ما زالت ذكرى ذلك البحار العجوز الذي أتى نزلنا حية في ذاكرتي وكأنما أحداثها جرت بالأمس القريب. كان طويلًا، قويًا، ذا ضفيرة سوداء تتدلى فوق ظهره، ويدين ضخمتين خشنتين. وكان على خده الأيسر علامة بارزة هي أثر جرح عميق وقديم. ذلك الرجل، واسمه بلي بونز، لم يكن يكلم أحدًا من البحارة الذين يقصدون النزل، وقد اعتاد أن يدفع لي شهريًا قطعة نقدية لأراقب القادمين وأحذره إذا رأيت بحارًا ذا ساق واحدة.
كان أبي في ذلك الوقت عليلًا، فتوليت أمر العناية بشؤون بلي بونز. وقد أهمل البحار العجوز صحته إهمالًا شديدًا، ولم يستمع إلى نصائح الدكتور لفسي الطبية، وسرعان ما وجد نفسه مرميًا في سريره، واهنًا، لا حول له ولا قوة.
قصة القرصان القبطان فلنت
حدثني وهو على تلك الحال عن حياته، فعرفت منه أنه كان معاونًا للقرصان المشهور القبطان فلنت. وعندما أحس فلنت بقرب أجله، أعطاه خريطة للموقع الذي دفن فيه كنوزه. ومنذ ذلك اليوم، بدأ بحارة القبطان فلنت بملاحقة بلي بونز لانتزاع الخريطة منه.
في عصر يوم شديد البرودة، أتى النزل بحار عجوز أعمى يُدعى نيو الشرير. وقبل أن يترك النزل، مد يده وترك شيئًا في يد بلي بونز. رأيت بلي ينظر إلى ما في يده برعب شديد. صاح بانفعال: “اللطخة السوداء! يا جم، إنها الكنز. اللطخة السوداء تعني أن بحارة القبطان فلنت قادمون ليأخذوا مني خريطتي. سيقتلونني يا جم!”
وفاة بلي بونز
كان بلي يرتجف ويشهق أثناء حديثه، وكأن الصدمة كانت أكبر من أن يحتملها، فقد قفز قفزة متشنجة وسقط على الأرض ميتًا. مات بلي بونز دون أن يدفع لنا الحساب. بحثت في صندوقه فوجدت مالًا أخذت منه ما يفي بدينه علينا، كما وجدت رزمة من الأوراق خشيت أن تعبث بها الأيدي، فأخفيتها في مكان آمن.
الهجوم على النزل
في تلك الليلة، هاجمت جماعة من البحارة الأشرار نزلنا. هربت أنا وأمي إلى الخارج واختبأنا في مكان قريب، ورأينا المهاجمين ينبشون صندوق بلي بونز. وعندما لم يجدوا ما كانوا يبحثون عنه، أصابهم هياج شديد وراحوا يصرخون ويشتمون. أدركت حينها أنهم كانوا يسعون وراء رزمة الأوراق التي أخذتها من الصندوق.
الاستعداد للرحلة
ذهبت إلى الدكتور لفسي والعمدة ترلوني وأخبرتهما بالقصة كلها. وعندما فتحنا الرزمة وجدنا خريطة الكنز. صاح السيد ترلوني: “كان القبطان فلنت أشد القراصنة تعطشًا للدماء. سأجهز سفينة، وسآخذك معي يا دكتور، وأنت أيضًا يا جم هوكنز، وسآخذ بعض رجالي. سيكون الكنز لنا!”
وهكذا، اشترى العمدة ترلوني سفينة “الإسبنيولا” وجهزها للرحلة. كان يحتاج إلى بحارة قديرين، فاختار للطباخ بحارًا ذا ساق واحدة يُدعى جون سلفر. كان هذا الطباخ ذا منفعة كبيرة، إذ تمكن من جمع عدد من البحارة الأشداء. وما هي إلا أسابيع قليلة حتى كانت الإسبنيولا جاهزة للإبحار.
الرحلة على متن السفينة الإسبنيولا
أبحرت السفينة تحت إمرة القبطان سمولت، وعملت أنا بحارًا مبتدئًا. أعجبت بقدرة موجه الدفة داود هاندز، كما أعجبت بمهارة لونغ جون سلفر في إعداد المآكل الشهية. كان سلفر يربط عكازه بحبل ويعلقه حول عنقه، ويسند ظهره إلى عمود ويشرع في عمله مستخدمًا كلتا يديه بحرية، كمن يجلس آمنًا مطمئنًا فوق اليابسة. كنا جميعًا نعمل بنشاط ورضى، وكثيرًا ما كنت أسمع البحارة يغنون أثناء عملهم أغنية تعلمتها من بلي بونز. تقول الأغنية:
“لا تفتح صندوق القرصان
أمست تسكنه الأرواح
يملاه اللؤلؤ والمرجان
لكن تسكنه الأرواح”
كنت أقضي كثيرًا من أوقات فراغي في مطبخ سلفر، حيث كان ببغاؤه يتأرجح في القفص ولا يكف عن الصياح طوال النهار مرددًا: “تسكنه الأرواح! تسكنه الأرواح!” وكان سلفر حلو المعشر، ذا قصص آسرة عن أسفاره ومغامراته، وله شخصية قوية أحبها البحارة واحترموه، ونظروا إليه كقائد.
