كانت ماري لنكس فتاة مدللة، وقحة، وعصبية المزاج. وكانت في أغلب الأحيان، عليلة، نحيلة، تعيسة وعابسة. فلم يكن يحبها أحد. على أن ماري لم تكن مسؤولة في الواقع عن أي من أخطائها. فقد وُلدت في الهند حيث كان أبوها يعمل، وكان أبوها دائم الانشغال في عمله، فلم يرعَ ابنته الرعاية الكافية. وكانت أمها رائعة الجمال، لكنها لم تلتفت إلا لحفلاتها ومسرتها، وتركت الفتاة في رعاية إحدى المربيات. وقد تركت المربية للفتاة حرية التصرف، تفعل ما تشاء وتحصل على ما تشاء بالبكاء والصراخ وإزعاج أمها. فلا غرابة إذًا، أن نشأت ماري نشأة مدللة وكريهة.
صباح سيئ
ذات صباح، وكانت في التاسعة من عمرها، أحست ماري بأن هناك شيئًا سيئًا يحدث. سمعت وهي في غرفتها أصواتًا كثيرة تنادي وتصرخ، ووقع خطوات سريعة مضطربة. انتظرت طويلًا، لكن أحدًا لم يأتِ إليها. أخيرًا، أحست بالنعاس ونامت. عندما استيقظت، كان البيت هادئًا، خاليًا من أي صوت. أحست بالغضب لأن أحدًا لم يأتِ إليها. لكن فجأة، فُتح الباب ودخل رجلان.
خبر الموت
ضربت ماري الأرض بقدمها، وصاحت: “هل نسِي أهلي أنني أعيش هنا؟ لماذا لم يأتِ أحد إليّ؟”. قال أحد الرجلين بحزن: “مسكينة أنتِ يا صغيرتي! لن يسأل عنكِ أحد بعد اليوم.” على هذه الصورة عرفت ماري أن أبويها قد ماتا، فقد فتكت بهما الحمى التي اجتاحت البلاد. ومات معها عدد كبير من الخدم، وهرب الباقون خوفًا من المرض. أصبحت ماري وحيدة في الهند، ليس لها من يعتني بها، فأُرسلت إلى إنجلترا لتعيش مع عمها السيد كرافن في ناحية من ريف مقاطعة يوركشاير.
الانتقال إلى إنجلترا
في لندن، كانت السيدة مدلك، مدبرة منزل العم، في استقبال الفتاة. كرهتها ماري منذ اللحظة التي وقعت عينها عليها، كما كرهت كل من قابلتهم بعد ذلك. أما السيدة مدلك فقد رأت في ماري فتاة وقحة وتافهة. لكنها مع ذلك، عاملتها بلطف طوال الطريق، وتحدثت معها عن منزل عمها. بدا من حديثها أنه منزل كبير تحيط به البراري من كل صوب.
لقاء العم
ومما قالته السيدة مدلك: “لن يكون عندكِ ما تعملينه يا ماري. ولن يلتفت إليكِ عمكِ. إنه رجل أحدب، منطوٍ على نفسه. كان قبل زواجه شابًا غريب التصرفات وعصبيًا، لا يكاد يبتسم. ثم تزوج فتاة رائعة الجمال، فأحبها حب عبادة. لكنها ماتت شابة، فازدادت تصرفاته غرابة وعصبية. وهو في أكثر الأوقات مسافر، لذا عليكِ أن تدبري أموركِ بنفسكِ.”
الوصول إلى المنزل
كان الظلام قد حل عندما وصل القطار إلى المحطة. وكان في انتظارهما هناك عربة يجرها حصانان، نقلتهما إلى المنزل. لكن في ذلك الجو الحالِك العاصف بالمطر، لم ترَ ماري شيئًا مما حولها. فسألت: “أي نوع من البراري يحيط بالمنزل؟”. أجابت السيدة مدلك: “إنها مساحات شاسعة من الأراضي لا ينبت فيها غير الوزال والخلنج، ولا يعيش عليها غير الجياد البرية وقطعان الماشية.”
الوصول إلى المنزل
وصلت العربة أخيرًا إلى المنزل، وانفتح باب ضخم من خشب السنديان. وقف عنده كبير الخدم وقال: “عليكِ، يا سيدة مدلك، أن تأخذي الفتاة إلى غرفتها، فالسيد مسافر غدًا إلى لندن ولا يرغب في رؤيتها.”
مشت ماري وراء السيدة مدلك، فصعدنا درجًا، ومررنا عبر ممرات عديدة، ثم دخلنا غرفة ذات مدفأة مستعلة وطاولة عليها طعام للعشاء.
قالت السيدة مدلك: “في هذه الغرفة تعيشين، فلا تتسكعي في أرجاء المنزل.”
هكذا استُقبلت ماري في منزل عمها. وقد أغضبها هذا الاستقبال وزاد في إحساسها بالوحدة وأنها منبوذة وغير مرغوب فيها.
صباح جديد
استيقظت ماري في صباح اليوم التالي فوجدت في غرفتها خادمة تشعل المدفأة. كانت الخادمة، واسمها مرثا، تبتسم وتروي الأخبار طوال قيامها بعملها.
لم تكن ماري معتادة على الخدم المرحين، ولم تكن، أثناء حياتها في الهند، قد لفظت كلمة شكر أو اعتذار في تعاملها مع الخدم. بل إنها كانت، إذا غضبت، تصفع أحيانًا مربيتها. لكن شيئًا جعلها تشعر الآن أن عليها ألا تعامل مرثا بالطريقة نفسها. في البداية، لم تجد ماري في أخبار مرثا ما يسليها، لكنها أخذت شيئًا فشيئًا تنصت إلى صوت الخادمة الودود.
