بالنظر لجغرافيتها السياسية تعد إحدى أهم القوى الإقليمية التي قد تستهدفها ارتدادات الحرب المشتعلة، لطبيعة مصالحها المتشابكة مع روسيا وأوكرانيا من جهة، ثم باعتبارها عضوة في الناتو، بالإضافة إلى طبيعة العلاقات التاريخية والثقافية التي تجمعها مع دول البلقان والقوقاز، والتي تعد بعضها ضمن المجال الحيوي التركي
حملت حرب روسيا على أوكرانيا في الواقع جملة من التحديات الراهنة على مستوى العالم، خاصة في أوروبا، ومن ضمنها جغرافيا تركيا التي تعد جسرا بين قارتين، ذلك أن هذه الحرب قد وضعت دولا أوروبية وغربية كبرى أمام معضلة لم تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية، مما جعلها تحدث تغييرا جذريا في عقيدتها العسكرية، مثل ألمانيا التي ضخت 100 مليار يورو و2% من الناتج المحلي الإجمالي، أو تتجه إلى إعادة الاهتمام بقطاع الدفاع كما تقدم بذلك الرئيس الفرنسي هذا الأسبوع.
والأبعد من ذلك ما يمكن أن يحدثه إذكاء نزوع ظل مضمرا بفعل التسويات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية واستمرت مع النظام العالمي الذي أعقبها، وهي نزوعات ستجعل أوروبا والعالم برمته في وضع يختلف جذريا عن وضع ما قبل حرب روسيا على أوكرانيا.
نقول إنه إذا كانت الدول الأوروبية استشعرت الخطر والتهديد من الحرب الراهنة التي قد تنتج حروبا كبرى في المستقبل إذا نتج عنها اختلال في ميزان القوة فإن تركيا بالنظر لجغرافيتها السياسية تعد إحدى أهم القوى الإقليمية التي قد تستهدفها ارتدادات الحرب المشتعلة، لطبيعة مصالحها المتشابكة مع روسيا وأوكرانيا من جهة، ثم باعتبارها عضوة في الناتو، بالإضافة إلى طبيعة العلاقات التاريخية والثقافية التي تجمعها مع دول البلقان والقوقاز، والتي تعد بعضها ضمن المجال الحيوي التركي.
لا شك أن عوامل التأثر ستكون متعددة وبالغة على تركيا، مما استدعى منها التمسك بالحذر  في موقفها من الأزمة الجارية، فهي بمقدار إدانتها الحرب الروسية ومطالبة الرئيس التركي الناتو باتخاذ موقف أكثر حزما من الحرب الروسية ودعمها المسبق لأوكرانيا بالطائرات المسيرة -التي أثبتت نجاعتها في تحرير إقليم قره باغ بأذربيجان وصد الهجوم على طرابلس في ليبيا- مما جعلها تغير طبيعة الصراع من مسلح إلى سياسي في مناطق تشهد حضورا روسيا فإنها لم تنهج موقفا عدائيا ضد روسيا بخصوص العقوبات الاقتصادية والتضييق في حركة الملاحة الجوية.
لقد عمدت تركيا من خلال موقفها الرافض -الذي تدين فيه حرب روسيا على أوكرانيا من جهة وتحجم عن التصعيد على خطى دول غربية- إلى ضمان حالة من التوازن ترعى من خلالها مصالحها، ثم من جانب آخر إمكان القيام بدور الوساطة المستقبلية بين طرفي النزاع، وهو النزاع الذي تجد تركيا نفسها معنية به بشكل مباشر بحكم الجغرافيا، إذ إن تعقد الوضع قد يؤدي بالطرفين إلى التماس الخشن في المستقبل، سواء في البحر الأسود الذي عملت روسيا في السنوات الأخيرة على تكثيف حضورها الفاعل والقوي فيه منذ تدخلها العسكري في جورجيا سنة 2008، وفي كل من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ثم لاحقا سيطرتها على شبه جزيرة القرم سنة 2014 وإلحاقها بروسيا.
ولم تختلف إستراتيجية موسكو في إقليمي لوغانسك ودونيتسك عن إستراتيجيتها بخصوص أبخازيا، وفي كل الخطوات التي أقدمت عليها روسيا كانت تجد معارضة ورفضا من المجتمع الدولي والقوى الإقليمية، ومن أهمها تركيا، لكن طبيعة التوسع الذي يستبطنه التفكير السياسي لبوتين من خلال زرع كيانات موالية بداعي القومية الروسية أو تخوفات الأمن القومي على دول الاتحاد السوفياتي السابقة قد تؤدي في حقيقة الأمر إلى صياغة طبيعة صراع المصالح في البحر الأسود ومنطقة القوقاز والبلقان، مما يشكل تحديا مستقبليا لتركيا ودول أوروبا الشرقية.