اكتشاف المؤامرة
كنا قد ملأنا برميلًا بالتفاح ووضعناه على ظهر السفينة ليكون في متناول البحارة. في مساء أحد الأيام، ذهبت إلى البرميل لأكل تفاحة، ولما وجدته شبه خاوٍ، نزلت إلى قاعه لأتناول واحدة. كنت متعبًا، فاستسلمت لتموجات البحر وجلست هادئًا مسترخيًا، وغفوت. فجأة، أحسست برجل يستند إلى البرميل، وسمعته يتحدث بصوت خافت. لم أصدق ما تناهى إلى مسامعي من كلمات، وظننت أني أحلم. ثم، لما تبين لي ما يُقال، أحسست بالدم يتجمد في عروقي. كان داود هاندز وسلفر يخططان للاستيلاء على السفينة حالما يعثرون على الكنز، وقتل القبطان وكل من لا يرضخ لهم!
فجأة، سُمع صوت من أعلى السارية يصيح: “البر! وصلنا البر!” فتراكض الرجال من كل صوب لإلقاء نظرة. فاغتنمت الفرصة وقفزت خارجًا من البرميل واندسست بين الرجال المتحمسين. كان القبطان سمولت يتحدث إلى البحارة عن تلك الجزيرة. وسمعت لونغ جون سلفر يقول إنه يعرف هذا المكان من قبل، إذ رست سفينته فيه للتزود بالماء. نظرت إلى وجهه الباسم، فدبت القشعريرة في جسدي؛ إذ أعلم الآن أن سلفر ليس مجرد طباخ مرح، بل هو أيضًا قرصان متعطش للدماء!
التخطيط للمواجهة
حالما تمكنت من الانسحاب بعيدًا عن الجماعة، أسرعت وأخبرت القبطان وصديقي العمدة والطبيب بما سمعت. رأوا أنه لا خوف علينا قبل العثور على الكنز. كان القراصنة تسعة عشر رجلًا، أما نحن فكنا سبعة فقط. خططنا لأخذهم على حين غرة عندما نتم استعداداتنا، وأملنا أن يساعد ذلك في التغلب عليهم.
الوصول إلى الجزيرة
وصلنا الشاطئ، فبدت الجزيرة مهجورة قائمة بأشجار كثيفة. كانت أطرافها مغطاة بالأشجار، وفوقها بدت صخور ناتئة. كرهت تلك الجزيرة رغم شمسها اللطيفة الدافئة وطيورها المغرّدة. رست السفينة في خليج صغير تتدلى فوقه أغصان الأشجار. كان الهواء ساخنًا ساكنًا، والبحارة متوترين ومهمهمين. أذن لهم القبطان سمولت بالنزول إلى الشاطئ، فرفع ذلك من معنوياتهم. كان أولئك الحمقى يعتقدون أن أقدامهم ستتعثر بالكنز لحظة نزولهم إلى البر.
عين لونغ جون سلفر مسؤولًا عن القاربين اللذين توجها إلى الشاطئ وفيهما ثلاثة عشر رجلًا. كنت أعلم أنهم لن يحتاجوا إليّ فوق السفينة، فقررت أن أتوجه، أنا أيضًا، إلى الشاطئ.
مشهد القتل في الغابة
دخلت الغابة مستمتعًا بوحدتي وحريتي، وفجأة سمعت أصواتًا، فاختبأت بين الشجيرات وأخذت أراقب وأنصت. رأيت سلفر وهو ينهر أحد البحارة، آمرًا إياه بالانضمام إلى القراصنة. بدا الغضب الشديد على وجه البحار، وأدار ظهره ومشى بعيدًا. لكن سلفر لم يتردد، فاستل خنجره وطعنه في ظهره، ليرديه قتيلًا، ثم تركه مرميًا في الغابة ومشى. كدت أفقد وعيي، وأحسست أن الدنيا تدور بي، ولم أعد أعي ما حولي. عندما تمالكت نفسي، نظرت فرأيت سلفر يمسح خنجره بالعشب، واضعًا عكازه تحت إبطه. أدركت حينها أن اكتشاف أمري سيكون خطرًا على حياتي، فأخذت أركض على غير هدى.