حوار مع مرثا
قالت مرثا: “ليتكِ ترين إخوتي وأخواتي في كوخنا الصغير القائم وسط البرية. نحن في البيت اثنا عشر فردًا، ولا يكسب أبي إلا أجرًا أسبوعيًا زهيدًا. لذا فإن أمي تعمل لتساعد في توفير الطعام الكافي للأسرة. الهواء النقي في البرية يجعلنا كلنا أصحاء وأقوياء. ليتكِ تتعرفين إلى أخي ديكون، إنه في الثانية عشرة من عمره، ويحسن التفهم مع الحيوانات؛ وقد روض مهرًا بريًا.”
أنهت مرثا عملها في الغرفة وخرجت، فخرجت ماري أيضًا.
الحدائق الغامضة
قالت مرثا لماري: “اذهبي والعبِي في الحدائق. صحيح أن الحدائق الآن فقيرة بالأزهار والنباتات، لكنها في الصيف ساحرة!” توقفت لحظة ثم تابعت بصوت شبه هامس قائلة: “السيد كرافن أغلق باب إحدى هذه الحدائق منذ عشر سنوات، يوم ماتت زوجته، ودفن المفتاح في الأرض. إنه يكره تلك الحديقة.”
كانت أملاك العم كرافن واسعة، تفصل بينها أسوار عالية تقسمها إلى حدائق عديدة، ولكل حديقة باب يصلها بالحديقة المجاورة. وكانت تنمو في بعض تلك الحدائق أزهار وأشجار، وتقوم نوافير مياه. وفي الحدائق الأخرى كانت تزرع الخضراوات. أما في ذلك الوقت من الشتاء، فكانت الحدائق شبه عارية.
لقاء الرجل العجوز
فجأة، فتح باب إحدى الحدائق وبرز منه رجل عجوز، بدا من تصرفاته أنه يشبه ماري في عصبيته وسوء طباعه.
سألته ماري: “أتسمح لي بدخول الحديقة؟” أجاب بعبوس: “لا شيء يستحق المشاهدة. لكن إذا شئتِ، ادخلي.”
البحث عن الحديقة المقفلة
كانت ماري تأمل أن تجد باب الحديقة المقفلة. جربت الأبواب كلها فانفتحت بسهولة. وكان أحد الأسوار مغطى بالنباتات المتسلقة المتشابكة، وبدا أنه لا باب له. إلا أن ماري رأت خلف ذلك السور أشجارًا عالية، ورأت طائرًا من طيور “أبو الحن” فوق غصن من أغصان تلك الأشجار، وسمعت تغريده.
توقفت لحظة تستمع إلى تغريد الطائر الساحر، فطربت وارتسمت ابتسامة على وجهها البائس الحزين. ثم عادت إلى العجوز، لكنه تجاهلها وتابع عمله في الأرض. أخيرًا، قالت له: “تلك الحديقة لا باب لها.”
فأجابها بفظاظة: “أي حديقة؟”
قالت: “تلك التي خلف هذا السور، فقد رأيت فوق أشجارها طائرًا من طيور ‘أبو الحن’ وسمعت غناءه.”
اللقاء مع البستاني
رفع العجوز قامته وارتسمت على وجهه ابتسامة. فأحست ماري أنه ليس رجلًا قاسيًا كما بدا لها في أول لقاء. ثم أصدر العجوز صوتًا صغيرًا ناعمًا، فطار طائر “أبو الحن” عن الشجرة واستقر على قدم العجوز. قال الرجل بصوت هادئ: “ها هو، إنه يلبي دائمًا ندائي. أليس مخلوقًا رائعًا؟ انظري إليه، إنه يعرف أننا نتحدث عنه.”
راح “أبو الحن” بجسمه الممتلئ وصدره القرمزي، ينط على الأرض ملتقطًا الحب. تابع البستاني العجوز، واسمه بن، عمله في نبش الأرض وهو يقول: “إنه رفيقي الوحيد، من دونه أشعر بالوحدة.”
أجابت ماري: “وأنا أشعر بالوحدة أيضًا، لم أعرف في حياتي صديقًا واحدًا.”
توقف بن للحظة ثم قال: “أظن أننا، أنتِ وأنا، متشابهان. كلاهما غير وسيم، وكلاهما نكد، كما هو واضح في وجهينا.”
لم تكن ماري قد فكرت يومًا في وجهها المتجهم وطبعها السيئ، أما الآن وقد فعلت، فإنها تشعر بالقلق والحيرة. في تلك اللحظة، طار “أبو الحن” إلى شجرة قريبة وراح يغرد بصوت عالٍ.
حديث ماري مع الطائر
قال بن: “إنه معجب بكِ، ويريد أن يكون صديقك.”
نظرت ماري إلى الطائر وقالت: “أتقبل أن تكون صديقًا لي؟”
قالت ذلك بصوت وديع وحنون، لا يشبه صوتها الحاد الذي اعتادت أن تتحدث به.
قال بن: “عجبًا! لك صوت عذب كأصوات الأطفال، لا كأصوات بعض العجائز. لقد ذكرتني بالفتى ديكون وهو يخاطب حيوانات البرية.”
طار “أبو الحن” إلى السور. فقالت ماري: “لابد أن لتلك الحديقة بابًا.”