إنه ليس خافيا أن منطقة القوقاز يُدار فيها صراع خفي بين تركيا وروسيا، وهو ما يجعل الموقف التركي في الحرب الراهنة متأرجحا بين الإدانة والإحجام عن التصعيد، بحيث تشكل حرب روسيا على أوكرانيا وإمكانية تغيير نظام الحكم فيها إضرارا بالشراكة الإستراتيجية التي تجمع بين كييف وأنقرة سيؤدي إلى إعادة رسم معادلات الصراع في المنطقة، مما ينتج عنه التضييق على تركيا في البحر الأسود في ما يخص الغاز المكتشف الذي تترقب تركيا أن يخفف عنها بعضا من تكلفة الاستيراد.
وأبعد من ذلك إمكانية طرح اتفاقية مونترو للمناقشة، والتي تمنح تركيا التحكم في مضيقي البوسفور والدردنيل، بالإضافة إلى محاور أخرى يتداخل فيها الصراع في مناطق تشكل امتدادا لروسيا وتركيا معا، سواء من الناحية التاريخية أو الثقافية أو الاقتصادية، من دول البلقان إلى القوقاز والشرق الأوسط.
إن استمرار المقاومة الأوكرانية أو النزوع إلى خيار التسوية عبر المفاوضات الذي تحتفظ فيه تركيا بدور محوري لطبيعة العلاقة بين نظامي كل من تركيا وروسيا من جهة، ثم بين أوكرانيا وتركيا من جهة أخرى قد تكون فيه حماية للمصالح الأوروبية والتركية على السواء، وغير ذلك يعني إمكانية التماس المباشر  في المستقبل بين تركيا وروسيا، وهو ما ينبغي تجنبه في اللحظة الراهنة لتكلفته، حيث إن عنصر القوة الذي نهجته روسيا بوتين مؤخرا لإعادة رسم خريطة الأمن القومي بأوروبا يحتفظ لروسيا بالفارق والتفوق باعتبارها إحدى الدول المؤثرة في مجلس الأمن الدولي ومن القوى العسكرية الكبرى عالميا.
كما أن موقف الناتو قد يختلف من جهة الدعم لتركيا، وتحتفظ ذاكرة الاحتكاك المباشر في شمال سوريا سنة 2015 حين تم إسقاط الطائرة الروسية من طرف الجيش التركي بتردد في موقف الناتو من دعم تركيا، والذي يغذيه السجال الكلامي بينها وبين والغرب، ثم الدور المحدود لتركيا الذي يراد لها القيام به في المنطقة.
أما بالنسبة للضرر الذي يمكن أن يلحق تركيا من الجانب الأوكراني فإن أوكرانيا قد أضحت قبلة لتركيا في استيراد وتصدير المنتجات الزراعية، كما أن تركيا تعد الوجهة المفضلة للسياح الأوكرانيين، حيث بلغ عددهم حوالي مليوني سائح في السنة الماضية، وفي وضع الحرب فإن مشكلة الأمن الغذائي ستتفاقم ومعها قطاع السياحة
عملت تركيا على تنويع شراكتها مع روسيا على الرغم من تباين المصالح بينهما في سوريا وليبيا ومنطقة القوقاز والبلقان، وتبرز أرقام الشراكة الاقتصادية في الطاقة والمنتوجات الزراعية والعسكرية بالإضافة إلى السياحة طبيعة التبادل الحاصل بين تركيا وروسيا، فقد بلغت قيمة المواد الزراعية التي تستوردها تركيا حوالي 4.5 مليارات دولار في السنة الماضية مقابل صادرات بلغت قيمتها 1.5 مليار دولار.
وفي مجال السياحة بلغ عدد السياح الروس الذين زاروا تركيا سنة 2021 حوالي 30 مليون سائح، وفي سياق الأزمة التي شهدتها الليرة وما ترتب عليها على المستوى الاقتصادي بخصوص التضخم فإنه ستكون للحرب مضاعفات بفعل عزل روسيا عن النظام المالي العالمي “سويفت”، وتضرر قطاع السياحة وارتفاع أسعار الطاقة على المستوى العالمي.
أما بالنسبة للضرر الذي يمكن أن يلحق تركيا من الجانب الأوكراني فإن أوكرانيا قد أضحت قبلة لتركيا في استيراد وتصدير المنتجات الزراعية، كما أن تركيا تعد الوجهة المفضلة للسياح الأوكرانيين، حيث بلغ عددهم حوالي مليوني سائح في السنة الماضية، وفي وضع الحرب فإن مشكلة الأمن الغذائي ستتفاقم ومعها قطاع السياحة، ليس في تركيا وحدها، وإنما في مختلف الدول التي لم تحقق اكتفاءها الذاتي في هذا المجال.