لقاء الرجل الغريب
حين توقفت أخيرًا، وجدت نفسي عند أسفل تلة صخرية. لمحت شبحًا يتحرك فوق المنحدر، ولم أميز إن كان ما رأيت إنسانًا أم حيوانًا. أحسست أن هذا خطر آخر لن أتمكن من مواجهته، فبدأت أركض نحو الشاطئ. لكن المخلوق كان أسرع مني، وانطلق كالسهم حتى ضاقت المسافة بيننا. حين اقترب، استطعت تبينه؛ كان إنسانًا غريب الشكل، يشبه في حركاته حيوانات البرية، مما زاد خوفي. لكن عندما وصل إلي، رأيته يرتمي أرضًا أمامي ويرفع ذراعيه متوسلًا.
عادت إلي شجاعتي، وسألته: “من أنت؟” فأجاب: “أنا من جن… لم أتحدث إلى بشر منذ ثلاث سنوات.” لم أكن قد رأيت من قبل ثيابًا ممزقة كتلك التي كان يرتديها، حيث كان يرتدي رقعًا من أقمشة غريبة وجلد ماعز. عيناه الزرقاوان كانتا تبدوان خائفتين في وجهه الذي أحرقته الشمس.
قصة الرجل المهجور
أخبرني أنه كان غنيًا، لكن صوته كان يهذي بصوت عالٍ حاد. كان أحيانًا يتحدث بكلمات مفهومة، وأحيانًا يثرثر بثرثرة لا معنى لها. شعرت أن الرجل قد أصيب بشيء من الجنون بسبب عيشه وحيدًا طوال تلك الفترة. قال لي إنه كان أحد رجال القبطان فلنت، وإنه عاد منذ ثلاث سنوات مع بحارة آخرين للبحث عن كنزه. ولما لم يجدوا الكنز، عاد البحارة من حيث أتوا وتركوه في الجزيرة. وظن، حين رأى سفينتنا، أن القبطان فلنت قد عاد ليأخذ كنزه.
أخبرته أن القبطان فلنت قد مات، لكن عددًا من رجاله جاءوا على متن سفينتنا. وعندما ذكرت اسم سلفر، امتلأ وجهه رعبًا. قلت له إن علينا أن نحارب القراصنة، فوعد أن يساعدنا إذا قبلنا أن نصطحبه معنا إلى بلده.
الهجوم على المنزل الخشبي
انقطع حديثنا حين سمعنا إطلاق نار، وركضنا معًا نحو مصدر الصوت. وصلنا إلى فرجة في الغابة خالية من الأشجار، وفي وسطها كان يوجد منزل خشبي محصن بسياج عالٍ. رأيت علمًا يرفرف فوق المنزل، ففهمت أن رفاقي قد تركوا السفينة ولجأوا إلى المنزل المحصن للدفاع عن أنفسهم. لا شك أن المعركة مع القراصنة قد بدأت! كانت سفينة الإسبنيولا راسية في الخليج، وقد ارتفعت فوق ساريتها راية القراصنة. التفت نحو الشاطئ فرأيت فريقًا من القراصنة يتحرك فوق الرمال.
تركت الرجل الغريب وتسلقت السياج، وجريت نحو رفاقي في المنزل الخشبي. استبشروا بوصولي، فقد كان غيابي قد أقلقهم كثيرًا. أخبرني الدكتور لفسي بما جرى بعد مغادرتي للسفينة. فقد قرر القبطان أن الوقت قد حان لبدء المعركة مع القراصنة. علم بأمر المنزل الخشبي من خريطة الكنز التي تركها فلنت، فركب الدكتور لفسي وأحد رجالنا زورقًا وتوجها إلى الشاطئ لتفحص المنزل. وقد وجدا قربه ينبوع ماء، كما لاحظا أن سياجه العالي يجعله مكانًا حصينًا. عاد الرجلان بعد ذلك إلى الإسبنيولا لجمع البحارة الموثوق بهم. ثم حُمّل زورق بالمال والذخيرة، وانطلق الجميع إلى الشاطئ بأقصى سرعة.
مواجهة القراصنة
كان لا يزال على متن السفينة نفر قليل من القراصنة، وحين لاحظوا ما يجري، أطلقوا النار على الزورق الصغير، فغاص في مياه ضحلة. خاض العمدة وجماعته في المياه حتى وصلوا إلى الشاطئ، لكنهم فقدوا نصف شحنتهم من المؤن والبارود. كان الطبيب واثقًا من أن القراصنة لن يطيلوا القتال، حيث توقع أن الأمراض ستنتشر بينهم بسبب سوء العناية الصحية والموقع المستنقعي غير الصحي الذي اختاروه معسكرًا لهم.