أجاب بن بعصبية: “لا نعرف لها بابًا الآن. واحذري أن تتلصصي على الأماكن المحظورة عليك!” قال ذلك وأدار ظهره ومشى مسرعًا دون أن يودعها بكلمة.
ماري واكتشاف الحدائق
بعد ذلك اليوم، صارت ماري تمضي الجانب الأكبر من أيامها في الهواء الطلق. كانت تركض طلبًا للدفء، فصبغ الهواء البارد وجنتيها بلون الورد. وكانت كل مساء تشعر بالجوع فتتناول عشاءً متنوعًا ودسمًا، ثم تجلس إلى جانب النار تتحدث إلى مرتا.
قالت ماري ذات مساء: “لماذا يكره السيد كرافن الحديقة المقفلة؟”
أجابت مرتا: “كانت تلك حديقة زوجته، وكانت تحبها كثيرًا. وبينما كانت ذات يوم جالسة فوق شجرة، انكسر بها غصن فسقطت وماتت. لذلك يكره السيد كرافن هذه الحديقة ولا يسمح لأحد بأن يتحدث عنها.”
تعاطف ماري مع السيد كرافن
لم تكن ماري قد أشفقَت يومًا على أحد، أما الآن، فقد وعت التعاسة العميقة التي لا بد أن السيد كرافن يشعر بها. هبّت ريح عاصفة في البرية حول المنزل وزمجرت. أنصتت ماري إلى زمجرة الريح فتراءى لها أنها تحمل معها صوت ولد يبكي.
حاولت أن تستفسر من مرتا عن الأصوات التي سمعتها، لكن مرتا أنكرت أن تكون قد سمعت بكاء ولد، وقالت وهي تبدو عليها علامات الاضطراب: “كان ذلك صوت خادمة المطبخ، فإنها تصرخ ألمًا من وجع في أسنانها.” ثم خرجت من غرفة ماري على عجل.
استكشاف المنزل
هطلت الأمطار في اليوم التالي بغزارة، فقالت مرتا: “في مثل هذا اليوم، يزدحم أفراد أسرتي كلهم في الكوخ الصغير، لا يعرف الواحد منهم كيف يتجنب الاصطدام بالآخرين. إلا أخي ديكون، فإنه مهما يكن الطقس قاسيًا، يخرج إلى البرية. رأى مرة جرو ثعلب صغيرًا يوشك أن يهلك، فأنقذه وأحضره معه إلى البيت. وعنده أيضًا غراب أليف أسماه ‘سوت’.”
قررت ماري، حين أصبحت وحدها، أن تستكشف المنزل. مشت في ممرات عديدة، وصعدت درجات ونزلت أخرى. وفجأة، تناهى إليها عبر السكون صوت ولد يبكي.
وما إن انحنت ومدت رأسها إلى باب تحاول الإنصات حتى انفتح باب آخر، وبرزت منه السيدة مدلك التي قالت بصوت آمر: “ماذا تفعلين هنا؟ عودي إلى غرفتك حالًا!”
أحست ماري بالغضب، فقد كانت واثقة أنها سمعت بكاءً، وبدت مصممة على أن تكتشف سر ذلك البكاء.
أمنيات ماري
مرت أيام الشتاء العاصفة. قالت مرتا: “انتظري حتى تشرق الشمس على نباتات الوزال والخلنج الذهبية!”
قالت ماري: “أتمنى لو أزور كوخكم في البرية وأتعرف إلى أمكِ.”
فأجابتها مرتا: “ستحبين أمي، فهي لطيفة وعاملة لا تعرف الكلل. أتشوق دائمًا إلى زيارتها، وأقضي أحلى أوقاتي في البيت.”
قالت ماري: “أتمنى أن أتعرف إلى أخيكِ ديكون أيضًا.”
أجابت مرتا: “ستحبينه هو أيضًا، الجميع يحبون ديكون.”
تنهدت ماري بحزن وقالت: “أما أنا فلا يحبني أحد.”
ابتسمت مرتا وقالت ببراءة: “ربما لأنكِ لا تحبين أحدًا من الناس.”
شعرت ماري بالحيرة وقالت: “لم أفكر في هذا الأمر أبدًا.”
اكتشاف المفتاح
خرجت ماري إلى الحديقة فرأت البستاني العجوز بن يعمل في الأرض. قال لها: “الربيع آتٍ، بدأت الحياة تتحرك تحت الأرض. عما قريب سترين نباتات الزعفران وغيرها من النباتات البرية المبهجة.”
طار طائر “أبو الحن” وحط على السور المغطى بالنباتات المتسلقة. ركضت ماري نحوه، لكنه طار إلى الأرض. جلست ماري على الأرض وأخذت تقترب منه، فراح يغرد وكأنه يريد أن يقول لها شيئًا. اقتربت منه كثيرًا حتى شعرت بسعادة غامرة تملكتها. راح “أبو الحن” ينقر الأرض بحثًا عن دودة، وفجأة، رأت ماري في التراب مفتاحًا صدئًا!
قالت في نفسها: “لعلّه مفتاح الحديقة السرية!” ثم دست المفتاح في جيبها وركضت إلى غرفتها.
هدية مفاجئة
بعد العشاء، تحدثت مرتا إلى ماري وأخبرتها عن يومها الذي قضته في كوخ أهلها الصغير. قالت لها: “أمي ترى أن حياتك هنا موحشة، لذا فقد أرسلت لكِ هدية تسليك.”