لا يتوقف الضرر على المستوى الاقتصادي، إذ إن أبعاد الشراكة الأوكرانية التركية كانت واعدة لتركيا للخروج من بين كماشتي روسيا من جهة، ومن جهة أخرى بعد إبعادها من المشاركة في صناعة الطائرة “إف-35” (F-35) عقب اقتنائها منظومة الصواريخ “إس-400” (S-400) من موسكو، وتتجلى أهمية الشراكة مع أوكرانيا بالنظر إلى الأهمية التي تحظى بها بفعل إرثها السوفياتي المحوري في صناعة الطائرات والتقنية التي تمتلكها في هذا الجانب، والتي كانت ستكون مفيدة لتركيا في المستقبل لحل معضلة المحركات التوربينية ومحركات الديزل.
لذلك، فإن الحرب الراهنة ستؤثر سلبا على التحالف العلمي الذي نشأ بين البلدين في الصناعة العسكرية والفضاء، بالإضافة إلى تأثيرها الجيوسياسي والاقتصادي، ومعلوم أن أحد الأبعاد الرئيسية للقوة -التي تنسحب على كل المجالات- يتمثل في العلوم والتكنولوجيا، وبدون استقلال علمي وحيازة أسرار التكنولوجيات الحديثة فإن جوانب التقدم الأخرى تبقى قاصرة، كما أن الاستقلال في أبعاده السياسية والحضارية يبقى ناقصا، ولعل ما نشهده الآن من تفعيل روسيا القوة الخشنة بداعي حماية الأمن القومي ما كان ليتم لولا حيازة تكنولوجيا عسكرية متطورة رغم التخلف على المستوى الاقتصادي مقارنة بدول أوروبية صغيرة.
ختاما، إن التغييرات الجيوسياسية والاقتصادية التي تحملها الحرب الروسية على أوكرانيا بمقدار ما تحمل من انعكاسات سلبية على تركيا ودول المنطقة فإنها في الآن ذاته وفي ظل عزل روسيا اقتصاديا مما سيؤثر عليها سلبا على المدى المتوسط والبعيد قد تجعل تركيا ودولا أخرى منفذا لها لتجنب التبعات المباشرة لإستراتيجية الردع الاقتصادي، ولا سيما أن للبلدين تجارب سابقة في التعامل بالعملة المحلية في المبادلات التجارية والاقتصادية لتجنب تبعات العقوبات.
أما من الناحية السياسية والأدوار التي يمكن أن تضطلع بها تركيا في الحرب الدائرة فإن الموقف المتوازن الذي تنهجه بعيدا عن الاستعداء الشامل أو الانحياز الكلي سيجنبها المواجهة المباشرة بسبب التداخلات الحاصلة في أكثر من بلد في جغرافيا المنطقة منذ الفترة العثمانية، كما يجعلها وسيطا فاعلا في التسويات المنتظرة.
ومن ناحية أخرى، فإن الحرب الراهنة ونظرا لتكلفتها الاقتصادية على العديد من الدول -وفي مقدمتها روسيا التي ستحتاج عقودا للتعافي من تبعاتها المادية والقانونية بسبب خرقها القانون الدولي- ستفتح أفقا للقوى الإقليمية بالقيام بأدوار فاعلة في صياغة معالم التكتلات المستقبلية من أجل ضمان حماية لها من داخل تلك التكتلات والأحلاف.
وعن تركيا نشير إلى موقعها في حلف الناتو، هذا إذا لم تتطور الحرب الدائرة إلى مواجهة شاملة عالميا نتيجة أخطاء في التقديرات تعيد صياغة قواعد جديدة للنظام العالمي برمته، والحروب الكبرى عادة هي نتاج اختلالات وحروب صغرى لم تنتج عنها تسويات مرضية للأطراف المتصارعة، أو جنوح المستبدين إلى عقيدة توسعية تتغذى من أركيولوجيا التاريخ وتعصب الهويات ونزعتها الشمولية والتوسل بالقوة المدمرة.
:تابع الجزيرة مباشر على

source

Loading

ما مدى تقيمك ؟

انقر على نجمة لتقييم ذلك!

متوسط التقييم 0 / 5. عدد الأصوات: 0

لا أصوات حتى الآن! كن أول من يقيم هذه الرواية.

كما وجدت هذه الروايه جيده ومفيده ...

تابعونا على وسائل التواصل الاجتماعي!

هل تبحث عن المزيد؟

Leave a Comment

اهلا وسهلا بحضراتكم