حدثت رفاقي بما جرى معي، وقصصت عليهم مقابلتي مع “بن جن”. استفسر الدكتور لفسي عن كل ما يتعلق بالرجل، لأننا كنا بحاجة ماسة إلى من يساعدنا. كان زعماؤنا الثلاثة حائرين، لا يعرفون ماذا يفعلون. لم يكن لدينا سوى القليل من الطعام، وكان في إمكان القراصنة تجويعنا وإجبارنا على الخروج والاستسلام. بعد يوم شاق، استسلمت للنوم.
العرض الذي قدمه سلفر
استيقظت في الصباح على صوت مفاجئ وضوضاء. كان لونغ جون سلفر نفسه يقترب من السياج حاملًا علمًا أبيض. شك القبطان سمولت في أن يكون هذا خدعة، فأمرنا جميعًا بالاستعداد لإطلاق النار. قال سلفر إنه جاء لنتفق على شروط إنهاء القتال، فسمح له باجتياز السياج. رمى عكازه من فوق السياج، تسلقه بمهارة، ثم ألقى بنفسه داخل الفناء وتوجه نحو الباب وجلس أمامه. أخبر القبطان أن القراصنة عازمون على الحصول على الكنز، وأنه مستعد إذا سلمناه الخريطة أن يخرجنا من الجزيرة إلى مكان آمن.
لم يكن القبطان سمولت ممن يساومون القراصنة، فوقف أمام سلفر غاضبًا، وأفهمه أن هو ورفاقه القراصنة خاسرون. بدون الخريطة، لا أمل لهم في العثور على الكنز، وحتى إن وجدوه، فلن يستطيعوا إبحار السفينة للعودة إلى الوطن. أمر القرصان بالخروج، فاحمرت عينا سلفر غضبًا، وانطلق نحو الغابة مهددًا.
الهجوم على المنزل الخشبي
بدأنا نعد أنفسنا لمواجهة الهجوم المرتقب، ثم جلسنا ننتظر في جو حار وملتهب. فجأة، انهمرت طلقات البنادق على المنزل الخشبي، ورأينا القراصنة يتدفقون من الغابة ويهاجمون السياج. امتلأ الجو بصيحات الرجال، وأنين المصابين، وهدير البارود، وبريق الرصاص. أمسكت سيفي واندفعت للمشاركة في القتال. لم تمضِ سوى لحظات حتى كنا قد رددنا المهاجمين على أعقابهم. الذين لم يُقتلوا أو يُصابوا بالجروح تراجعوا إلى الغابة هاربين.
أسرعنا إلى داخل المنزل الخشبي لتقييم الوضع. كنا واثقين من أننا سنتعرض لهجوم ثان، لكننا فقدنا رجلين، كما أصيب القبطان بجرح بليغ. اتخذنا مواقعنا في انتظار ما سيحدث، لكن كل شيء بقي هادئًا.
التسلل للخارج
رأيت الدكتور لفسي يتسلل بهدوء خارج السياج، فظننت أنه خارج للبحث عن “بن جن”. ظل الهدوء مسيطرًا، وبدأت أشعر بالتعب من الانتظار. حرارة الجو الشديدة، ورائحة الدم، والغبار، كلها جعلتني أشعر بالقلق والاضطراب، واشتقت إلى مكان نظيف ومنعش. كنت أعلم أن القبطان لن يسمح لي بترك المنزل، فتسلحت بمسدسين، واغتنمت الفرصة المناسبة وتسللت خارج المنزل دون أن يراني أحد.
على الشاطئ وخطة الخلاص
ركضت نحو الشاطئ، فداعبني نسيم البحر العليل، ووقفت لحظات أراقب تكسر الأمواج على الشاطئ وتلألؤ زبد البحر. ثم تسلقت تلة، فأمكنني أن أرى سفينتنا راسية في الخليج الهادئ. إلى جانب السفينة، رأيت قاربًا صغيرًا وفيه لونغ جون سلفر. كان يتحدث مع رجلين على السفينة ويضحك معهما. لم أسمع شيئًا من حديثهم، لكنني كنت أسمع صياح ببغاء سلفر. عند الغروب، توجه سلفر بقاربه إلى الشاطئ، بينما نزل الرجلان الباقيان في السفينة إلى أسفل. كنت واثقًا أنه إذا لم يعثر القراصنة على الكنز، فسوف يهلكون دوننا. عندها بدأت تراودني خطة للخلاص.
أخبرني “بن جن” سابقًا أنه صنع قاربًا وخبأه قرب الشاطئ. فكرت أنه لو تمكنت من الوصول إلى الإسبنيولا وقطع حبال المرساة، ستنجرف السفينة إلى مكان آخر ولن يتمكن القراصنة من مغادرة الجزيرة. بدأت أفتش بين الشجيرات الساحلية، وكان فرحي عظيمًا عندما وجدت القارب! كان مصنوعًا من هيكل خشبي مغلف بجلود الماعز، لكنه كان صغيرًا وهشًا، فخشيت ألا يتحمل وزني. مع حلول الظلام، زحف الضباب على الخليج. دفعت القارب الصغير في الماء وتوجهت بهدوء نحو الإسبنيولا.