ثم أخرجت حبلة نطٍ ذات مسكتين، وأرتها كيف تنط بها.
كانت تلك مفاجأة سارة، لم تكن ماري تتوقع أن أم مرتا تستطيع توفير ثمن حبلة نط. فقالت: “أمكِ سيدة لطيفة جدًا.”
ومنذ ذلك الوقت، كانت ماري أينما ذهبت تحمل معها حبلة النط وتنط بها، فيزداد جسمها قوة يومًا بعد يوم.
اكتشاف الحديقة السرية
كان “أبو الحن” ذات صباح واقفًا على السور يتابع بعينيه ماري وهي تركض وتلعب. فجأة، حدث ما يشبه السحر، إذ هبّت ريح قوية أزاحت جانبًا من النباتات المتسلقة عن السور، فانكشف باب خشبي ضخم وعتيق. تلمست ماري جيبها وأخرجت المفتاح الصدئ بحماسة وقلق، وراحت تحاول فتح الباب بكل قوتها. حاولت كثيرًا حتى كادت تيأس. أخيرًا، انفتح الباب، فأسرعت بالدخول.
وقفت ماري داخل الحديقة مبهورة، وأخذت تتلفت حولها وقلبها يخفق بشدة. كانت الأعشاب العالية المتشابكة تغطي الحديقة بأكملها، لكن بعض النباتات الزهرية الجميلة كانت قد بدأت تشق التربة وتظهر، دافعةً الأعشاب لتأخذ لها مكانًا.
أسرعت ماري تنزع الأعشاب الضارة وتزيل الأوراق الميتة. ومر الوقت دون أن تشعر بذلك. خلال تناول العشاء، شعرت برغبة قوية في إشراك مرتا بالسر الذي تخفيه، لكنها خشيت أن يؤدي ذلك إلى حرمانها من الذهاب إلى حديقتها السرية. فاكتفت بالقول: “ليتني أملك حديقة صغيرة أزرعها!”
أجابت مرتا: “فكرة عظيمة! سأطلب من ديكون أن يجلب لك أدوات للزراعة وبذورًا.”
نمو الحديقة
كان كل شيء في الحديقة السرية قد بدأ ينمو ويزهر. وصارت ماري تذهب كل يوم إلى هناك، تنظف الأرض وترعى النباتات. وحرصت على ألا يعرف البستاني من أين تذهب. قال لها بن ذات يوم: “الهواء الطلق أفادكِ، إذ أصبح جسمك أقوى وخف صراخك. لقد بدوتِ عند وصولكِ هنا كفرخ غرابٍ عادٍ من الريش.”
ضحكت ماري، فقد أصبحت تحب بن حتى في أيام نكده وتشكيه.
في أحد الأيام، رأت ماري ولدًا يجلس تحت شجرة، وكان إلى جانبه أرنبان وطائر من طيور التدرج، وفوق رأسه، على الشجرة، سنجاب مائل بجسده إليه. وكانت الحيوانات كلها تنصت إلى الولد وهو يعزف على مزماره ألحانًا حلوة.
شاهد الولد ماري فقام بهدوء، وكأنه يحاول ألا يفزع أصدقاءه، ولمعت عيناه الزرقاوان بابتسامة وادعة وقال: “أنا ديكون، جئت لكِ بأدوات الزرع والبذور. ألستِ أنتِ ماري؟”
لقاء ديكون والحديقة السرية
أدخلت ابتسامة ديكون الوداعة الاطمئنان إلى قلب ماري وأنستها خجلها. وأحست أنه إذا كانت الحيوانات والطيور تثق به، فهي تثق به أيضًا. وبعد برهة، وجدت نفسها تقول له: “هل سمعت عن الحديقة السرية؟”
أجاب ديكون: “سمعت بها، لكن لا أعرف مكانها.”
تلفتت ماري حولها لتتأكد من أن أحدًا لا يراقب، ثم قادت ديكون عبر باب الحديقة السرية. بدت الدهشة على وجه ديكون وهو ينظر حوله إلى النباتات والأشجار، وقال: “هذه كلها ستزهر، وسترين أزهارًا وورودًا في كل مكان. لن تمر أسابيع إلا وتجدين الأشجار قد أورقت.”
أخذ الاثنان معًا يزيلان الأعشاب الضارة، ويهتمان بالأشجار. أحست ماري أنها لم تقابل أحدًا في وداعة ديكون وبراءته. فقالت له، محاولَةً تقليد صوته الدافئ الحنون: “أتحبني يا ديكون؟”
ضحك ديكون وقال: “طبعًا أحبكِ! و’أبو الحن’ يحبكِ أيضًا.”
لقاء ماري مع السيد كرافن
جاءت السيدة مدلك بعد العشاء إلى ماري وقالت لها: “تعالي معي! السيد كرافن مسافر غدًا، ويريد أن يراكِ قبل سفره.”
ارتبكت ماري ارتباكًا شديدًا، وانتابها شيء من الخوف، وأحست بجسدها يتصلب. غير أن السيد كرافن لم يكن مخيفًا إطلاقًا، ولم تكن حدبته ظاهرة بشكل لافت. أما وجهه فكان لطيفًا رغم أنه بدا ناطقًا بالقلق والتعاسة. سألها إن كانت ترغب في شيء، فطلبت منه ماري أن يكون لها جزء من حديقة تزرع فيه أزهارًا.