التسلل إلى السفينة
عندما اقتربت من السفينة، تناهى إلى مسامعي صياح وأصوات. أرهفت السمع، واكتشفت أن داود هاندز وقرصانًا آخر كانا يتبادلان الصراخ والسباب. التفت نحو الشاطئ، فرأيت ضوءًا من مخيم القراصنة، وتناهت إلى مسمعي أصوات أغنية طالما سمعتها منهم:
“لا تفتح صندوق القرصان
أنت تسكنه الأرواح
يملأه اللؤلؤ والمرجان
لكن تسكنه الأرواح”
أمسكت سكيني وبدأت أقطع حبل المرساة خيطًا خيطًا. وبعد أن تم لي الأمر، بدأت السفينة تتأرجح وتنزلق باتجاه عرض البحر. وفي أثناء ارتفاع السفينة وهبوطها، رأيت داود هاندز والقرصان الآخر يتعاركان، وكانا في حالة من الهياج الشديد لدرجة أنهما لم يلاحظا تحرك السفينة. أدركت أنني في خطر كبير، فارتميت في قاع قاربي أصلي ألا ينكشف أمري.
الانجراف نحو الشاطئ
تقاذفتني الأمواج لساعات. لا بد أن النعاس غلبني، فنمت. عندما استيقظت، كان ضوء النهار قد ملأ السماء. وجدت أن قاربي قد انجرف إلى مكان صخري شديد الانحدار على الشاطئ، مما منعني من النزول. لم أكن أملك خيارًا سوى ترك قاربي يتأرجح على أمل أن أصل إلى بقعة رملية على الشاطئ. كنت أشعر بعطش شديد، زاده حرارة الشمس ورذاذ ماء البحر المالح. تمنيت أن أنزل إلى الشاطئ وأجلس في مكان منعش.
بينما كنت أنظر حولي، لاحظت شيئًا أنساني همومي. رأيت الإسبنيولا على مسافة لا تزيد على نصف ميل! كانت أشرعتها منشورة، لكنها كانت تتأرجح في جميع الاتجاهات وكأنها سفينة مهجورة. عندها، راودني الأمل في أن أستولي على السفينة. بدأت أجدف باتجاهها بحماسة، لكن كلما اقتربت منها، كانت الرياح تدفع أشرعتها وتبعدها عني. أخيرًا، هدأت الرياح وحركة السفينة، فاقتربت وقفزت إليها. لكن، هبت الريح ثانية بشكل مفاجئ، فاندفعت السفينة مع الموج وصدمت قاربي وأغرقته. لم يعد لدي وسيلة للهروب.
مشيت فوق السفينة بحذر شديد، دون أن أرى أحدًا أو أسمع أي شيء.
مواجهة داود هاندز
أخيرًا، رأيت قرصانين، أحدهما مقتول وقد خضبت دماؤه أرض السفينة. أما الآخر، وهو داود هاندز، فكان جريحًا يعاني من الألم ولا يطيق الحركة. نزلت إلى القمرة المحطمة وأحضرت له دواء منعشًا، فبدا بعده أفضل حالًا.
وعدتُ هاندز بأن أقدم له طعامًا وأضمد جراحه بشرط أن يعلمني كيف أقود السفينة إلى مكان آمن على الشاطئ. كنا، في تلك اللحظة، كلانا بحاجة إلى الآخر؛ هو بحاجة إلى عنايتي، وأنا بحاجة إلى خبرته في قيادة السفينة. غير أني لم أثق أبدًا بابتسامته الغريبة الماكرة التي يقابلني بها. طلب مني أن أجلب له شيئًا من القمرة، وعندما ظن أني تركته ونزلت، زحف وأخذ سكينًا ووضعها في سترته. كان هذا دليلاً كافيًا على نواياه السيئة… فقد تسلح هاندز بلا شك وسيقتلني حالما أصل بالسفينة إلى الشاطئ.
الصراع على السارية
كان الوصول إلى الشاطئ مضنيًا. انشغلت بالاهتمام بإيصال السفينة سالمة، مما منعني من مراقبة هاندز عن كثب. فجأة، شعرت بالخطر، ربما سمعت صريرًا أو رأيت حركة بطرف عيني. التفت بسرعة فرأيت هاندز يقترب مني وقد رفع خنجرًا في يده اليمنى. اندفعت مبتعدًا وسحبت مسدسًا من جيبي، لكن عندما أطلقت النار، لم يظهر وميض ولم يُسمع صوت، إذ بلل ماء البحر البارود. في تلك اللحظة، اهتزت السفينة بعنف عندما صدمت الشاطئ، فوقعنا كلانا أرضًا. تسلقت السارية بسرعة قبل أن يتمكن هاندز من الوقوف.
جلست في أعلى السارية مطمئنًا ولو مؤقتًا، وأعدت حشو مسدسيّ ببارود جاف. رأيت هاندز يتسلق السارية ببطء، وقد وضع خنجره بين أسنانه. صحت به: “إذا تسلقت درجة أخرى يا سيد هاندز، فسأفجر دماغك!” توقف للحظة، لكنه سرعان ما رماني بخنجره. شعرت بألم حاد إذ غرز الخنجر في كتفي اليمنى، ونتيجة للألم والصدمة، أطلقت النار من كلا المسدسين. رأيت هاندز يسقط سقوطًا مريعًا في ماء البحر.
العودة إلى الشاطئ
شعرت بالغثيان والدوار، فأغمضت عيني هنيهة لاستعادة وعيي. نزع الخنجر الذي كان مثبتًا في كتفي، ووجدت أن الجرح لم يكن بالغًا، لكنني نزفت الكثير من الدم. في القمرة، عثرت على ضمادات وضمدت بها جرحي.
عندما استعدت وعيي، كان الليل قد حلّ. توجهت نحو الشاطئ، خوضًا في الماء، ولم يكن لدي رغبة سوى العودة إلى أصدقائي. كنت آمل أن استيلائي على الإسبنيولا سيجعلهم يسامحونني على تركي لهم. ساعدني ضوء القمر على إيجاد طريقي إلى المنزل الخشبي. مشيت بحذر وبهدوء، وتسلقت فوق السياج دون أن يسمعني أحد. ظننت أن حارس المراقبة لم يشعر بوجودي، فتوجهت إلى الداخل.
الوقوع في فخ القراصنة
فجأة، سمعت صوتًا حادًا يتردد في سكينة الظلام. كان صوت ببغاء فلنت يصيح: “تسكنه الأرواح! تسكنه الأرواح!” أدركت حينها أنني وقعت بين أيدي القراصنة. وعلى ضوء شعلة، رأيت بلقر والرجال الخمسة الذين بقوا أحياء من رفاقه.
اتفاق مع القراصنة
عندما عدت، لم أرَ أيًا من أصدقائي، وتبادر لي في الوهلة الأولى أنهم قتلوا جميعًا. لكن سرعان ما علمت أن الأمر ليس كذلك. فقد ذهب الدكتور لفسي إلى القراصنة أثناء غيابي، وأخبرهم أنه بعد اختفاء الإسبنيولا، تخلى هو ورفاقه عن فكرة البحث عن الكنز. واتفق معهم على أن يسلمهم المنزل الخشبي وكل ما فيه، بما في ذلك خريطة الكنز، مقابل أن يُسمح له ورفاقه بالمرور إلى الغابة. وهكذا كان.
أزعجني هذا الأمر وحيرني، ولم أفهم لماذا تخلى رفاقي عن الكنز دون قتال. كان لونغ جون سلفر لا يزال زعيم القراصنة، لكنه لم يكن مرحًا وواثقًا من نفسه كما كان في السابق. كان واضحًا أن ثقة القراصنة به قد ضعفت بعد الخسائر التي تكبدوها، وأصبحت طاعتهم له محل شك. أدرك سلفر أنهم إذا قرروا اختيار زعيم جديد، فسيقتلونه، وكان أمله الوحيد في النجاة هو الانضمام إلى جماعة القبطان سمولت.
وعدني سلفر بحمايتي من القراصنة إذا شفعت له عند القبطان. لكن لو اكتشف القراصنة ما يخطط له سلفر، فسوف يقضون علينا نحن الاثنين. كان بقاء الأمر سرًا هو السبيل الوحيد لنجاتنا.
زيارة الطبيب لفسي
في صباح اليوم التالي، جاء الدكتور لفسي إلى المنزل الخشبي ليعود المرضى والجرحى. فوجئ عندما وجدني بين القراصنة، لكنه لم يقل شيئًا. قام بعمله بتقديم الأدوية وتضميد الجراح. ثم طلب أن يتحدث معي على انفراد، فأخبرته باختصار شديد بما جرى معي. عندما سمع أن الإسبنيولا سالمة، ارتسمت على وجهه علامات الدهشة والارتياح. أخبرته أيضًا عن زعامة سلفر المهددة ورغبته في الانضمام إلينا. وافق الطبيب على أن يأخذ سلفر معنا إلى الوطن إذا ضمن حمايتي من القراصنة. كنا في وضع حرج للغاية، وكان الأمل في النجاة ضعيفًا جدًا. صافحني الطبيب وقال إنه سيتدبر أمر إنقاذي.