أجابها عمها: “لكِ ما تشائين، اختاري أي قطعة من الأرض غير المستغلة بعد.”
كانت ماري تعرف أي قطعة تريد، فهي تعتبر الحديقة السرية حديقتها الخاصة!
صوت البكاء الغامض
استيقظت ماري ليلًا على صوت المطر المنهمر والرياح العاصفة. خشيت أن يجبرها الطقس العاصف على البقاء في المنزل. وبينما كانت تتقلب في فراشها، سمعت صوت الولد الباكي مرة أخرى. همست قائلة: “لا يمكن أن يكون هذا صوت الريح! لا يهمني ما تدعيه السيدة مدلك، سأذهب وأستكشف الأمر.”
حملت شمعة ومشت بهدوء عبر الممرات. رأت نورًا يتسرب من تحت باب إحدى الغرف. فتحت الباب برفق، فإذا بها أمام سرير ذي أعمدة أربعة، وفيه فتى يبكي بكاءً حادًا.
توقف الفتى فجأة عن البكاء، والتفت إلى ماري وقال لها بخوف شديد: “أأنت شبح؟”
أجابته ماري: “لا، أنا ماري لنكس، وأنت من تكون؟”
قال الولد: “أنا كولن، ابن السيد كرافن.”
فقالت ماري بسرعة: “أنت إذاً ابن عمي. ألم يقل لك أحد أنني آتية لأعيش معكم؟”
أجاب كولن: “لا، لا أحد يجرؤ على ذلك. أخشى أن يعلم أبي أنكِ رأيتني. أبي لا يسمح لأحد بأن يراني، فهو يخاف أن أصبح، حين أكبر، أحدب مثله. إنه يكرهني لأن أمي ماتت بعيد ولادتي، أما أنا فلا يفارقني المرض لذا ألزم الفراش.”
حديث ماري وكولن
سألته ماري: “ألا تترك فراشك أبدًا؟”
أجاب كولن: “نادِرًا ما أتركه. إذا خرجت من المنزل، يحدق الناس فيَّ، فيؤلمني ذلك كثيرًا.”
قالت له ماري: “ما دمتَ لا ترغب في أن يراك الناس، فهل تريدني أن أخرج من غرفتك؟”
أجاب كولن بسرعة: “لا، أرجوكِ! ابقي معي وتحدثي إليّ.”
تحدثت ماري إلى كولن طويلًا، وفهمت أنه تعيس جدًا، ويظن أنه لن يشفى أبدًا.
قال لها كولن: “الخدم جميعًا يسعون إلى إرضائي، فالغضب يزيد من مرضي. عليهم جميعًا أن يلبوا طلباتي.” ثم سألها عن سنها، فأجابت: “أنا في العاشرة من عمري، أي أننا في نفس العمر.”
استغرب كولن وقال: “وكيف عرفتِ أنني في العاشرة من عمرك؟”
أجابت ماري: “لأن الحديقة أُغلقت منذ عشر سنوات بعد ولادتك.”
فسأل كولن: “أي حديقة؟”
أجابت ماري: “حديقة يكرهها السيد كرافن، أغلق بابها ودفن المفتاح.”
سأل كولن بإصرار: “أي نوع من الحدائق هي؟”
ماري وكولن والسر
كانت ماري حريصة على ألا يعلم كولن أنها قد دخلت الحديقة السرية بالفعل، فقالت بسرعة: “لا أعرف، فلم يُسمح لأحد بالدخول إليها منذ عشر سنوات.” ثم تحدثا عن مختلف الأمور المثيرة التي قد تكون في تلك الحديقة.
قال كولن: “سأجعلهم يفتحون الباب.”
صرخت ماري: “أرجوك ألا تفعل، لنحافظ على الأمر سرًا. إذا فتحوا الباب، فلن يبقى لدينا سر. قد نجد الباب يومًا وندخل الحديقة، ويكون ذلك سرًا لنا لا يعلمه أحد غيرنا.”
قال كولن: “فكرة عظيمة! فأنا لم أعرف متعة الأسرار من قبل.”
وكان كولن قد أنهكه الحديث، فنام، وتسَللت ماري إلى غرفتها.
اكتشاف سر كولن
في اليوم التالي، أخبرت ماري خادمتها مرنا عن أصوات الولد الباكي، وعن اكتشافها سر تلك الأصوات. اضطربت مرنا واضطرابًا شديدًا، وخافت أن تفقد وظيفتها لأنها لم تستطع منع ماري من الوصول إلى سيد المنزل الصغير.
قالت لها ماري: “لا تخافي! كولن كان سعيدًا بزيارتي، ويريد أن يراني كل يوم.”
صاحت مرنا مذعورة: “ولا شك أنك سحرته!”
مرض كولن
استفسرت ماري عن مرض كولن، فأخبرتها مرنا أنه منذ ولد، لم يُسمح له بالسير على قدميه، لأن أباه كان يعتقد أن ظهره ضعيف ولا يتحمل السير. استُدعي أحد الأطباء المشهورين لعلاجه، فقال الطبيب إن العلة في خوف أهله المبالغ عليه، وإن كولن سيتعافى إذا ترك ليعيش حياة طبيعية مثل باقي الأولاد.
قالت ماري: “يظن كولن أنه لن يشفى من مرضه، ما رأيك أنت؟”
أجابت مرنا: “أمي تقول إن الأطفال الذين لا يخرجون إلى الهواء الطلق لا يعيشون.”
قالت ماري: “الهواء الطلق أفادني، أتظنين أنه يفيد كولن؟”
أجابت مرنا: “لا أعرف، فقد حملوه مرة إلى إحدى حدائق المنزل، فأصيب بنوبة هيجان قوية. كان سبب هيجانه ظنه أن البستانيين يراقبونه. بكى وصاح كثيرًا، واشتد عليه المرض طوال ليلته تلك.”
قالت ماري: “إذا غضب مني مرة فلن أقابله أبدًا.”
ديكون والحياة البرية
في زيارتها التالية لكولن، حرصت ماري على أن تحدثه عن أخبار ديكون. قالت له: “ليس لذلك الفتى مثيل في العالم كله، إنه قادر على اجتذاب حيوانات البرية. حين يعزف على مزماره، تأتي إليه الحيوانات وتجلس عنده وادعة، منصتة.”
قال كولن: “يبدو أن البرية مكان بديع، ولكن لن أراها أبدًا، فأنا مشرف على الموت.”
ماري تحفّز كولن
أحست ماري بالغضب، فقد تحدث كولن عن الموت وكأنه ينتظره. فقالت بحزم: “ومن قال لك إنك ستموت؟”
أجاب كولن: “الجميع يقولون ذلك، وأظن أن الخلاص مني سيرتاح له الجميع، حتى أبي.”
قالت ماري: “لا أصدق ذلك. وأعتقد أن الطبيب الشهير كان على حق، عليهم أن يتركوك تعيش حياة طبيعية، فتمرَح وتلعب، كما يمرح الأولاد ويلعبون. ليتك ترى ديكون! ستحب الحياة حينها.”
وأخبرته عن أسرة ديكون التي تعيش حياة سعيدة ومرضية رغم الفقر الشديد.
قضاء الوقت مع كولن
توالى هطول الأمطار لأسبوع كامل، فلم تخرج ماري إلى الحديقة. وبدلًا من ذلك، كانت تمضي أيامها مع كولن. كانا يقرآن ويتحدثان، وبدأ كولن، لأول مرة، يضحك. كان كولن يتحدث كثيرًا عن الحديقة وما يمكن أن يكون فيها. كانت ماري ترغب بشدة في إشراكه في سر الحديقة، لكنها شعرت أن الوقت لم يحن بعد لمنحه ثقتها الكاملة.
استيقظت ماري في صباح أحد الأيام بعد توقف المطر، ورأت أشعة الشمس تتسرب عبر السماء. ركضت إلى الحديقة السرية، فوجدت ديكون قد سبقها إليها.
صاح ديكون بفرح: “لم أستطع البقاء في الفراش في هذا اليوم الجميل. انظري إلى الحديقة!”
كان الدفء والمطر قد أخرجا نباتات الأرض، وانتشرت أزهار الزعفران البرتقالية والأرجوانية. أخذت ماري تنظر حولها مبهورة، وقلبها يخفق بشدة. كان “أبو الحن” منهمكًا في بناء عشه.
قال ديكون محذرًا: “لا تقتربي منه كثيرًا، إنه منشغل جدًا ولا يستلطف الزيارة أو الثرثرة.”
كولن والحديقة
مر أسبوع على زيارة ديكون. وقد أخبرته ماري بقصة كولن وترددها في إخباره بسر الحديقة.
قال ديكون: “إذا استطعنا إخراجه إلى الهواء الطلق، سينسى الحدبة التي يظن أنها ستظهر في ظهره. سنكون ثلاثتنا هنا، أولادًا عاديين صغارًا يستكشفون الربيع. سأدفع كرسيه، وسيكون ذلك أفضل من دواء الأطباء.”
عادت ماري إلى المنزل مساءً، فأخبرتها مرنا أن كولن ناقم عليها لأنها لم تزره ذلك اليوم.
أسرعت إلى غرفته، فإذا به يصرخ في وجهها: “لن أسمح لذلك الفتى بالبقاء هنا إذا كنتِ تتركيني وتذهبين إليه! أنتِ لا تحبين إلا نفسكِ، لقد تركتني وحيدًا طوال النهار!”
غضب ماري من كولن
قاطعته ماري بحدة قائلة: “وأنتَ؟ أنتَ أكثر من عرفتُ حبًا لنفسه!”
أخذ كولن ينتحب قائلاً: “أنا مشرف على الموت!”
فصاحت ماري بغضب: “ولا أصدقك! إنك لا تسعى إلا إلى استدرار الشفقة، لكن لن يشفق عليك أحد! أنت ولد معقد ومقرف!”
ومشت إلى الباب مسرعة، ثم أدارت وجهها إليه وصاحت: “كنت أنوي أن أخبرك عن ديكون وثعلبه وغرابه، لكني غيرت رأيي.” وصفت الباب خلفها بقوة.
ماري تهدأ
أخذت ماري، وهي في غرفتها، تفكر في الأيام الوحيدة التي يعيشها كولن. فهدأ غضبها وأحست بالشفقة عليه. وقالت في نفسها: “إذا أرادني أن أزوره غدًا، فسوف أفعل.”
استفاقت ماري ليلًا على ضجة في الممرات، وسمعت أصوات بكاء وصراخ. أدركت على الفور أن كولن أصيب بنوبة من نوبات هيجانه. حاولت سد أذنيها بيديها، لكنها لم تستطع تجاهل الصراخ.
قفزت من سريرها، وضربت الأرض بقدمها، وصاحت: “لا بد من إسكاته. إنه يستحق الضرب عقابًا على أنانيته! إنه يزعج كل من في المنزل!”