البحث عن الكنز
في ذلك الوقت، نفد صبر القراصنة، وبدأوا يتحرقون للانطلاق بحثًا عن الكنز. كان سلفر في حيرة؛ إذ تساءل كيف تخلى الطبيب ورفاقه عن خريطة الكنز بهذه السهولة. شعر أن في الأمر خدعة، لكنه لم يجرؤ على مفاتحة رجاله بشكوكه. بينما كنا نجلس حول النار، راح سلفر يتحدث للقراصنة عن الثراء الذي ينتظرهم عندما يجدون الكنز. كان يتحدث بحرارة شديدة لدرجة أنني شعرت أنه يصدق ما يقول.
حملنا المعاول والمجارف وانطلقنا بحثًا عن كنز القبطان فلنت. انطلق الرجال مدججون بالسلاح، بينما كان سلفر يحمل مسدسين وسيفًا. أما أنا، فقد كنت أسير خلفهم؛ إذ ربطوا حبلًا حول خصري، وكان سلفر يمسك بطرف الحبل السائب ليبقيني معه. ورغم وعوده بالحفاظ على سلامتي، إلا أنني لم أكن أثق به.
فك رموز الخريطة
بدأ القراصنة يتحدثون في طريقهم عن خريطة الكنز وتفسير رموزها. فهموا أن الكنز مدفون في إحدى تلال الجزيرة، وأن شجرة عالية على تلك التلة تحمل إشارات تدل على مكان الكنز. كان أكثر الرموز غموضًا هو الإشارة إلى “جزيرة الهيكل العظمي” ودورها في تحديد الاتجاهات، إذ لم يعرفوا مكانًا يحمل هذا الاسم في الجزيرة أو ما يشابهه.
كان الرجال ممتلئين بالحماسة، فلم أتمكن أنا وسلفر من مجاراتهم في سرعة تحركهم. كان علي بين حين وآخر أن أساعد سلفر عندما كان عكازه يعلق بين الصخور.
العثور على الهيكل العظمي
كنا قد قطعنا مسافة نصف ميل عندما سمعنا صيحة من أحد الرجال المتقدمين في الجماعة. أسرع البقية نحوه، معتقدين أنه قد وجد الكنز، لكن ما وجده لم يكن كنزًا، بل هيكلًا عظميًا ممددًا عند جذع شجرة. وقف الرجال ينظرون إليه في صمت ورعب. كانت الخرق المعلقة بالعظام تدل على أن الهيكل العظمي يعود لبحار، وكان ممددًا بشكل مستقيم، بحيث اتجهت الساقان في اتجاه، واليدان المبسوطتان فوق الرأس في الاتجاه المعاكس.
تأمل سلفر الهيكل العظمي، ثم صاح: “هذه واحدة من دعابات القبطان فلنت! هذا البحار أحد ضحاياه، وقد مدد جسده على الأرض بحيث تدل العظام على طريق الكنز!” ارتعشت قلوب الرجال عند سماع اسم فلنت، فقد عاشوا حياتهم في خوف دائم منه. قال أحدهم: “فلنت مات وشبع موتًا، لكن إن كانت للأشباح وجود، فلا شك أن شبحه يتحرك بيننا الآن!” وقال آخر: “ولا أحب أن أسمع الآن أغنية صندوق القرصان، لأنها كانت الأغنية الوحيدة التي تعود أن يرددها.”
وضع سلفر حدًا لهذا الحديث، وتابعنا السير. لاحظت أن الرجال بدؤوا يتحدثون بصوت خفيض ويبقون متقاربين، إذ كان مجرد ذكر فلنت كافيًا لإلقاء الرعب في نفوسهم. جلسنا في أعلى التلة لنستريح، ولا يزال الرجال يتحدثون عن فلنت، فقال لهم سلفر: “من حسن حظكم أنه ميت!”
صوت شبح فلنت
فجأة، ارتفع صوت عميق راعش من بين الأشجار القريبة، مرددًا الأغنية المشهورة:
“لا تفتح صندوق القرصان
أمست تسكنه الأرواح
يملأه اللؤلؤ والمرجان
لكن تسكنه الأرواح”
تجمد القراصنة في أماكنهم، يحدقون في الأشجار في رعب وذهول. حتى سلفر نفسه كان يرتعش، لكنه كان أول من استعاد هدوءه. زمجر قائلاً: “لم آتِ إلى هنا لأخاف من شبح فلنت! لم أخف منه في حياته، ولن أتردد في تحديه وهو ميت!”
كان لموقف سلفر أثر السحر على الرجال، فتناولوا أدواتهم وعادوا إلى سيرهم الجاد. سرعان ما وصلنا إلى شجرة ضخمة تعلو على سائر الأشجار. الأمل في العثور على الكنز في ذلك المكان أنساهم كل مخاوفهم، فاندفعوا نحو الشجرة راكضين، بينما كان سلفر يخبط الأرض بعكازه محاولًا اللحاق بهم. رأيت في عينيه نظرات وحشية شرسة، ولم يكن لدي أدنى شك في أنه لو وضع يده على الكنز، لقتلنا جميعًا.