ركضت إلى غرفة كولن وصاحت في وجهه: “اسكت! أنا أكرهك! سيقتلك الصراخ بعد دقيقة واحدة، وليتك تموت فنرتاح منك!”
ماري تواجه كولن
كان منظر كولن مرعبًا، فقد انتفخ وجهه وأخذ جسده ينتفض ونَفَسه يتقطع. لكن ماري كانت غاضبة ومنفعلة لدرجة أنها لم تأبه بما يحدث، وانفجرت صارخة: “إذا صرخت سأصرخ أكثر منك!”
قال كولن بصوت متقطع: “لن أكف عن الصراخ، فقد برزت في ظهري حدبة!”
قاطعته ماري قائلة: “استدر وأرني ظهرك.” نظرت بتفحص إلى ظهره البائس النحيل، وقالت: “لا أرى حدبة، ولا حتى بحجم رأس الدبوس. إياك أن تتحدث عن الحدبة مرة أخرى!”
هدأ نحيب كولن شيئًا فشيئًا، وجلست ماري إلى جانبه تواسيه حتى نام.
خطة إخراج كولن إلى الحديقة
في الصباح، خرجت ماري إلى الحديقة، فوجدت ديكون هناك يلعب مع سنجابيه المرحين. أخبرته بما حدث لكولن في الليلة الماضية.
قال ديكون: “مسكين! علينا أن نخرجه إلى الحديقة.”
قالت ماري: “علينا أن نفعل ذلك، ولو استعملنا القوة!”
ضحك ديكون كثيرًا وقال: “أمي تقول إن الضحك يسعد الأصحاء ويساعد في شفاء المرضى.”
عندما زارت ماري كولن ذلك المساء، حدثته عما فعله ديكون وسنجاباه المرحان، فضحك الولدان طويلًا وقضيا وقتًا لطيفًا. وكان مما قاله كولن: “آسف لأني قلت إنني لن أسمح لديكون بالبقاء هنا، لم أعنِ ما قلت، إنه ولد رائع!”
ابتسمت ماري وقالت: “يسرني أنك قلت ذلك، فإن ديكون قادم لزيارتك ومعه حيواناته.”
أبدى كولن ترحيبًا حارًا، وطغت عليه سعادة مفاجئة. رأت ماري أن الوقت قد حان لتخبره بسر الحديقة السرية. قالت له: “لدي لك مفاجأة سارّة أيضًا، لقد وجدت مفتاح باب الحديقة السرية!”
غمر الفرح وجه كولن وصاح مبتهجًا: “ما رأيك أن نذهب ونستكشف ما فيها؟”
زيارة الحديقة السرية
صمتت ماري للحظة ثم استجمعت شجاعتها وأخبرته الحقيقة. قالت: “سبق لي أن دخلت الحديقة، ولهذا كنت قادرة على أن أخبرك الكثير عنها. لم أجرؤ على كشف سري لك قبل أن أتأكد أنك لن تبوح به لأحد.”
أخبر كولن مربيته خلال الفطور أن أحد الأولاد سيأتي لزيارته ومعه عدد من حيواناته، وأن عليها أن تقوده وحيواناته إليه فور وصولهم.
سرعان ما سمعت ماري صوت ثغاء حمل، فصاحت مبتهجة: “إنه حمل ديكون! هذا ديكون وحيواناته!”
دخل ديكون الغرفة مبتسمًا، يرفع حمله بين يديه. وكان ثعلبه الأحمر الصغير يقفز بمرح، بينما جلس أحد سنجابيه على كتفه، والغراب على الكتف الأخرى. أما السنجاب الثاني فكان يطل برأسه من جيب سترته.
حدق كولن في دهشة وذهول. اقترب ديكون برفق ووضع الحمل في حضن كولن وأعطاه قنينة ليطعم منها الحمل. انهمك الثلاثة في حديث ممتع عن البرية. وكان عند ديكون من الحكايات ما لا يعد ولا يحصى.
قال كولن: “سأستكشف الحديقة السرية كلها شبرًا شبرًا!”
فأسرعت ماري تقول: “لا تضيع وقتًا، هيا بنا!”
وُضع كولن في كرسيه، وقام ديكون بدفع الكرسي. وأخذت ماري تتحدث عن الأماكن التي يمرون بها. قالت: “هنا قابلت البستاني بن، وهنا رأيت طائر ‘أبو الحن’.” ثم قالت، وقد لمعت عيناها هامسة: “وهنا الحديقة!”
كولن يزور الحديقة السرية
فتحت ماري باب الحديقة، وأسرع ديكون يدفع كرسي كولن أمامه. راح الفتى العليل يجيل النظر في الأشياء التي كانت ماري قد وصفتها له، وتأملها طويلًا، ثم صاح مبتهجًا: “سأتعافى! سأعيش إلى الأبد!”
في ذلك اليوم، بدأ كولن حياة جديدة.
قال ديكون: “ما أروع هذا اليوم!”
وقالت ماري: “نعم، ما أروعه!”
قال كولن: “أتمنى ألا ينتهي هذا اليوم! أشعر أن هذا الجمال قد خلق لي وحدي. سأزور هذا المكان كل يوم وأستمتع به طوال حياتي.”
قال ديكون: “ونحن سنأتي معك. وعما قريب سنجعلك تشاركنا في العمل في الأرض والتنزه في البرية سيرًا على الأقدام.”
المواجهة مع البستاني
فجأة، أطّل البستاني بن من فوق السور وخاطب ماري بغضب: “ما الذي تفعلينه هنا؟” ثم رأى كولن، ففغر فمه في ذهول.
سأله كولن: “أتعرف من أنا؟”
أجاب بن: “نعم، أنت الولد الكسيح المسكين.”
رفع كولن رأسه وصاح بغضب: “أنا لست كسيحًا! سأريك أني لست كسيحًا!”
انتفض ليخلص نفسه من الكرسي، وساعده ديكون، فوقف كولن في الحديقة منتصبًا بقامته المديدة، وصاح: “أنظر الآن، أتراني كسيحًا؟!”
أحس بن بسعادة عارمة، وراحت الدموع تتساقط من عينيه، وقال بتأثر: “الحمد لله! حياك الله يا بني!”
ظل كولن واقفًا، وأحس فجأة أن الخوف قد زال عنه إلى الأبد، فصاح: “لم أعد خائفًا! لقد مسني سحر الحديقة السرية! إن سحرها الذي مس النباتات قد مسني هذه المرة!”
كولن يستعيد ثقته
بدا كولن في ذلك المساء صامتًا، لكنه أخيرًا قال لماري: “لن أكون فتى مسكينًا بعد اليوم. إذا آمنت أني سأكون معافى وقويًا، فسأتعافى.”
دعا كولن في اليوم التالي كلا من ماري وديكون، وقال لهما: “سأريكما أن السحر قد فعل فعله.”
أخذ كولن يخطو ببطء خطوات قليلة ثم يتوقف، ثم يعاود الخطو حتى دار حول الحديقة كلها. طفح وجهه بالفرح وقال: “لا شك أن هذا سر من أعظم الأسرار. حين أتمكن من المشي كما يمشي الأولاد والجري كما يجرون، سأدخل مكتب أبي وأقول له: ها أنا، يا أبي، معافى وقوي!”
غير أن إخفاء هذا السر لم يكن أمرًا هيّنًا، فقد كان سحر الحديقة السرية يحول كولن إلى فتى بعينين براقتين ووجنتين موردتين. وكان كولن وماري يمارسان كل يوم التمارين والألعاب، فامتلأ جسداهما وتحسنت صحتهما. وزال عن ماري ما كان في شخصيتها من نكد وتعاسة، وما كان في نظرتها من تكبر وجفاء، فأصبحت فتاة رقيقة ساحرة.
تحول كولن
وزال عن كولن كل مظهر من مظاهر المرض، وأصاب هذا التغيير أهل المنزل جميعًا بالدهشة.
كان كولن في أحد الأيام يحفر في الأرض، فتوقف فجأة، وقد أحس أنه إنسان جديد، وصاح مخاطبًا رفيقيه: “انظرا إليّ! أنا بخير! أنا بخير حقًا! أريد أن أهتف فرحًا! سأعيش، سأعيش إلى الأبد!”
السيد كرافن وسحر الحديقة
بينما كان سحر الحديقة السرية يفعل فعله، كان السيد كرافن يجول في أماكن نائية. فمنذ عشر سنوات، كان يحاول الهرب من أحزانه ويرفض أن يسري عنه أحد أو حتى أن يحاول ذلك. في أحد الأيام، كان يتجول في بقعة ساحرة من ريف النمسا، ورأى ساقية وادعة فجلس عندها.
فجأة، بدأ يشعر أن شيئًا من وداعتها وهدوئها يتسلل إلى عقله وجسده. أحس منذ تلك اللحظة أن السعادة بدأت تعود إليه وأن جسده أخذ يشتد ويقوى.
في إحدى الليالي، رأى في نومه حديقة زوجته بوضوح شديد، فقرر العودة إلى منزله فورًا. وما إن وصل المنزل حتى توجه إلى الحديقة.
عودة السيد كرافن
مشى إلى الحديقة بخطوات ثقيلة، فقد عادت إليه كل ذكرياته الحزينة. وبينما كان واقفًا أمام باب الحديقة السرية، يفكر في طريقة يجد بها المفتاح، سمع أصوات ضحكات تأتيه من الداخل.
فجأة، انفتح الباب بقوة، واندفع منه فتى طويل وسيم. وقف السيد كرافن مذهولًا، لا يصدق ما يرى، وقد عقدت المفاجأة لسانه.
التقط كولن أنفاسه، ووقف أمام أبيه ساكنًا لبُرْهَة، ثم قال: “أبي، أنا كولن! شيء لا يُصدّق، لكنها الحقيقة.”
كولن يكشف سر الحديقة
ثم قاد كولن أباه إلى الحديقة، وأخبره كيف فعلت الطبيعة فعلها، فجعلت كل شيء في الحديقة ينمو ويزدهر، وأعادت إليه قوته وعافيته.
لم يكن السيد كرافن قد سمع في حياته كلها قصة أروع من تلك القصة. جلس إلى جانب كولن وماري وديكون والحيوانات، يستمع إلى أخبارهم ويضحك كما لم يضحك منذ سنين. وكان شديد الفخر والاعتزاز بابنه الوسيم المعافى.
نهاية السر
قال كولن أخيرًا: “لا حاجة لأن يظل أمر الحديقة سرًا بعد اليوم، ولن أحتاج للكرسي أبدًا. سأمشي معك وأرافقك يا أبي!”
وقفوا جميعًا، ومشى السيد كرافن إلى منزله عبر المرج، وإلى جانبه مشى ابنه القوي المنتصب القامة.