اكتشاف اختفاء الكنز
لم يركض القراصنة طويلًا، إذ سرعان ما وصلوا إلى حفرة في الأرض، وفي قعرها وجدوا قطعًا خشبية صغيرة ومقبض معول مكسور. كان واضحًا لكل من رآه أن الكنز قد اختفى! قفز القراصنة إلى قلب الحفرة، وبدأوا ينبشون الأرض بأظافرهم. في هذه اللحظة، أحس سلفر بالخطر المحدق به، وأدرك أنهم سيرتدون عليه ويقتلونه.
همس لي قائلاً: “اسمع يا جيم، إن موقفنا حرج.” نظرت إليه، فرأيت نظرة الكراهية قد ملأت عينيه. لقد أدرك، وهو يواجه خطر الموت، أنه بحاجة إلي، فتحول عن رفاقه مرة أخرى.
إنقاذ في اللحظة الأخيرة
بعد لحظات، تدافع القراصنة خارجين من الحفرة، ووقفوا يواجهون سلفر. ثم رفع زعيمهم يده مؤذنًا بالهجوم. ولكن قبل أن يتمكن أي منهم من توجيه ضربة واحدة، انطلقت ثلاث رصاصات من بين الأشجار القريبة، وسقط اثنان من القراصنة قتلى. أما الثلاثة الآخرون، فقد فروا هاربين. حينها، برز من بين الأشجار الطبيب “لفسي” و”بن جن”، اللذان أنقذا حياتنا في اللحظة الأخيرة.
قادنا “بن جن” إلى كهفه حيث كان رفاقنا ينتظروننا بقلق ولهفة. كان لقائي بأصدقائي من أسعد اللحظات. وفي النهاية، اكتشفنا أنا وسلفر الجواب عن السؤال الذي حيرنا. فقد أخبر “بن جن” الطبيب أنه، خلال فترة إقامته الطويلة في الجزيرة، استطاع العثور على الكنز ونقله إلى كهفه، مما جعل خريطة الكنز بلا فائدة.
الملاذ في كهف بن جن
سعد أصدقاؤنا بالخروج من المنزل الخشبي واللجوء إلى كهف “بن جن”، الذي كان مكانًا آمنًا وحصينًا. كان “بن جن” قد راقب القراصنة وهم يغادرون المنزل ذلك الصباح بحثًا عن الكنز. وكان هو من ردد بصوت راعش أغنية القرصان، مما أثار الرعب في قلوبهم.
في تلك الليلة، أقمنا وليمة رائعة أنستنا همومنا. شاركنا القبطان في الوليمة رغم أنه لم يشفَ تمامًا من جراحه، كما شاركنا فيها لونغ جون سلفر بابتسامته الهادئة وتصرفاته المهذبة وشخصيته المحببة، التي كانت من صفاته عندما تعرفت عليه لأول مرة.
الاستعداد للرحيل
في صباح اليوم التالي، بدأنا في نقل الكنز إلى الإسبنيولا، واستغرق منا ذلك عدة أيام. كنا نعلم أن هناك ثلاثة قراصنة لا يزالون على الجزيرة، فتركنا لهم ما يكفي من الطعام والأدوات ليبقوا أحياء حتى تمر سفينة تأخذهم معها.
غمرني شعور بالفرح عندما أدرنا ظهورنا لجزيرة الكنز. أبحرنا على متن السفينة رغم نقص البحارة، وتوقفنا في أول ميناء صادفناه في المحيط لتزويد السفينة بالرجال. ألقينا المرساة ونزلنا إلى الشاطئ سعداء بوجودنا في مكان بهيج ومزدحم. عدنا أنا والطبيب والعمدة إلى السفينة قبيل الفجر، لكننا فوجئنا بأن “بن جن” أخبرنا أن سلفر رحل، بعد أن أخذ معه جزءًا صغيرًا من الكنز. سررنا جميعًا بأننا تخلصنا منه، ولم نعد نرغب إلا في العودة إلى الوطن.
العودة إلى الوطن
كانت رحلة العودة ممتعة، وعند وصولنا تقاسمنا الكنز، ثم سار كل منا في طريقه. كان نصيب “بن جن” مبلغًا كبيرًا من المال، لكنه أنفقه بسرعة أو ضيعه، فقام العمدة بتأمين وظيفة متواضعة له في البلدة ليعيش منها.
أما لونغ جون سلفر، فقد اختفى من حياتي تمامًا، لكني لا أزال أراه بين حين وآخر في أحلامي، وأسمع صوت ببغائه الحاد يصرخ: “تسكنه الأرواح! تسكنه الأرواح! تسكنه الأرواح!”